جرش- ليث الجنيدي: “حافظ على البيئة تُحافظ عليك”، مقولة يرددها الكثيرون، يتفقون في مضمونها، لكنهم يختلفون في آلية التطبيق؛ إذ يختار كل إنسان طريقته الخاصة بنهج يتّسق مع قيمه ومبادئه.
الأردني “غسان عياصرة” (55 عاما)، قرر ألا يتوقف عند حد النظافة لطبيعة منطقته الخلابة، في قرية “ساكب” التابعة لمحافظة جرش، شمالي المملكة، بل تجاوز كل القواعد، عندما اختار أن يحول كل المخلّفات الصلبة إلى مناظر جمالية، بتشكيل متقن.
“أنا مثل النسور أعشق المكان المرتفع”، فمكان عمله في كوخ مُطلّ على سهول منطقته وجبالها ووديانها، خلف منزله، يجد عياصرة فيه خلوته، ليستمد من سحر المنظر أفكارا يعزز من خلالها فنّا ابتكره منذ عام 1986، إذ بات يُعرف بـ”الفنان التشكيلي البيئي”.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، اعتاد الخمسيني الأردني الخروج إلى الطبيعة؛ للقيام بدور أوكله لنفسه، عبر جمع النفايات الصلبة المطروحة في أرضيات بساتين الأشجار المحيطة به، ووصل الأمر إلى حد المبيت فيها لإتمام عمله.
ممسكا بمجموعة من أوراق الكتب المدرسية القديمة، التي بدأ قصها ولصقها على قطعة من الكرتون لتحويلها إلى مقلمة، يقول عياصرة: “أنا أعشق البيئة والطبيعة، وأسمع عن مخاطر التغير المناخي، وعبث الإنسان وعدم معرفته، فقلت إنني يجب أن أساعد البيئة من خلال مخلفاتها”.
ويمضي بالقول: “الطبيعة حياتي، فأنا أخرج لجمع بقايا أغصان الأشجار والنباتات الجافة والأوراق المتساقطة وبذور الفواكه والأحذية البالية وقشور البيض وعظام الحيوانات ومخلفات المدارس، وأحضرها معي إلى منزلي، كي أبدأ بتحويلها إلى تحف يستفيد منها الإنسان، بدلا من رميها والإضرار بالبيئة”.
ويستدرك: “لا أذهب إلى مكان إلا وأقوم فيه بجولة نظافة”، وهنا يقاطعه ابنه “رسام”، بالقول: “نخرج معه ويقول لنا من يجمع كيسا أكبر له جائزة، وقد تعلمت منه ذلك، وأصبحت النظافة وسواسا لنا جميعا؛ حتى أنني في بعض الأحيان أتعرض للتهكم والانتقاد عندما أكون في الجامعة وأرفض رمي القمامة على الأرض، وأقطع مسافة طويلة لرميها في سلة النفايات”.
ووسط ضحكات ملأت أرجاء المكان، يكمل غسا:ن “رسام (ابنه) وشقيقاته كانوا يشتكون لي بأنهم يأخذون أكياس بعضهم عندما تمتلئ؛ رغبة في الحصول على الجائزة التي وعدتهم بها”.
“أنا عارفة (أعلم) بقدومكم إلينا، لذلك لم أذهب إلى المدرسة اليوم لأنتظركم”، بهذه الكلمات البريئة، عبرت “لالا” ابنة العياصرة ذات الثمانية أعوام عن مشاعرها، فهي بحسب والدها أصغر طفلة بيئية، وتتقن ما يتقنه بكل احترافية وإبداع.
ويتابع: “لم أدرس الفن ولا الجامعة، وما أقوم به من تحويل مخلفات البيئة والطبيعة هو موهبة صقلتها بالمتابعة والتعلم والقراءة”.
ويستدرك: “حاولت في أوائل التسعينات أن انتسب إلى رابطة الفنانين التشكيليين، ولكنهم رفضوا ذلك، معتبرين ما أقوم به ليس فنا”.
في ذلك الوقت، بدأ تحدي إثبات الذات للعياصرة؛ إذ شرع العمل بتشكيل مجسم لقبة الصخرة من بذور الزيتون والتمر، حيث أشار بأنه استطاع إكماله في ثلاث سنوات، مستخدما نصف مليون بذرة، وما زال معروضا في المكتبة الوطنية (حكومية) منذ عام 2018.
ويوضح: “انطلقت للمشاركة الرسمية في المعارض، محليا وخارجيا، حيث كانت لي مشاركات في إيطاليا وإسبانيا وكوريا الجنوبية وقطر”.
ويلفت: “كل قطعة أشكلها تختلف عن الأخرى، وأنا لا أشكلها على أذواق الناس، بل أحاول خلق أفكار جديدة، فأنا لا أحب الاقتباس والتقليد”.
أما الأشكال، فهي تماثيل خشبية وشجيرات من أكياس البطاطس وسعف النخيل وغيرها مما يستطيع ابتكاره، مشيرا: “كل خامة تقع عيني عليها أحولها فورا إلى تحفة جميلة بلمسات خفيفة، ويختلف توقيت تشكيلها بحسب نوع الخامة المستخدمة”.
وبطريقة تُظهر اعتزازه بما يقوم به، يقول عياصرة: “زبائني كل إنسان ذوّاق”، مضيفا “أنا الآن ضمن مسار سياحي خاص بمحافظة جرش، فالسياح يأتونني من كل مكان للتعلم والاطلاع على ما أقوم به”.
ويبين “في البداية لم ألتفت لجدوى مادية لما أقوم به، ولكن في الحقيقة وبعد أن تقاعدت من عملي في وزارة الصحة كفني تنفس، وجدت بأنني أستطيع الحفاظ على البيئة وتحقيق دخل مادي أيضا، عبر بيع منتجاتي بأسعار بسيطة جدا”.
(الأناضول)