الدانمرك ورهاب الآخر: سرديات «النموذج النوردي»

حجم الخط
13

ليست الواقعة «تاريخية» تماماً، كما شاءت منابر كثيرة توصيف محاكمة إنغر ستويبرغ وزيرة الهجرة والاندماج الدانمركية السابقة بتهمة الإخلال المتعمد بالمسؤوليات المناطة بمنصبها، وانتهاك بنود صريحة في الاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان؛ والحكم عليها، استطراداً، بالسجن 60 يوماً، مع وقف التنفيذ تلقائياً بالنظر إلى أنّ عقوبة السجن التي تقلّ عن ستة أشهر غير قابلة للتنفيذ. وكانت ستويبرغ قد أصدرت أوامر إدارية وقانونية، سهرت شخصياً على حسن تنفيذها، قضت بفصل طالبي اللجوء المتزوجين إذا كان عمر أحدهما يقلّ عن 18 سنة، من دون دراسة الظروف الملموسة لكلّ عائلة، خاصة في حال وجود أطفال. وتلك قرارات أسفرت عن فصل 23 عائلة منذ العام 2016 حين كانت ستويبرغ على رأس الوزارة ضمن ائتلاف أقلية حاكمة من يمين الوسط، مدعومة من «حزب الشعب» اليميني المناهض للهجرة.
ليست الواقعة «تاريخية» لأنّ فضيحة كبرى وقعت في سنة 1993، استحقت تسمية «تاميل غيت» وكان بطلها وزير العدل اليميني المحافظ الأسبق إريك نين – هانسن، انطوت على التجميد غير القانوني لتوحيد الأسرة لدى عدد من طالبي اللجوء التاميل، في سنتَي 1987 و1988. المحكمة الخاصة التي حاكمت ستويبرغ، المؤلفة من 26 قاضية وقاضٍ ويُوكل إليها النظر في مقاضاة الوزراء في قضايا الإهمال أو سوء التصرّف، كانت هي ذاتها التي حكمت على نين – هانسن بالسجن أربعة أشهر. قبلها ثمة واقعة تعود إلى عام 1910، لا علاقة لها بالهجرة والمهاجرين هذه المرّة لأنها أدانت وزير العدل يومذاك، بيتر أدلر ألبرتي، بتهمة التصرّف في 900 مليون كرون سُرقت من مصرف التوفير الزراعي. وفي سجلّ المحكمة الخاصة هذه، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1849 بموجب الدستور الدانمركي، ثلاث حالات تبرئة من أصل ستّ قضايا؛ ولعلّ التفصيل الوحيد الذي يمكن أن يستحقّ الصفة «التاريخية» في محاكمة ستويبرغ هو أنّ التصويت جاء لصالح الإدانة بمعدّل ساحق: 25 إلى 1!
والحال أنّ المشكلات التي تنجم عن احتكاك اللاجئين بالبنيات الاجتماعية والقانونية والمعيشية والثقافية والنفسية في البلدان المضيفة، والتي يحدث أن تتناقض أو تتعارض مع نظائرها في البلدان الأمّ، ليست جديدة ولا طارئة أو مفاجئة؛ حتى إذا كانت قد تفاقمت أكثر من ذي قبل مع صعود خطابات التبشير الإسلاموية المتزمتة وطرائق التجنيد الجهادي والإرهابي. وتلك مشكلات لا غنى عنها، في مستوى آخر من النظر إلى جدل اشتغالها وتفاعلها بين المضيف واللاجئ، وأنساق علاجها تمرّ من بوّابات شتى ذات صلة بحُسْن تنظيم الاندماج؛ إلا أنّ أياً منها لن ينتهي إلا إلى نتائج معاكسة إذا انتهك القوانين والحرّيات وحقوق الإنسان، وانتهج النسبوية الثقافية التي يصعب أن تتفادى مزالق التفوّق العرقي والديني والثقافي. وما سُمّي بـ»الاستثناء النوردي»، نسبة إلى تجارب الدول الاسكندنافية في استقبال الآخر أو إكراهه، سقطت أركانه التأسيسية تباعاً إلى درجة بات الباحثون الإسكندنافيون أنفسهم يعتبرونها «سلوكيات ما بعد كولونيالية»؛ رغم أنّ سجلات الدانمرك والسويد والنروج، إذا شاء المرء استثناء فنلندا وآيسلندا من اللائحة، تخلو من التاريخ الاستعماري المباشر.
بهذا المعنى لم يكن غريباً أن تصدر قوانين ستويبرغ عن شخصية اتصفت بالتشدّد ضدّ المهاجرين، وأصدرت سلسلة إجراءات ذات محتوى تنكيلي وزجري صريح؛ كان أشهرها «قانون المجوهرات» الذي يمنح موظفي دوائر الهجرة الحقّ في مصادرة ما يملك طالب اللجوء من حليّ وأموال، وذلك للمساهمة في تغطية نفقات إقامته، ويُترك للموظف المعنيّ حرّية تقدير ما إذا كانت هذه القطعة أو تلك (مثل خاتم الزواج أو الخطوبة) ذات قيمة «معنوية» تسمح باستثنائها من المصادرة. وبين أعوام 2015 و2019 كانت ستويبرغ وراء 110 تعديلات قانونية وإدارية استهدفت التضييق على طالبي اللجوء واللاجئين وتقييد ما أمكن من فرص حصولهم على الإقامة؛ وكان بالغ الدلالة ذلك المشهد، الهابط المبتذل كما يتوجب القول، الذي شهد سعادتها بإصدار القرار الـ50 عن طريق تنظيم حفل احتفائي وقَطْع قالب كاتو!

تستوي أحزاب اليمين والوسط واليسار، والائتلاف الراهن الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي أصدر القوانين الأكثر تشدداً على نطاق الديمقراطيات الغربية وتابع تنفيذ الغالبية الساحقة من توجهات الائتلاف اليميني السابق

ولم يكن عجيباً أنّ ستويبرغ، في التعليق على قرار المحكمة بإدانتها وسجنها، لجأت إلى كليشيهات التنميط العتيقة المستهلكة ذاتها، التي تتقنّع بحكاية «القِيَم الحضارية» والحرص على حقوق الإنسان ورفض «إكراه» المرأة بصفة خاصة: «أعتقد أنني لم أكن الوحيدة التي خسرت اليوم، بل كانت القِيَم الدانمركية هي التي خسرت»؛ وكذلك: «لو تعيّن عليّ أن أعيش مع حقيقة أنني لم أكفل الحماية لهؤلاء الفتيات، لكان هذا أسوأ فعلياً من هذا الحكم». ولكي تكون الحال أكثر وضوحاً لجهة الاشتمال على العناصر الأخرى المكمِّلة، تجدر الإشارة إلى أنّ الوزيرة السابقة لم تكن تصدح، بقراراتها ومواقفها وقناعاتها، خارج السرب الأعرض الحزبي والبرلماني والإعلامي؛ وتستوي في هذا أحزاب اليمين والوسط واليسار، والائتلاف الراهن الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي أصدر القوانين الأكثر تشدداً على نطاق الديمقراطيات الغربية، وتابع تنفيذ الغالبية الساحقة من توجهات الائتلاف اليميني السابق الذي هزمته صناديق الاقتراع.
وعلى سبيل المثال الأوّل، تزمع الحكومة ترحيل نحو 500 من اللاجئين السوريين، بعد أن كان 254 على الأقٌلّ من هؤلاء قد فقدوا وضعية اللاجئ، وهم إما في وضعية الاستئناف أو الإشعار بالترحيل؛ وكلّ هذا استناداً إلى تقرير «مكتب دعم اللجوء الأوروبي» التابع للاتحاد الأوروبي، والذي اعتبر أنّ منطقة «دمشق الكبرى» في سوريا آمنة ويمكن للاجئين العودة إليها. غير أنّ التقرير ذاته، رغم خلاصاته القاصرة واستنتاجاته السقيمة، يقرّ بأنّ العائدين القلائل تعرضوا للاعتقال والتنكيل والابتزاز! المثال الثاني أنّ حكومة «اليسار» الراهنة قد عقدت صفقة خبيثة مع اليمين والتيارات الشعبية في البرلمان تخوّل الجهات الحكومية المختصة بإقامة معسكرات إقامة جبرية خارج حدود أوروبا، تُلزم طالب اللجوء بالإقامة فيها ريثما يصدر قرار قبول طلبه أو رفضه.
وأمّا المثال الثالث، الفاضح والكلاسيكي الذي يحاكي نموذج غوانتانامو الأمريكي، فهو جزيرة لندهولم غير المأهولة التي سوف تحوّلها سلطات السجون الدانمركية إلى معسكر اعتقال هائل، بمساحة سبعة هكتارات، يُنقل إليها طالبو اللجوء الذين لم يحصلوا على الإقامة ولكنّ قرارات ترحيلهم لم يتمّ البتّ فيها نهائياً، بالإضافة إلى أولئك الذين رُفضت طلباتهم. وليس مدهشاً أنّ الجزيرة كانت تابعة للجامعة التكنولوجية، ومخصصة لإجراء التجارب البيطرية على الماشية والخنازير، وكانت الطوّافة التي تنقل الباحثين إلى الجزيرة تُدعى، من باب التندّر الصائب: الفيروس!
