جدل الواقعي والخيالي: أي هوية سردية للسيرة الذاتية؟

شغل البحث في الاختلاف بين السيرة الذاتية والأعمال التخييلية، أو حضور عناصر تخييلية في نوع السيرة الذاتية، بـالَ المنظرين. وكانت التعاريف التي أُعطيت لهذا النوع تستند، بقوة، على التمييز بين التخييل والسيرة الذاتية بقدر ما هي تُؤكد على تطابق المؤلف والسارد والشخصية بوصفه ميزة أساسية؛ إذ إن أي سيرة ذاتية حقيقية تسعى إلى تأكيد هذا التطابق، وفي اللحظة التي يكتنف فيها الغموض العلاقة بين مفاهيم هذا التطابق الثلاثي على نحو من الأنحاء، نبتعد عن السيرة الذاتية بالمعنى الدقيق للكلمة. غير أن السيرة الذاتية المتعارف عليها، التي تتأسس جوهريا على علاقة الكتابة بالحقيقة والواقع، أخذت تنزاح إلى التخييل. فقد أصبح التخييل يقوم بدور مهم، يقل أو يزيد، داخل معمار السيرة الذاتية، كما أن الحكي التخييلي fictif أو التخييلاني autofictif لم يكف، مدعوما بتجربة التحليل النفسي، عن مساءلة الصدق والوضوح الوهمييْن في السيرة الذاتية.
وإذا لم يكن في السابق متقبلا أن يُسمى النص الذي يطغى عليه التخييل «سيرة ذاتية» إلا أنه تم الإقرار بأن السيرة الذاتية أخذت تُخْلي مكانها للتخييلات، وأن المؤلف يمكن أن يُغير في الواقع، ولا يعطي عنه إلا «صورة» بينما مشكلة الإحالة ستُحل من خلال معيار الأصالة.
لكن مأزق التخييل داخل السيرة الذاتية الأبرز هو كونه يلغّم الطابع المرجعي للنوع السيرذاتي، ويفسح المجال لبروز كتابات ذاتية تخييلية.
يعتقد بول جون إيكين، أن ثمة طريقا للخروج من هذا المأزق، ولاسيما عبر تقبل الطابع المفارق للسيرة الذاتية؛ أي أنها تشتمل على تخييلات، لكن تظل فنا مرجعيا، ويمكن للمؤلف أن يحسن استغلال تعلق القارئ الدائم بمفهوم الحقيقة الملازم للسيرة الذاتية، التي يتصورها كـ«نوع مرآوي». فالتماهي بين القارئ والمؤلف هو سببٌ كافٍ للاعتقاد بأن النوع على قيد الحياة، وأن يكون مثل هذا التماهي قائما على الوهم، فإنه لا يُغير في الأمر شيئا. وبدلا من اعتبار السيرة الذاتية كمصدر أساسي من الوقائع السيرية، فإن الكتابة السيرذاتية هي، في حد ذاتها، فعلٌ سيري رئيس عبره تتشكل اللحظة التي يجري فيها تكوين الهوية والسيرورة، وتستمر بقية الحياة، أو قل «تتشكل مواد الماضي عبر الذاكرة والمتخيل على نحو يفيد حاجيات الوعي الحاضر».
وقد شكلت السيرة الذاتية على الدوام باعتبارها الشكل الأبرز بين أشكال الكتابة الذاتية التي تسائل الأدب، بقدر ما تنفتح على مجالات العلوم الإنسانية مثل الفلسفة، والتداوليات، وعلم النص، والتحليل النفسي وغيرها.

إن سرد السيرة يبتكر أكثر من كونه يصف، وفي لحظات التذكر تُستدعى وقائع الماضي على نحو يكشف ثراءها وأصالتها، وتُستخلص الكلية حتى لحظة الكتابة كأنها تُعاش لأول مرة.

