عمان – «القدس العربي»: «هندسة المستقبل».. تلك العبارة التي استعملها الوزير الأردني الأسبق الدكتور صبري إربيحات وهو يعلق على مسار النقاشات العاصفة في البلاد تحت عناوين «التعديلات الدستورية»، مفترضاً أن تلك الهندسة تنجز الآن «دون اكتراث بإرادة الناس». إربيحات عالم اجتماع وشخصية معروفة وسط النخبة الأردنية، خصوصاً في شرائحها التي لا تحب قول الحقائق والوقائع. رغم ذلك، يعرف في مقال خاص عن نفسه على أساس أن البلاد تسير في اتجاه تعديلات دستورية وعلاقات إقليمية «غير مفهومة».
في المقابل، إربيحات واحد من عدة سياسيين يتابعون مسار الأحداث بكثير من القلق بعد لفت النظر إلى حقيقة أن المجلس النيابي الذي قرر تعديلات دستورية بمنتهى الخطورة يمثل في الواقع 29 % فقط من المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب حسب الرقم الرسمي، وليس أكثر من 18 % حسب أرقام مستقلة.
لذلك، يصوت كثيرون لفكرة «استفتاء الناس» قبل تقرير مستقبلهم بفعاليات الهندسة، وهو ما يلمح له النائب المناكف عملياً في البرلمان محمد عناد الفايز، وهو يحذر في مجالسات خاصة من كلفة الادعاء بإمكانية تجاهل آراء الأردنيين فيما يخصهم.
في جزئية التعديلات الدستورية الأخيرة، لاحظ المراقبون كيف تختلف بعض معطيات الاشتباك. ففي مدينة السلط مثلاً، ذكر محتجون محتقنون اسم ولي العهد السابق الأمير حمزة مناكفة، وظهر وجه عشائري بخطاب سياسي يتجاوز في سقفه كل أسقف المعارضة بالداخل والخارج، في إشارة إلى أن حراكات الشارع بدأت تستقطب «غاضبين جدد» من المرجح أن أغلبهم يعترض على تعديلات دستورية «لم تقرأ بعمق أو جيداً».
زاد الوزير السابق أمجد المجالي في «جرعة المعارضة»، وعاد للضوء المعتزل لعدة مرات المعارض ليث الشبيلات. ورغم أن التيار الإسلامي قال كلمته بالتعديلات، ثم لجأ للصمت التكتيكي أو الكمون المغرض، إلا أن عدد المتربصين بتعديلات الدستور لا يمكن الاستهانة به، خصوصاً في بعض واجهات المناطق والعشائر. تحركت فعاليات في الاتجاه المضاد في قبيلتي بني صخر وبني حسن، والمناخ ملبد بالقصص المنسوجة على أساس قراءة تعديلات الدستور من زاوية سياسية إقليمية، وفي بعض الأحيان إسرائيلية إماراتية أمريكية.
لعبة الأوراق المختلطة اليوم في الأردن لم تقف عند هذه الحدود؛ ففي مدينة الكرك جنوبي البلاد محاولات نشطة لتفعيل قوى الحراك الشعبي، وفي اجتماعات حراكية دعوات لتوحيد الحراك وتأسيس لجنة تقوده وتحقق مصالحه، وعند بعض الأوساط العشائرية محاولات نشطة للتشبيك مع مكونات اجتماعية أوسع. الانطباع قوي بأن موازين «هندسة المستقبل» التي يلمح لها الوزير إربيحات لا يوجد من وما يعيقها إلا في حالة تشكيل «كتلة حرجة» في عمق المجتمع تتصدى لمشروع تكمن إشكاليته الأساسية بأنه تفاعل بصفة «الاستعجال» ولم تشرحه الحكومة للناس جيداً.
والأهم «أعقب» بالتحليل الأعمق ثلاث «صدمات»، هي: «الفتنة الشهيرة»، والتحرك الاستثماري الإماراتي الضخم في البنية الاقتصادية والتحتية الأردنية، وثالثاً العودة المباغتة لمشاريع «التطبيع» مع الإسرائيليين، سواء على صعيد الماء والكهرباء أو تنمية الصادرات في الضفة الغربية، ولاحقاً على صعيد «قطاع النقل وسكة الحديد».
مزيج الصدمات الثلاث المشار إليها أسس لحالة «عدم يقين» عند غالبية الأردنيين باستنتاج وقراءة السياسي مروان الفاعوري، ونتج عن «التلاعب الموسمي» المتكرر بقواعد الإصلاح السياسي الحقيقي، برأي وزير البلاط الأسبق مروان المعشر. ومثل هذا الخطاب يحاول تفسير وتحليل مستوى الاعتراض المباغت على تعديلات دستورية ربطها كثيرون بمشروع سياسي إقليمي قيد التأسيس، فكرته الأساسية ما كان قد حذر منه مراراً وتكراراً السياسي المخضرم طاهر المصري، بعنوان «الانتقال لخط الإنتاج الثاني في تصفية القضية الفلسطينية، وهو استهداف الأردن».
وقصة «الأردن مستهدف» قصة «قديمة وتتجدد»؛ فقد سمعت «القدس العربي» عشرات المرات، المفكر السياسي عدنان أبو عوده وهو يحذر من أن المطلوب بع د»حسم ملف الأرض» معالجة مشكلة «سكانها وشعبها».
وهنا حصرياً مربط الفرس في مخاوف ومشاعر الأردنيين بعد الإطلاق المستعجل لمشروع «تحديث المنظومة» وما لحقها من تعديلات دستورية، فالانطباع يتشكل بوضوح على أساس «تسوية إقليمية» في الطريق ستعالج ما تبقى من قضية فلسطين على حساب الأردن والأردنيين.
وما لا يقوله أصحاب تلك المخاوف بصورة علنية على الأقل، هو جذر الانطباع بأن السلطة الأردنية قد تكون في اتجاه «خيار براغماتي اضطراري» له علاقة بوقف حالة التصعيد ضد رسائل صفقة القرن، بهدف تحقيق مكاسب وفي إطار تداعيات ما بعد صدمة الفتنة، وإن كان مثل هذا التحليل يفتقد إلى أدلة وبراهين على أساس الخطاب الرسمي القائل بأن مجمل مؤشرات ونصوص تحديث المنظومة السياسية منطلق من «احتياجات محلية ملحة» ولا علاقة له بأي «مسارات إقليمية «لاحقاً.
عموماً، تظلم مخرجات تحديث المنظومة بمثل هذه القراءة السياسية التي تبرر حجم الانفعال الشعبي والعشائري الأخير، وهو ما تشير له ضمنياً عبارة الدكتور إربيحات عندما تطرقت لمفهوم «هندسة المستقبل» تفاعلاً مع مساحة سؤال فارغة من الواضح أن أدوات السلطة الآن إما لا تؤمن بأهمية شرحها وتوضيحها، أو عاجزة فعلاً عن تقديم أي شرح أو أي توضيح.