خطوط تقسيم جديدة وتعزيز للخطاب العدواني… روسيا في مواجهة الحلف الأطلسي

الحرب شرق أوكرانيا وملف المهاجرين بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي، مسألتان أساسيتان تصاعد التوتر بشأنهما بين الغرب وروسيا. وهناك مخاطر أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، تنذر بنشوب حرب بين الطرفين، في غياب الآليات الدبلوماسية التقليدية، التي أديرت بها نزاعات سابقة، ومنعت الانزلاق نحو المواجهة. ورغم الجهود الدبلوماسية المكثفة، لم يتغير أي شيء على طول الحدود الروسية الأوكرانية، وترفض الدول الغربية استبعاد توسع الناتو شرقا، فيما تصر موسكو على أنها لن تقبل انضمام كييف للحلف، وتعتبر ذلك خطا أحمر.
وجود حلف شمال الأطلسي شرق أوروبا، وفي كل من بحر البلطيق والبحر الأسود، غرضه دفاعي وليس لاستفزاز أحد. وجهة نظر الغرب الأطلسي تقابلها واقعية روسية، تؤكّد أنّ الحشود العسكرية على الحدود مع أوكرانيا قرب جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في الدونباس، تأتي في إطار تدريبات روتينية. لكن إمكانية استخدامها العاجل في حالة حدوث أي تغيير في الموقف الميداني، يبقى مؤكّدا في سيناريو مشابه لحالة إقليم أوسيتيا الجنوبية مع جورجيا.
مسارات مربكة لحلفاء أمريكا، خاصة أنّهم مقتنعون بأنّ طبيعة الحرب قد تغيرت، ولم يعد الأمر كما كان عليه في أعقاب العالم ثنائي القطب في حقبة الحرب الباردة، وعالم الهيمنة الأمريكية أحادي القطب. فالحكام السلطويون، كما يصفهم رئيس أركان الجيش البريطاني نيكولاس كارتر، مستعدون لاستخدام أي وسيلة لديهم مثل المهاجرين، أو زيادة أسعار الغاز، أو استخدام القوى التي تعمل بالوكالة، أو عمليات التسلل الإلكتروني، لتحقيق أغراضهم. وإن كان سيناريو الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا يزال نظريا لحد الآن على الأقل، فإنّه في حال تحقق، سيشكل أحد أكبر الانتكاسات للسلام في أوروبا، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو خطر يدركه الدبلوماسيون الغربيون جيّدا. وهم يواجهون عالما متعدد الأقطاب، وأكثر تعقيدا، لم تعد فيه الآليات الدبلوماسية التقليدية متاحة. قرائن كثيرة تبرهن على ضعف الغرب، يمكن لروسيا استغلالها لمصلحتها، مثل التدهور الذي طرأ على العلاقات الأمريكية الأوروبية منذ عهد ترامب، وعدم اكتراث واشنطن بغضب فرنسا من اتفاقية الدفاع الجديدة (أوكوس) التي وقعتها الولايات المتحدة مع بريطانيا وأستراليا.

سيناريو الحرب بين روسيا وأوكرانيا، في حال تحقق، سيشكل أحد أكبر الانتكاسات للسلام في أوروبا، ما بعد الحرب العالمية الثانية

