في الوقت الذي ظن فيه قسم كبير من الباحثين والمفكرين، أنّ زمن النسيان الذي يقطع مع الماضي وتقاليده وأفكاره وعنفه قد أتى، كان العالم يشهد موجة أخرى من عودة الذاكرة، وهي موجة لن تقتصر على مناطق الحروب، بل ستشمل أيضا الدول المتقدمة التي أخذت تعاني بالمقابل من ولادة حساسيات إثنية وهوياتية جديدة.
وقد نلاحظ على صعيد العالم العربي في السنوات الأخيرة، وبالأخص بعد دمار قسم كبير من مدنه، موجة من الاهتمام بالذكريات وتدوين ما جرى على صعيد تغير أحوال الناس، وترافق ذلك مع صدور عشرات الروايات العربية والمترجمة، التي جعلت من ثيمة الذاكرة موضوعا أساسيا لأبطالها. وما يلفت النظر مثلا في ساحة مثل سوريا أن هناك اليوم عشرات الفاعلين في سياسات جمع الذاكرة، من مراكز تعنى بتدوين ما جرى في السنوات العشر الأخيرة، مرورا بترجمة دور معينة مثل سرد – عدوان، لعدد من الروايات المهمة، التي تتناول موضوع الذاكرة، كما أنّ هناك إعلاميين ووسائل إعلام عديدة، باتت منخرطة في مشروع جمع الذاكرة، بالإضافة إلى سجناء سياسيين وحتى باحثين وكتاب يوميات في الداخل السوري، الذين يشعر بعضهم بنوع من التهميش. وربما ما يسجل على هؤلاء اللاعبين، عدم وجود أي تعاون مشترك بينهم، أو على أقل تقدير متابعة لما يقدمه كل طرف في هذا الحقل، ولذلك تبدو جهود هذه الجماعات متفرقة، ما يحول دون ظهور تيار عام في سوريا يولي للذاكرة وتدوينها جزءاً واسعاً من أجنداته البحثية وحتى اليومية. ولعل الإشكالية في هذا الانقسام، أو لنقل غياب أي متابعة وتعاون، انعكاس ذلك على عدم فهم رؤية كل مجموعة للذاكرة، وفتح نقاش بالأحرى حول لماذا نقوم اليوم بجمع الذاكرة؟ وكيف نتجنب الفخاخ في هذا العالم المعقّد، ومن هم الأشخاص الذين يعملون في هذا الحقل، وربما هذه الأسئلة وغيرها هي ما دفع بالأكاديمية السورية ميساء سيوفي إلى ترجمة كتاب «ما الفائدة من سياسات الذاكرة؟» تأليف الباحثتين الفرنسيتين سارة جنسبرجيه وساندرين لوفران. إذ تحاول المؤلفتان في هذا الكتاب التطرق لمسائل عديدة، تتعلق بالهدف من جمع ذاكرة العنف بالأخص واستحضارها، ومن هم اللاعبون الذين يشتغلون في هذا الحقل، وأين يخطئون أحياناً؟
ترى المؤلفتان أنّ هناك إجماعا بين وسائل الإعلام والروائيين والسياسيين والأشخاص العاديين جميعا على ضرورة إحياء ذكرى حوادث الماضي العنيفة، فسياسات الذاكرة كما تعرّفها الباحثتان هي ممارسات تجنّد استحضار الماضي، لكي تتمكن من التأثير في المجتمع وفي الأفراد بهدف تغييرهم. وعلى الرغم من أن هذه السياسات هي بداية سياسات معرفة، إلا أنّ هذه المعرفة لا تخلو أبدا من الوظيفة الأدائية، على عكس المعرفة من أجل المعرفة التي يمارسها العلماء. وفي هذه السياسات تُجمع الرواية الفريدة للضحايا وتُطرح في المقدمة، ليصنع منها تراث معين، أو بالأحرى لتصنع منها «الذاكرة