ونتيجة ذلك، تزايدت الأشكال التي تنحرف عن النموذج القاعدي السيرذاتي، حيث لا يتردد المؤلف في أن يقترض من أجناس الخطاب الأخرى الشكل الأدبي الذي يتطلبه الأنا السيرذاتي، ويناسب أفقه الكتابي ومصادره ومواد بنائه، بل يزيحه عن الواقعي لصالح المتخيل شيئا فشيئا. وهذا ما حمل نقاد السيرة الذاتية على اقتراح تعيينات جديدة لتمييزها عن السيرة الذاتية، التي جرت عليها سنن التقليد الأدبي، وفي ضوء وسائط وعلائق جديدة لم تعد تراهن على التمثيل، الذي يقوم على مبدأ تكافؤ الدليل والواقع، بل أخذت تخرق مبدأ التطابق/ التشابه بين الكتابة والواقع، وتسعف على التداخل بين العالمين الواقعي والتخييلي. ومن هنا، صار بإمكان اللغة تحويل الواقع وإزاحته، وبالتالي لا وجود لـ«الحقيقة إلا داخل النص، بما هي أثر للمعنى ونتاج التفاعل اللغوي مع مراعاة الظروف والشروط التي تؤطر عمليات التواصل.
فمن الزعم القول إن السيرة الذاتية تحكي الحقيقة التي من المستحيل بلوغها، وحتى هذا اللاتحديد متأصل في الميثاق السيرذاتي نفسه، لأن المؤلف لا يمكنه أن يقول كل الحقيقة عن نفسه بكيفية واعية، ولاسيما من منظور النظرية الفرويدية للذكرى – الشاشة؛ فالذاكرة إذ تسجل ما هو «غير متحيز» و«دال» فهي ترهن الحقيقة السيرذاتية، وبالتالي تعطي للآداب الشخصية وضعا تخييليا لا مندوحة عنه، على حد مادلين ويليت – ميشالكا.
على هذا الواقع المفترض، صارت كتابة الذات تُستعمل للدلالة على الخطاب المتداعي بين السيرة الذاتية والعمل التخييلي، وهو خطاب يتوسع باستمرار بين قطبين: بين سيرةٍ ذاتيةٍ لا تريد التصريح باسمها، وتخييلٍ لا يريد أن يتحرر من مُؤلفِه، وهو ما تغنمه مجموعة الأخلاط الممكنة، التي تقع بين علامات السيرة الذاتية وممارسات الخطاب التخييلي.
تخص الكتابة السيرذاتية جميع محكيات الحياة، ويمكن أن تتعلق بحياة شخص واقعي (مؤلف مثلا) أو بحياة شخصية خيالية، وأصبح ممكنا في هذا المنظور أن نتحدث عن الأنا، الذي يكتب ليس بصفته الأنا الذي يقدم نفسه للوجود، وبالتالي يحتجب أي اختلاف بين الذي يكتب والذات التي تتمظهر في الكتابة، بوصفها وسيطا تخييليا لتحقيق المفارقة بين ذات «المرجع الواقعي» وذات «الموضوع المحكي»؛ أي بين ذات المؤلف، كما هي في الواقع وذاته المتأملة في التخييل. من هنا، تتخلى الذات عن مرجعيتها الواقعية، وعن وضعها المرجعي، إلى حد أن يصبح المرجع نفسه إشكالية داخل النص حين تتجاوزه الذات، وكأن أنا المؤلف يريد أن يثبت أن حياته شيئا آخر غير الذي عاشه، وذلك بِمجرد أن ينقل محكيه الذاتي – التخييلي إلى فضاء الكتابة.

أي هوية سردية؟

يتجاوب هذا النزوع التخييلي للسيرة مع بنى هويتها السردية التي تسعى على الدوام إلى شكل ما من التكامل السردي الذي يعطي لمفاهيم الحياة المعيشية وأحداثها معانيَ لم تكن تمتلكها وقت حدوثها، وتعطي لطريقة سردها طابعا أكثر اتساقا وانسجاما، حتى إن كانت في جزء كبير منها متشذرة ومُفككة. إن سرد السيرة يبتكر أكثر من كونه يصف، وفي لحظات التذكر تُستدعى وقائع الماضي على نحو يكشف ثراءها وأصالتها، وتُستخلص الكلية حتى لحظة الكتابة كأنها تُعاش لأول مرة.
تطابق المؤلف والسارد والشخصية من جهة، والقيام بالحكي كتخييل من جهة أخرى. فاستعمال اسم العلم من قبل المؤلف لا يسمح بتحديد هوية حضوره في النص وحسب، بل بالتفكير في اكتشاف هُويته. أي أن مسألة توظيف اسم العلم هي حاسمة، وحضوره الأساسي يجعل من تعيين النوع أمرا ثانويا. وبالنتيجة، إذا كان المؤلف يتفكه مع اسمه، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القارئ. وكما قال فيليب لوجون: «في إنجاز الكتابة، يقيم السارد نمطين من المسافة: فهو يقف في مواجهة ماضيه وفي مواجهة كتابته على حد سواء».
يفترض هذا الموقف – نصيا- المقابلة بين صورتين: صورة السارد (الراشد) الذي يُواجه نظرة الشخصية (الطفل) من خلال صيغتين رئيسيتين: تحديد الهوية أو الابتعاد. يشير تحديد الهوية إلى استمرار «جسر» عاطفي بين الطفولة وسن الرشد، الجسر الذي يسمح للسارد، رغم المسافة الزمنية، بأن يسترد الحياة بالكثافة نفسها والمشاعر، التي ما زال يُحس بها. أما الصدق الذي يستتبعه الميثاق، فإنه يجعل أي سمة بلاغية مفرطة أمرا مشتبها فيه: يبحث سارد السيرة الذاتية في الغالب عن خلق انطباع بما هو «طبيعي» وبغياب بناء الحكي الذي تواصله تعرجات الذاكرة دون مزيد من القيود عليها: هكذا ستكون الطبيعة التي لا يمكن التنبؤ بها للذاكرة هي العلامة الرئيسية للكتابة السيرذاتية.

