وأنا أتجول بعيني في مكتبتي المنزلية، التي تحوي مئات العناوين بين أدب وتاريخ وعلوم طبية، وفكر وأديان، وغيرها من ينابيع المعرفة، والتي كونتها في سنوات طويلة، وأتصفحها من حين لآخر، لانتقاء كتاب معين أطالعه، اكتشفت بأنني أملك كتبا كثيرة، اقتنيتها بحماس من المعارض أو المكتبات، ولم أجد وقتا لقراءتها في حينها. بعض هذه الكتب يرجع تاريخ اقتنائها لأشهر قليلة، وبعضها لأعوام، ربما كانت عشرة، أو حتى خمسة عشر عاما، على أن معظمها توجد به صفحات مثنية، ذلك يعني أنني بدأت قراءتها بالفعل وانقطعت لسبب أو لآخر.
لكن ما حيرني أثناء تصفحي للمكتبة، هو عثوري على عدة طبعات مختلفة لبعض الكتب، خاصة روايات ماركيز، وروايات الإسباني أنطونيو غالا، وآخرين عرب وأجانب. وأعتقد أنه الحب وحده لبعض الكتاب، ما جعلني أقتني أعمالهم بأغلفة مختلفة، وأيضا الصداقة العميقة التي جمعتني بكتاب ما، مثل: «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، و»قلم النجار» للإسباني مانويل ريفاس، تجعلني أحتفي بالكتاب بجميع أزيائه، وكان يمكن بالطبع الاكتفاء بطبعة واحدة، إن كان الأمر مجرد قراءة فقط.
أريد هنا أن أبين ما أسميه الصداقة بين القارئ، وكتاب تعرف إليه مصادفة في مكتبة عامة، أو طارده بشدة حتى يتعرف إليه، ويصادقه، بناء على ما سمعه عنه من أشخاص يعرفهم. ثم ليصبح ذلك الصديق من المراجع الهامة لحياته، يجلس معه طويلا، في كل فرصة سانحة، يستمع إلى أحاديثه الشيقة المبثوثة عبر الصفحات، يحدث عنه الآخرين بفخر شديد، ويزداد فخره، كلما اقتناه أحد المعارف، وصادقه أيضا. وفي جميع مراحل تكوني كقارئ منشغل بالقراءة وحدها، في شتى المجالات، جمعتني صداقات كثيرة مع كتب بعينها، بعضها استمرت صداقتي معه سنوات طويلة، وحتى الآن، وبعضها انتهت في مرحلة ما، لتفسح المجال لصداقة جديدة، مع كتب أخرى.
كنت في بدايات قراءتي مثلا، أصادق كتب جبران خليل جبران، والعقاد، وطه حسين، وأشعار السياب والبياتي، وكثير من الروايات المترجمة، وكتب التاريخ والسير الشخصية للكتاب والسياسيين، وذلك الكتاب العظيم: ألف ليلة وليلة، الذي لن تنتهي صداقتي معه أبدا كما أتصور، فلا زلت أعود إليه من حين لآخر، لأقضي معه أمسية جيدة، أستمتع فيها، وأتعلم جديدا يمكنني من الاستمرار كاتبا، يتوقع من يعرفه أن يأتي بأفكار مختلفة في كل مرة. في فترة ما، وكما حدث لأبناء جيلي، تعرفت بالطبع على الأدب الأمريكي اللاتيني، تعرفت إلى بورخيس، وفارغاس يوسا، غارسيا ماركيز، وإيزابيل أليندي، وأستورياس، وكل العظماء من كتاب وشعراء قدموا الكثير، وصادقت بعض إنتاجهم. وأظن أن رواية «الحب في زمن الكوليرا»، التي كتبها ماركيز بعد ملحمته المميزة «مئة عام من العزلة»، ولم تلق هي ما لقته «مئة عام من العزلة» من مجد، وضوضاء عالية، وترحيب كبير، وترشيحها لتكون على قمة الأعمال الروائية المنجزة في العالم، إلا أنها باتت من الكتب التي صادقتها بسهولة. غصت في أعماقها وغاصت في أعماقي، وأصبحت شخصياتها مثل شخصية فيرناندو داثا، والطبيب، وما كتب فيها من جمل واستعارات لغوية باذخة، من العوامل التي دائما ما تشجعني على المغامرة. كذلك تفاعلت كثيرا مع رواية «الوله التركي» للإسباني أنطونيو غالا، وما زلت متفاعلا معها حتى اليوم، تجمعنا صداقة متينة، لا أظنها ستنقطع. وغير ذلك كثير كما ذكرت.