المثالية» التي وفق تعبير تزفيتان تودوروف، وسياسات الذاكرة من وجهة النظر هذه، هي إحدى أندر اللحظات، التي تضع فيها المجتمعات قيمها المشتركة موضع الاختبار، وتعيد تصميمها وتكررها وتوضحها، إذن فهي تقوم بدور إعادة كتابة التاريخ، بعد إعادة توزيع الأدوار بين الأخيار والأشرار، لكن ذلك غير كاف إذا لم يترافق مع محاولة تهدئة الشعور بالظلم، كما أنّ هذه السياسات تولّد أدوارا ومهمات جديدة لمؤسسات الذاكرة، إذ لم تعد تقتصر وظيفتها على مجرد جمع روايات الضحايا أو ما حدث، بل باتت تلعب دورا أوسع في تشكيل لجان الحقيقة، ويفترض في هذه اللجان، أن تعالج الضحايا المروعين وأن تعيد بناء الأمم المحزونة، انطلاقا من العمل على الذاكرة، فالمطلوب هو التفكير في آليات التغيير الشامل للمجتمع المروع، وإرساء دعائم عقد اجتماعي جديد، أو إيجاد أساطير ميثولوجيا وطنية جديدة. في مقابل هذه الأدوار، ترى الباحثتان أن هناك أخطاء عديدة يقع فيها العاملون في هذا الحقل، ومن ضمنها قناعتهم بأنّ جمع الذاكرة كاف لتدوين الماضي وأحداثه، أو أن ما جمع يمثل الحقيقة، بينما يرى موريس الفاش عالم الاجتماع المختص بالذاكرة، أن الفئات الاجتماعية تقوم بعملية استحضار وحذف متكرر للذاكرة، من خلال التفاعلات الاجتماعية اليومية، ولذلك تغدو مهمة جمع الذاكرة هي مهمة يومية وقابلة للنقاش والتأويل المستمرين وليست مجرد عملية تدوين لمرة واحدة.
عالم «متعهدي» الذاكرة
من بين النقاط التي تدرسها الباحثتان، خلفية الفاعلين الذين يعملون في تدوين وجمع الذاكرة. إذ ترى الباحثتان أنّ «قصص اللت والعجن عن واجب التذكر» يجعل من أصوات هؤلاء الفاعلين غير مسموعة، إلا في الوسط النخبوي الضيق للمعنيين والجامعيين والناشطين ومحاوريهم الإداريين، الذين أصبحوا في عداد العاملين في مجال الذاكرة، كما أنّ محاولة استخدام الماضي كأداة لا يجرم السياسيين وحدهم، بل حتى ضحايا العنف السياسي أنفسهم وأحفادهم والمسؤولين في الجمعيات التي تمثلهم، فالعديد منهم (وبالأخص الضحايا) يتحولون بعد فترة من العمل في هذا العالم إلى أشخاص يبحثون عن المنفعة والمكانة، من خلال استحضار الذاكرة، ما دفع بعض الجامعيين والروائيين إلى الحديث عن «صناعة المحرقة» للتنديد بالاستخدام التسويقي لذكرى المحرقة، وأشاروا إلى التنافس بين متعهدي الذاكرة. وهذا ما نراه مثلا في الحالة السورية بين السجناء السياسيين، إذ يلاحظ في السنوات الأخيرة محاولة بعض السجناء احتكار رواية التعذيب، خوفا من ظهور روايات منافسة، وهذا ما أدى أحيانا إلى خلق جماعات غير منظمة بالضرورة، لكنها متنافسة على احتكار دور الضحية، وتهميش رواية الآخرين، مثل جماعة سجن تدمر، وجماعة سجن صيدنايا، وجماعات ما بعد 2011، وهو انقسام نشعر به، بالأخص، بين الأشخاص الذي غدوا جزءاً من لعبة الإعلام والمزايا الإنسانية والإثراء أحيانا.
ومن النقاط الإشكالية في الكتاب، تلك التي تتعلق بكيفية تدوين ذاكرة العنف خلال الحروب، وهنا تعتقد الباحثتان أن الكره والطمع المادي، ليسا الطعام الأول والوحيد لعمليات الإبادة، فحروب الإبادة تنتج من تتابع أو تراكم آلاف الخيارات التي يتخذها الناس.
خلفية الراوي
من بين ما تناقشه الباحثتان أيضا فكرةُ خلفية الراوي الذي تقوم المؤسسات على جمع شهاداته، إذ تريان أنه لا يمكن جمعها بمعزل عن فهم الأطر الاجتماعية التي يعيش فيها هؤلاء الرواة، وهي أطر تساهم في تشكيل ذاكرتنا، كما تحذران هنا من صناعة صورة نمطية عن الرواة، وبالأخص شهود الحروب والعنف، فهؤلاء غالبا ما ينظر لهم بوصفهم «مرضى» بالمعنى النفسي، ولذلك فنحن ننتظر منهم روايات معينة، بينما تبين بعض الدراسات أنّه يمكن للضحايا والناجين أن يعيشوا حياة عادية، ويمكن أن يظهروا حيوية أكبر من حيوية الآخرين، وهذا يعني أن الأدوار التي ننتظرها من البعض تختلف، فمثلاً اضطر الناجون من الحرب العالمية الثانية، بسبب السياق الاجتماعي والسياسي إلى حد ما، أن يكونوا ديناميكيين جدا ومندمجين. ومن هنا ينبغي أن لا نتعامل مع الشهادات دون إهمال زمن السرد، كما علينا ألا ننظر لهم بوصفهم مجرد شهود أو ضحايا ينقلون الحقيقة والحقيقة فقط، فالذاكرة كما المشاعر هي اجتماعية، كما أنها انعكاس للحالات النفسية التي تشكّلت بفعل التجارب الشخصية والعادات الاجتماعية والمؤسسات، كما أنها بالقدر نفسه انعكاس للحالة وللتبدلات مع المؤسسة، ومع الجمهور الحاضر، وطبيعة الأسئلة التي توجه لهم. وتقع المؤلفتان هنا في قراءة وظيفية للذاكرة، بمعنى أن الذاكرة تظهر من خلال تحليلهم الاجتماعي، بوصفها أداة متحكما فيها بيد سارديها، دون أن تضعا في الاعتبار أن بعض الذاكرات والقصص تفلت من هذه المعادلة الحتمية.
ومن النقاط الإشكالية في الكتاب، تلك التي تتعلق بكيفية تدوين ذاكرة العنف خلال الحروب، وهنا تعتقد الباحثتان أن الكره والطمع المادي، ليسا الطعام الأول والوحيد لعمليات الإبادة، فحروب الإبادة تنتج من تتابع أو تراكم آلاف الخيارات التي يتخذها الناس. فعلى صعيد إبادة مليون شخص في رواندا، غالبا ما ركزت التفسيرات على الأحقاد العرقية الموروثة بينما لاحظ بعض المؤرخين والأنثربولوجيين أن هذا التفسير غير كاف، فالهويات الإثنية (وحتى الطائفية) تبدو أكثر مرونة مما تبدو عليه، وإن الكره لم يكن شديد الأهمية في هذه الحالة، أو لم يكن المسبب الأول، وإنما هي ناجمة عن رؤية سياسية، وبالتالي فالإبادة وفقا للباحثتين هي وليدة قرار سياسي، وقد تبدو رؤيتهما هنا مثالية بالنسبة للكثير من القراء العرب، أو غير مقبولة، بالأخص أن المنطقة لم تشهد مراحل انتقالية، تساعد على فتح النقاش حول الماضي، مع ذلك يمكن التدليل على رأي المؤلفتين من خلال العديد من الروايات، حول بعض المذابح الطائفية والإثنية التي جرت في سوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة، والتي تظهر أحيانا أن السياسي واليومي، هما اللذان كانا يحركان هذه المذابح وليس أحداث الماضي وأهله بالضرورة.
كاتب سوري