توسع الناتو شرقا يعد مشكلة بالنسبة لأمن روسيا، فبعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم التي كانت جزءا من أوكرانيا، تدهورت علاقة روسيا بحلف الناتو، الذي يتّهمها بأنها وراء اندلاع الصراع شرقي أوكرانيا بين كييف والانفصاليين الموالين لموسكو، ولم تهدأ الجمهورية السوفييتية السابقة، منذ أن شهدت احتجاجات واسعة قبل 7 سنوات، عُرفت باحتجاجات الميدان الأوروبي، وأطيح على إثرها بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا، وإن كانت موسكو تبرّر ردود فعلها بأنّها تحمي مجالها الأمني الجيوستراتيجي، وتتهم الناتو بمحاولة تطويقها عسكريا، بعد نشر الدرع الصاروخية الأمريكية شرقي أوروبا، في بولندا ورومانيا، وأيضا نشر الولايات المتحدة صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في اليابان، وتوسيع البنية التحتية للحلف في دول البلطيق وبلغاريا. فإنّ الثابت أنّ أوكرانيا قد انقسمت إلى طرف موالٍ للغرب، وآخر موال لموسكو. ولن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في السابق، قبل أن ينظّم الموالون لروسيا استفتاء القرم عام 2014، ويعلنوا الانضمام إليها، وكذلك استفتاء شرق البلاد في مناطق ما يعرف بالدونباس، التي أعلنت هي الأخرى قيام جمهوريات جديدة من جانب واحد، لم تعترف بها سلطات كييف.
ويبدو أنّ تركيز الحلف على ما يراه خطرا روسيا يعطي انطباعا كأنه ليست هناك أي تهديدات إرهابية وأمنية على الحلف في مناطق أخرى. فتبعات الوجود العسكري للناتو على حدود روسيا ستكون مكلفة، وإذا رفض خصوم روسيا أو ما تسميّهم موسكو الدول متماثلة التفكير، الضمانات الأمنية بعدم توسع الحلف الأطلسي باتجاه الشرق، وحاولت هذه الدول نسف كلّ ذلك، من الحتمي أنها ستجني مزيدا من التردي للوضع الأمني. وعدم الموافقة سيكون معناه الاقتراب من مواجهة كبيرة في تقدير الكرملين، الذي يدرك جيدا محاولات إثارة الفوضى في مجاله الحيوي. وتعتبر موسكو أن الغرب انتهك وعودا، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت تقضي بعدم توسيع حدود الناتو لتشمل دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفييتية السابقة. وتنظيم ثورة ملوّنة في دولة من حلفاء روسيا وهي بيلاروس، محاولة أمريكية لم تتوج حتى الآن بالنجاح. وجهود واشنطن هي إثارة النزاعات على حدود روسيا. الحرب الأذربيجانية الأرمنية، التي نجح بوتين في تحييدها، كانت هي الأخرى تهدف إلى زعزعة الاستقرار على الحدود الروسية، وفي منطقة القوقاز، وعلى جغرافيا جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. والآن تثار الفوضى في كازاخستان. ويبدو أنّ أمريكا تدفع أوكرانيا نحو الهلاك في حال تدخلت في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، أو في جمهورية ترانسنيستريا.
قلق دولي يهدّد اهتمامات الحياة العامّة في العالم بأسره، لولب التسلّح المنفلت وانتشار الأسلحة النووية غير المضبوط، والافتقار البنيوي الذي تعاني منه البلدان النامية، وفقدان التوازنات الاجتماعية ومشاكل البطالة وتلوّث البيئة، وأزمة المناخ، كلّها تعابير أساسية تقتحم عبر وسائل الإعلام وعي الرأي العام العالمي. وكلّ ما يحدث يُفهم ضمن مسارات الهيمنة والرغبة في التطويع، بدل احترام الشعوب، وتحقيق التواصل الحضاري. مزاجية القرار وسياسة ليّ الذراع بين القوى الكبرى، وتقلّص مكاسب الوصول إلى الإمكانيات الايجابية للعولمة، جميعها مؤشرات إلى اللاوضوح الجديد الذي عبّر عنه هابرماس في نقده لأطروحات دولة ما بعد الحداثة، واعتبر أنّه ينتمي إلى وضع تفقد فيه برنامجية دولة الرخاء، التي ما زالت تتغذّى من طوبى المجتمع العمّالي، القدرة على أن تمنح فرصا مقبلة لحياة جماعية أفضل وأقلّ تعرّضا للخطر. وحقبة المنافسة الضارية التي نشهدها اليوم، تُظهر للعيان الضغط القسري لنيل المكانة الأولى، وهي الثقافة السياسية المرتبكة التي تتنافس فيما بينها بواسطة تحديداتها للواقع، حول ما سمّاه غرامشي هيمنة حضارية، ومن حاصل مضامين ثاوية اعتبر روبرت كوكس ضمن سياقاتها، أنّ كلّ السياسيين يتحرّكون إلى المركز ليتنافسوا على أساس الشخصيّة، ومن هو الأكثر قدرة على تدبير التكييف اللاّزم في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، لحفظ القدرة على المنافسة في السوق العالمية. أمّا مفهوم اقتصاد ومجتمع بديل فهو مُقصى تماما عن هذا السياق. من الأفضل تجنّب الخطاب العدواني، وعدم خلق خطوط تقسيم جديدة، أو تفريق الدول بين تلك الجيّدة حسب رأي واشنطن، والأخرى السيئة، وعلى الغرب تجنب سوء التقدير بشأن النوايا الاستراتيجية لخدمة أهداف سياسية على حساب المجتمع الدولي، الذي عليه الاختيار هو الآخر، بين التعاون والمواجهة، والتعددية والأحادية، وحشد القوة المتحالفة أو المنحازة، في شبكة أكثر تعقيداً سيكون أكثر صعوبة بكثير مما كان عليه الحال في مواجهة الاتحاد السوفييتي، فالصراع البارد في دونباس تنقله واشنطن وحليفها الأوكراني إلى مرحلة ساخنة فيما يبدو، وأي صدام عسكري مباشر بين الطرفين قد يؤدي على الأقل إلى استخدام محلي للأسلحة النووية، وهي نتيجة لن تكون في صالح أي طرف، في ظل هزات اقتصادية لعالم يعاني جائحة لم يستطع حتى الآن السيطرة عليها.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول توفيق محمد:

    فخار يكسر بعضه.

إشترك في قائمتنا البريدية