إذا كانت السيرة الذاتية – كما تواضع على ذلك دارسوها – تقترح رؤية منسجمة لماضيها، فإن إدماج التخييل في بنيتها أخذ يقودها نحو اختراع صور الذات الممكنة، واختبارها نصيا، واستخلاص دروس الحياة من صورة الكُلية التي انتهت إليها في حاضر الكتابة.

في بحثه عن وضوح الهوية الدائمة، يتوجه كاتب السيرة الذاتية نحو ماضيه ويربطه بالأحداث، بل عليه أن يعيد خلقه عند الاقتضاء. فهو يدرك أن الهويةَ كموضوع مفقود ينبغي العثور عليه ثانية، فتسعى كتابته السيرذاتية إلى بناء هوية نصية موازية (معادل لغوي وذهني..) لتجربة الحياة الفردية في الوجود، ولا تنتج إلا من خلال لغة تمنح الكتابة أشد معاني الاعتبار رفعة وقيمة، ومن خلال كتابة تنزاح إلى منحنى التخييل على مقادير مطلوبة. وهذا كله يصب في معنى أن يكون انشغال الهوية داخل هذه الكتابة مُتوجها إلى ما فيه ابتكار الذات، وضمن عمليات الكتابة نفسها بما تنطوي عليه من إزاحة وانزياح وتحويل.
لكن في العبور من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي، تُطرح إشكالات نظرية، وفي مقدمتها: الهوية. لن تعود الهُوية (التطابق) مُعْطى ثابتا، بل سوف تصبح سيرورة ضدية تنجم عنها هُويات متعددة. ففيما يبحث مؤلف السيرة الذاتية بشكل استرجاعي عن هوية موحدة، يخترع مؤلف التخييل الذاتي ذوات ممكنة: «ما يُميز السيرة الذاتية أساسا، من خلال مقابلتها بالتخييل الذاتي، هو أن الأمر يتعلق بنوع يُكتب دائما في الماضي. فالإنسان يحاول في نهاية حياته أن يستعيد، أو يفهم، أو يتصل، أو يُطور الكلية حتى لحظة الكتابة، بينما أحد مظاهر التخييل الذاتي أنه يحيا في الحاضر» كما يقول سيرج دوبروفسكي. كما يمكن اعتبار الفرق بين السيرة الذاتية والسيرة على نحو الفرق الجاري بين الهوية والغيرية: تبحث الأولى وحدة الذات، بينما تبني الثانية غرابة الآخر. وفي التصور الحديث، فإن الهوية والغيرية لا تتعارضان كما يوحي بذلك الظاهر؛ فالمغامرة السيرذاتية لا تتحقق إلا بانعطافة البحث عن الغير Autrui؛ أي بالبحث عن الهوية من خلال الغيرية، أو من خلال الجهود التي تُبذل للتماهي مع الآخر.