على أن محاولات مصادقة الكتب عنوة، تفشل في بعض الأحيان، لعوامل خارجة عن الإرادة، وأحيلها غالبا لسوء المزاج أو انعدامه أثناء مطالعة كتاب ما لأول مرة، مما يبعدك عنه، وربما لا تفتحه مرة أخرى أبدا. وعندي نماذج كثيرة لكتابات مشهورة، حاولت جادا أن أتفاعل معها، وأقيم معها صداقات، وأخفقت.
من تلك الكتب التي حاولت معها، على سبيل المثال، كتاب: «بانتليون والزائرات»، الذي طرقت بابه ثلاث مرات، وفي كل مرة، أعود خائبا، لأنسحب من قراءته، ولا أعرف ما المشكلة، بالرغم من أن الكتاب من تأليف فارغاس يوسا، ويحوي فكرة مجنونة عن تزويد عساكر الجيش بمصادر متعة شخصية، بطريقة واضحة ومعترف بها، وأيضا بالرغم من وجود شخصيات، تقترب من تلك التي أحبها وأكتبها في كتابتي الشخصية.
ربما سوء المزاج ما أجهض حتى مجرد المصافحة كما ذكرت، وربما عوامل لا أعرفها ولا أستطيع معرفتها، لكن من الأشياء الجيدة في مصادقة الكتب، هي أن عدم التفاعل مع كتاب معين لكاتب لديه إنتاج وفير، لا يلغي العلاقة الجيدة بالكاتب. إنها علاقة قارئ بنص واحد فقط، ودليل على ذلك أن لفارغاس يوسا كتبا أخرى، تتصدر قائمة أصدقائي، مثل: «حفلة التيس»، و»شيطنات الطفلة الخبيثة» وغيرها.
مصادقة الكتب شيء ممتع حقيقة، ولعله الشيء الذي تربى عليه جيلنا كله، فأنا أعرف عشرات الأصدقاء، تجمعني معهم صداقات مشتركة بكتب معينة.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
مقال رائع يخرجنا من دوامة الحروب و المآسى الى دائرة المعرفة و العلاقة الآسرة بين الكتاب و القارئ. اعجبنى المقال فلدى بعض الكتب لى معها علاقات ود وحب وان طال زمن البعد عنها او تصفحها ولكنها تبقى الى جوارى فى مكتبتى و لا أفرط فيها ابداً.
شكرا لكم سيدي الكريم
اذا كنت انت قد نلت شرف مصادقة تلكم الكتب عبر قرائتها و مطالعتها فنحن قد نلنا شرف محبتكم و احترامكم عير مقالكم شطرا
مقال يعبر عن حالة اكثر المثقفين الذين احبوا ال قراءة طريقا للتثقف من صغرهم عبر تربية صحيحة ،ترضي العقل وتفرغ الجيب، هكذا نحن مكتبة عامرة بما نحب قراءته عبر تخصصنا وهواياتنا، فبيتي مكتبتي، لكن التجار يضحكون علينا ويتهموننا بالفقر، علما ان الفقر بشكليه المادي والفكر كافر.
شكرا للكاتب المحترم على اثاراته،عبر مقااته ،ونجانا الله من القر
مقال يعبر عن حالةكل المثقفين الذين احبوا ال قراءة طريقا للتثقف من صغرهم عبر تربية صحيحة ،ترضي العقل وتفرغ الجيب، هكذا نحن مكتبة عامرة بما نحب قراءته عبر تخصصنا وهواياتنا، فبيتي مكتبتي، لكن التجار يضحكون علينا ويتهموننا بالفقر، علما ان الفقر بشكليه المادي والفكر كافر.
شكرا للكاتب المحترم على اثاراته،عبر مقالاته ،ونجانا الله من الفقر.