وإلى جانب النظائر العديدة التي تجعل التجربة الدانمركية حول الهجرة، وبالأحرى الكثير من السمات الانفرادية للحصيلة النوردية إجمالاً، ثمة هذه الخصوصية الكبرى والأبرز أغلب الظنّ: أنّ أمثولة «دولة الرفاه»، بصرف النظر عن حقائقها أو خرافاتها، تفرز سرديات شتى حول طرائق استقبال الآخر، لجهة دمجه في المجتمع عن طريق التهجين والتدجين، أو عن طريق القسر والإخضاع؛ في مقابل امتيازات ابن البلد الأصلي، لجهة انتمائه إلى المنظومة أو تمرّده عليها، وما يحاصصه فيها «الآخر» و»الغريب» و»الدخيل» و… طالب اللجوء. والنظام في الدانمرك ديمقراطي بالطبع، وغربيّ، وأطلسي، ومتمسك بسلسلة «القِيَم» ذاتها التي أفرزت في فرنسا نموذجها الأقصى في شخص إريك زيمور، أو نموذجها الأقلّ حدّة وعنصرية ورهاباً من الأجانب في الدانمرك عند إنغر ستويبرغ. ولا بأس، بالطبع، أن تختلف السرديات أو أن تتقاطع، بين حين وآخر؛ ما دام المستمع/ المستهلك/ الناخب متماثلاً، متقارب النزوعات.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي - ايطاليا:

    سيد صبحي، لا أحد ينكر النظرة الفوقية للأوروبيين إلى غير الأوروبيين وخاصة العرب والمسلمين، ولكن السوال هي لماذا نظرتهم الينا هكذا ؟ هل العرب والمسلمون يكنون الاحترام لانفسهم ويساعدون بعضهم بعض؟ طبعا لا، لذلك ، حينما يرى الآخرون كيف نبغض بعضنا يستقون علينا.

    هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى نحن لا نريد الاندماج واحترام قوانين البلد وانما نريد تحويل البلد يحلوا لنا.
    عشت في فرنسا ( باريس ) واعيش في ايطاليا ( عدة مدن ) منذ فترة طويلة، لاحظت دائما بأن المناطق التي يتكاثر بها الاجانب وخاصة العرب تكون دائما الاوساخ منتشرة في كل مكان.

    قبل الطلب من الاخرين احترامنا، يجب أن نحترم انفسنا في بلداننا وكون مساحة الدول العربية اضعاف مساحة اوروبا يجب أن تأوينا .

    1. يقول ميس الريم - لبنان:

      معك حق في جل ما تقوله أستاذ علي ، وكلامك هذا يتفق إلى حد كبير مع كلام الأستاذة لوسي دياب ، وأيضا يتفق بشكل غير مباشر مع كلام الأستاذة ستينا سيبيرغ – يعني ذلك أن هناك خللا عميقا في طرح الأستاذ صبحي حديدي ويعني أنه يجب علينا النظر مليا إلى أنفسنا قبل أن نضع اللائمة على الآخرين وخاصة الأجانب

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية