لعل أجمل هدية تستطيع تقديمها لبعض الناس -وأنا منهم- هي الكتاب الجيد. وهكذا ما زلت أتذكر أن الأديب الأردني جمال أبو حمدان أهداني منذ أعوام طويلة كتاب «الأمير الصغير» لأنطوان دي سانت اكزوبري، وأن الأديب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي أهداني كتاب «مائة عام من العزلة»، وأن نزار قباني أهداني مذكرات شاعر التشيلي بابلو نيرودا «أشهد أنني قد عشت»، كما أهداني الشاعر اللبناني بول شاوول ترجمته لمختارات من قصائد نيرودا.
هذه كتب من النمط الذي تحب قراءته أكثر من مرة.. لذا ستكون لحظة حريتي اليوم في معظمها وقفة مع مختارات للشاعر بابلو نيرودا، ترجمة بول شاوول. فقد تعبت وتعب بعض القراء مثلي من أخبار وباء كوفيد 19 «وحفيده»Omicron ، ومن التلقيح الإرغامي أو الحُر، وإمكانية انفجار «الحرب الأهلية في لبنان» والموت غرقاً في بحر المانش، حتى كاد يصير مقبرة للذين يحلمون بحياة أفضل في بلد أوروبي.. ويهاجرون سراً في القوارب.
بعد ذلك كله، لجأت اليوم إلى الشعر، وإلى كتاب قصائد مختارة- ترجمة وتقديم الشاعر الكبير اللبناني بول شاوول – الصادر عن دار النهضة العربية- بيروت. وأظن أن الكثير من القراء بحاجة إلى إجازة من جنون أيامنا الحالية إلى دنيا الشعر الشعر الحقيقي.. ولا أظنها مصادفة أن يهديني نزار قباني مذكرات نيرودا، ويهديني بول شاوول ترجمته لمختارات من قصائده.. وها أنا ببساطة ألجأ إلى الشعر.
الشعر والنجاة من (الأيديولوجيا)
يكتب نيرودا في قصيدة حب:
بعد كل شيء، أريد أن أحبك
كما كان دائماً قبل
كأنما من كثرة الانتظار
من دون أن أراك
من دون أن تميلي
كنت باستمرار
تتنقلين هنا قربي
قربي بعاداتك، بلونك، بغيتارك
حيث يحاذي نهر نهراً آخر
حيث يكبر بركانان معاً
والقمر بلون الفخار
وفي الليل عندما تزلزل الأرض
تجتمع كل الجذور، والمعادن تلمع
بين كأسين للنفس.
يا حبي، يا شعاعاً مجنوناً
لا يكتب نيرودا قصائد في الأيديولوجيا إلا على نحو غير مباشر أحياناً، ويصرخ حباً:
يا حبي، يا شعاعاً مجنوناً
آه تهديد الأرجوان، تأتين لرؤيتي
متسلقة سلمك النضير
إلى القصر الذي توّجه الزمن بالغيوم
يا قلبي المسجون في جدرانه الصفر
لهذا يا حبيبتي، فمك، جلدك
ضوؤك وأحزانك هي الإرث.
بول شاوول يتساءل
في تقديمه لمختاراته لترجمة نيرودا، يقول شاوول: «نيرودا التزم الفكر الماركسي أو الشيوعي كمناضل وكحزبي حتى آخر أيامه، هل هو تناقض؟ إنه غموض شفاف، غموض يضيء الداخل».. نيرودا التشيلي شاعر كبير وحالم كبير وتراجيدي كبير، «استخلص في شعره عصارة قارة كاملة بكل تواريخها وأساطيرها وأحلامها وأفكارها ونضالاتها وديكتاتوريتها وسجونها ومنافيها، شاعر القارة، بل هو الشاعر القارة!
بين محمود درويش ونيرودا!
لسبب ما، يذكرني نيرودا بالشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، عرفني عليه الشاعر أدونيس حيث جلسنا في مقهى على شاطئ البحر في بيروت، وكنت حاملاً بابني، وشعرت بأن لمحمود درويش شخصيته المستقلة جداً.. وتذكرت قصيدته: «بين ريتا وعيوني بندقية».. لقد استطاع ذلك الشاعر الكبير تلخيص المأساة على طريقته، وحين تزوج من إحدى قريباتي الشاميات، وكنا نزوره مع صديقتي الغالية اللامنسية بلقيس الراوي زوجة نزار القباني، كنت أعرف أن هذا الزواج لمحمود مع قريبتي الجميلة الصغيرة سناً المتعلمة الراقية، لن يدوم.. كانت تريد أولاداً ولم يكن محمود يريد ذلك، كأن قصائده كانت أولاده وأجداده في آن، ويذكرني قول بول شاوول في تقديمه لقصائد نيرودا بمحمود درويش، وبالذات قوله إنه لم يتخلّ عن الغنائية.
ويضيف بول شاوول عن نيرودا: ليس شاعراً شعبياً بالمفهوم الاستهلاكي أو السياسي أو الآني، وهذا ينسحب على الشاعر الكبير محمود درويش. كنا حين نلتقي للعشاء معاً في مطعم «ماندارين» (شارع فردان-بيروت) ويجد ابني (وكان طفلاً) من يد الله، وهو محمود، ولكنني كنت أعرف أن درويش لا يريد طفلاً له. كان عاشقاً عابراً في دنيا الطفولة، والزواج والارتباط يغيران الشعر! الشعراء الكبار مثل نيرودا ومحمود درويش وسواهما يخدمون الإبداع.
لو كان غسان كنفاني حياً
إذا كان محمود درويش شاعر فلسطين الكبير، فغسان كنفاني روائيّها الكبير. أفكر أحياناً لو كان المبدع غسان كنفاني الروائي حياً، ما الذي كان سيكتبه هذه الأيام؟ ماذا لو شاهد الكاريكاتور الرائع المنشور في جريدة «القدس العربي» (29-11-21) بريشة أمية جحا، ويمثل رجلاً هو «الشعب الفلسطيني» مطعوناً بست سكاكين (سكاكين التطبيع).. (والكاريكاتور الناجح يعادل مقالاً مطولاً، ولكن باختزال)، ولو كان كنفاني حياً ما الذي كان سيكتبه حول ما يدور؟ هل كان سيصرخ: لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟ إننا نختنق ونقرع جدران الخزان يا غسان، وهم يسمعون ذلك، لكن اللامبالاة بحقوق الشعب الفلسطيني تكاد تتسع.
حمى الله فلسطين وشعبها من هول ما يدور، وعبر عنه الكاريكاتور.. ثمة مبدعون لا يحق لهم الموت من أمثال غسان كنفاني، لكن إسرائيل كانت تعرف ذلك، ولذلك بالذات اغتالته.
لكنها لن تنجح في اغتيال ذلك المطعون بالسكاكين في كاريكاتور أمية جحا. كان غسان يقيم في ضاحية بيروتية في الحازمية، وطالما حاولت صديقتنا المشتركة تنبيهه إلى خطر مكان إقامته وسهولة اغتياله، وهو الذي لا حرّاس له ولا يحمل سلاحاً. كمنّا له مرة في طريقه إلى بيته ليعرف كم من السهل اغتياله، كما فعلنا ذلك ثانية في موقف سيارته وهو الذي يعود ليلاً ولا يحمل سلاحاً، مما سهّل على إسرائيل اغتياله.. هل كان غسان كنفاني يدري أن حياته ليست ملكاً له، بل لفلسطين لأنه صاحب سلاح هو الأبجدية؟
وما الذي سيكتبه هذه الأيام، وبالذات لو شاهد كاريكاتور «أمية جحا» في جريدة «القدس العربي»؟ نفتقد غسان، وفي الأيام المظلمة يفتقد البدر.
تحية للسيدة غادة وللجميع
خير جليس في الزمان كتابا كما قال المتنبي واغلب الكتب ان لم يكن جميعها فيها من المتعة والفائدة الكثير ولكن اهم شيء في الكتاب هو ما يحمله من ذوق فني وفائدة فكرية تنمي شخصية القاريء وتجعله انسانا سويا محبا لالاخرين
طاب يومكم لك أختي غادة السمان وللجميع. كم نحن محظوظين سيدتي الكريمة بقراءة هذه الذكريات والتجارب التي تحدثيننا عنها. ربما كانت واحدة من أمنياتي أن أعرف بيروت في ذلك الزمن الذهبي. حيث لم أعاصر إلا حربها الأهلية. كنت دائمًا مثل غسان كنفاني رحمه أحب الحرية بأبسط معانيها واكتشفت منذ فترة كيف أننا ملاحقون من الأشرار بشكل لايتصوره الإنسان, ولهدف واحد هو منح الحق والشرعية على إحتلال فلسطين ومنح الإحتلال الصهيوني الحق المطلق لإحتلال فلسطين وطمس كل جرائمه وبكل الوسائل المتاحة وبما فيها الإرهاب الفكري, وتجريم أصحاب الحق أو المدافعين معهم عن هذا الحق, هذا باختصار. حماك وحمى الله فلسطين وأهلها سيدتي من هؤلاء الأشرار. مع خالص محبتي وتحياتي للجميع.
رحمه الله!