شرط الغيرية

إن إشكالية الهوية/ الغيرية لا يمكن أن تُرسم بشكل أفضل إلا عبر العلاقة الدقيقة والمعقدة كمثال العلاقة بين الأب/ الطفل. يُومَأ إلى هذه الهوية بصور الأب والطفل، التي تتشابه بشكل مدهش حسب لعبة الغيرية التي تجري في مستويات شتى. حتى الأنا الذي يُعتقد أنه تم العثور عليه، ليس وحدة مماثلة بسيطة؛ إنه يكون بدوره قد تعدد واستحال إلى آخَر غيره.
وإذ يتشبه الفعل السيرذاتي بالنرجسية في الغالب، فليس لأنهما سيرورتان تتعرضان لخطر التشظي في الرؤية وحسب، بل كذلك لأن هناك تشابُها أكثر عمقا: نرجس ينظر إلى نفسه، ليس في المرآة الجامدة، لكن في الماء الذي يتدفق. من هنا مزية «الهروب» الجريان، اللااستقرار، التقلب، والخيانة كذلك. وكما يشير إلى ذلك جيرار جنيت: « يثبت الأنا، لكن تحت أنواع الآخر: الصورة المرآوية هي رمزٌ تام للاغتراب». وعلى هذا النحو، يبذل بطل السيرة الذاتية جهده ليرى نفسه عن طريق العد التنازلي لهذا الوسط غير المحدد، أو الظاهر للعيان، الذي يبسط أمامه، بما لا يقبل الانعكاس، تلك الموجودات في تغيرها، والأحداث والظواهر في تتابعها، كما الماء الذي يتدفق وينساب باستمرار: هكذا ينضم إلى سوابق المرض تيهُ الخيال، والحلم، واللاوعي والذكريات. فالإنسان الذي يتذكر يجد نفسه في مكان غامض، معتم وغير ثابت. مكان العبور والحداد، ومكان الحواف حيث لا شيء مؤكد.. الكل مُشوشٌ عليه بصورة يتقاسمها الوعي والهذيان. فضلا عن ذلك، يجب إثبات هذا اللايقين وعدم البحث للإمساك بالحقيقة: هل من المؤكد أن هذه الطفولة التي تُستثار تكون هي نفسها فعلا؟ ألا يمكن أن تكون بدورها طفولة الآخر؟
هنا، تكشف العودة إلى الذات والتطابق معها عن كونهما محض وهم ومشكوكا فيهما، كما تؤكد ذلك العبارة الشهيرة لآرثر رامبو «أنا هو الآخر». فالفعل السيرذاتي نفسه هو فعل غيرية. وحسب بول ريكور، فإن غيرية الذات هي مرحلة ضرورية، ولا يمكن تجاهلها لفهم الذات وإدراكها: «الذات عينها كآخر يوحي منذ البداية بأن ذاتية الذات عينها تحتوي ضمنا الغيرية إلى درجة حميمة، حتى إنه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى». وفي مكان آخر، يدافع عن «خاصوية» mienneté الذاكرة وتملكها الخاص لجميع التجارب المعيشية للفاعل، وفيها تكمن الصلة الأصلية للوعي مع الماضي.
إذا كانت السيرة الذاتية – كما تواضع على ذلك دارسوها – تقترح رؤية منسجمة لماضيها، فإن إدماج التخييل في بنيتها أخذ يقودها نحو اختراع صور الذات الممكنة، واختبارها نصيا، واستخلاص دروس الحياة من صورة الكُلية التي انتهت إليها في حاضر الكتابة. وفي كلتا الحالتين، بالنسبة إلى المؤلف، كما القارئ، صار النص يقترح هُويات مفترضة هي بمثابة الفضاء الحقيقي للبناء الهُويـاتي: القراءة كما الكتابة تنتميان إلى الحياة الحقيقية، والموضوع الأساسي بالنسبة إلى بعضهما الآخر ليس الحقيقة، وإنما أثر المعنى.
إن البناء السردي للهوية ليس له بعد نفسي وخلقي وآخر اجتماعي، بل كذلك تخييلي؛ فلا يُعنى بما تم عيشه ومعاناته وحسب، وإنما ما تبقى ـ وما أكثره – ضمن المنسي والمكبوت والمحلوم به، الذي لم يتحقق لعوامل مفترضة، فيلجأ كاتب السيرة إلى استثمار معطياته نصيا داخل النسيج السردي لهوية الأنا وهوية الكتابة، بما فيها من تهويمات وإسقاطات وأحلام يقظة، وغير ذلك مما يُشكل العوالم الرمزية والممكنة لأفعالنا وعقولنا ومُخيلاتنا، من حياة صعبة إلى أخرى «محلوم بها» أكثر أمانا.

باحث مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية