أوميكرون وراءكم واللينش أمامكم

حجم الخط
0

 تستمر التداعيات السياسية داخل أروقة الكنيست الإسرائيلية، وعلى مستوى جميع الأحزاب السياسية بالتفاعل اليقظ، بالتوازي مع انتشار أخبار تفشي أوميكرون، المتحور الأخير لفيروس كوفيد 19، وما يدور حوله من نقاشات بين عامة الشعب وداخل أجهزة الحكم نفسها.
لا أحد يستطيع أن يتكهن كيف ومتى سينتهي هذا الفاصل الوبائي من حياة البشرية، لكن تفاصيله سترافقنا في المستقبل، كمادة مهمة للباحثين الجديين في دراسة نشوء الجوائح، وللعلماء المهتمين بمستقبل الإنسان على كرتنا الأرضية؛ وستبقى تداعياته الحالية نثارا إنسانيا متطايرا يتلقطه بعض المتسكعين على أرصفة عصر التفاهة، وزادا في أفواه بعض الحمقى والمدّعين، يلوكونه إشباعا لجهلهم ولنرجسيّاتهم المخاتلة.
لقد زوّدتنا السنتان الفائتتان بكم هائل من المواد الخام الجاهزة، لتكريرها على شكل روايات، من جميع “جانرات” الرواية المعروفة والمبتكرة، أو قصائد أو مجموعات قصص قصيرة، أو أشكال إبداعية قادرة على إحياء أجناس أدبية اندثرت، مثل المعلقات والملاحم والمقامات والرباعيات. ولا أخفيكم أنني فكّرت، لوهلة، وأنا محجور في بيتي، بعد إصابتي بالفيروس، أن أطرق أحد تلك الأبواب، وأسجّل مشاعري الخاصة، إزاء ما قرأته وشاهدته في هذه الأسابيع القليلة، إلّا أنني وجدت أن ما سأكتب عنه اليوم أولى وأجدر برعايتي، لأنه هو الهاجس الحقيقي الذي ما انفك يتنامى في ظلال أخبار تحوّرات الفيروس؛ وهو، لا الفيروس، يشكّل الخطر الذي سيحسم مصيرنا، نحن المواطنين العرب، في إسرائيل. من منّا لا يتذكر المشاهد التي رافقت مواجهات هبة أيار/مايو المنصرم، خاصة تلك التي شاهدناها في شوارع وساحات المدن المختلطة مثل، عكا وحيفا ويافا واللد والرملة؟ وكيف يمكن أن ننسى محاولة قتل المواطن العربي، الذي مرّ صدفة بمركبته، يوم 12/5/2021، في أحد شوارع مدينة بات – يام، المتاخمة لمدينة يافا، حيث انقضت عليه قطعان الفاشيين وسحلوه محاولين القضاء عليه أمام أعين الكاميرات، وعلى مسمع ومرأى من العالم بأسره. لقد ملأت صور ذاك “اللينش” شاشات الفضائيات وتصدّرت تفاصيله عناوين معظم الصحف في إسرائيل وخارجها؛ ومع انتهاء موجة المواجهات بُشّرنا بأن قوات الأمن الإسرائيلية قامت باعتقال أربعة شبان يهود من المتورطين في محاولة القتل الجماعية، وانها أعدّت بحقهم لوائح اتهام جنائية. وكما علمنا مؤخرا فإن التقاضي بخصوص ثلاثة ملفات، ما زال جاريا أمام المحاكم، بينما صدر، في مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري، حكم بالسجن الفعلي لمدة عام واحد على أحد المتهمين واسمه لاهاف أوحانانيا. لقد سمعنا عن القرار المستفز، بعد أن قررت نيابة الدولة تقديم استئناف عليه لدى المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبة بإنزال حكم أقسى على المجرم، لكي يتناسب مع خطورة ما فعل، ومع تداعيات الجريمة التي شاهدها العالم برمته.

دور بعض قضاة المحكمة العليا وكثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم

لن أسهب في تفاصيل الوقائع كما سجّلها قاضي المحكمة المركزية بيني سجي، واعترف بها المتهم أمامه؛ لكننا نعرف أن المتهم وصل إلى المنطقة استجابة لنداء نشره بعض الناشطين في فرق الموت، من خلال وسائل التواصل، وفيه يهيبون بجنودهم الحضور لإطلاق حملة صيد ضد المواطنين العرب، وبهدف التعرض لمصالحهم التجارية الموجودة هناك. لقد تجمع عشرات المحمومين العنصريين أمام مطعم للشاورما يمتلكه مواطن عربي؛ فرفع أمامه هذا المجرم علم إسرائيل وبدأ يصرخ بالحاضرين المسعورين مرددا ومحرضا إياهم “الموت للعرب”؛ ثم اقتحم المطعم وسرق منه علب المشروبات ووزعها على المشاركين، بهدف إلقائها على زجاج المطعم وتكسيره. وقد أدين بناء على اعترافه بلائحة اتهام تضمّنت عدة تهم من بينها: “التحريض على العنف” و”التحريض على العنصرية” و”المشاركة في أعمال شغب أدت إلى أحداث ضرر على خلفية عنصرية” و”التسبب عمدا بأضرار لمركبة بدافع عنصري”، بعد أن قام بتكسير زجاج مركبة المواطن العربي وسرقة محتوياتها، والبصق عليه عندما كان ملقى وينزف على قارعة الطريق. ثم قام بإجراء مقابلة حية من الموقع مع إحدى قنوات التلفزيون، فدافع عمّا يحدث وأضاف، على الملأ، مؤكدا أنهم خرجوا “اليوم إلى الشوارع كي نقاتل هؤلاء العرب.. وإن كانت هنالك ضرورة سوف نقتلهم أيضا، سوف نقتلهم”. لن أحاول فهم ذرائع هذا القاضي، حين أصدر حكمه الهدية على هذا المجرم المأفون؛ فقد يئست من التعويل على مواقف القضاة في مثل هذه الحالات، ولا أعرف إذا كان قضاة المحكمة العليا سيهتزون من استهجان نيابة الدولة، أو من موقفها إزاء حكم القاضي، الذي لا يناسب خطورة الأفعال التي اقترفها المجرم، ودوره البارز في عملية التحريض، التي كادت أن تحصد حياة إنسان، ذنبه الوحيد أنه عربي قاده قدره في تلك اللحظة إلى أنياب تلك القطعان السائبة، كما كتبت النائبة العامة في استئنافها. لا أقول ذلك جزافا فدور بعض قضاة المحكمة العليا كدور كثيرين من قضاة جهاز القضاء الإسرائيلي، كان حاسما عبر العقود الماضية في تقوية عصابات الفاشيين بعدم إنزال عقوبات رادعة بحقهم. ولم تكن سياسة أولئك القضاة مهادنة عن طريق الصدفة أو الخطأ، بل كانت تجسيدا لمفهوم هذا الجهاز كما شكّل في بداياته، ودوره في كيفية التعامل مع من اعتبرتهم المؤسسة الرسمية طوابير خامسة تعيش داخل الدولة. ورغم جميع التغيّرات التي حصلت داخل الدولة وبين المواطنين العرب، فقد بقي ذلك المفهوم المؤسس مرشدا أعلى لنظرة غالبية القضاة، ودافعهم البارز في مثل هذه القضايا، خاصة في السنوات الأخيرة، لأداء دورهم المكمّل في تنفيذ السياسات القامعة والعنصرية بحق مواطني الدولة العرب، وسببا للتساهل مع قطاعات واسعة من الرعاع الصاخب، بصفتهم وكلاء لتحجيم مكانة المواطن العربي وطموحاته وتقليم أغصان آماله وأحلامه.

لننتظر ولنر

لم تكن حادثة “اللينش” المذكورة في بات – يام وحيدة، ولن تكون؛ فقد قرأنا قبل يومين عن حادثة لا تقل بشاعة وخطورة قد جرت وقائعها في المنطقة نفسها وعلى الخلفية نفسها؛ فالضحايا، كما قرأنا، كانوا عربا وكان المعتدون مجموعة من تلك القطعان السائبة. ففي الرابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم وفي ساعات الليل جلس على أحد مقاعد حديقة “أشكول” في مدينة “بات – يام” شابان عربيان وإلى جانبهما جلست شابتان يهوديتان. وبينما هم جالسون بهدوء مرّ بهم ثلاثة شبان يهود. وقفوا بجانبهم هنيهة، وبدأوا يتحرشون بهم خاصة بأحد الشبان العرب، الذي كان مقعدا على كرسي متحرك بسبب مرضه. وبعد تبادل بعض الكلام “اكتشف” الشبان اليهود أن الشابين عربيان؛ فابتعدوا عن المجموعة لدقائق ثم عادوا نحوهم وبدأوا، من دون سابق إنذار، بضربهم بعنف وهم يصرخون ويرددون بجنون عصبي “اقتلوه فهو عربي”. وقد أوسعوهما ضربا، ثم رفع أحد المعتدين مسدسا من صنع بيتي فضرب به أحد الشابين بقوة حتى أوقعه أرضا واستمر، وصحبه، بركله بشدة. ثم وجه أحد المعتدين المسدس إلى صدر الشاب العربي، إلا ان شريكه بالعدوان قام بحركة سريعة وأزاح المسدس عن صدر الشاب العربي، فانطلقت الرصاصة وأصابت ساق إحدى الشابتين اليهوديتين. وقد نقل الشاب العربي إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد إصابته برأسه وبوجهه وبسائر أنحاء جسده، كما نقلت الشابة اليهودية إلى المستشفى بعد أن اخترقت الرصاصة ساقها؛ أما الشاب المقعد فأصيب أيضا في عدة أنحاء من جسده وما زال يعاني من جراء الاعتداء عليه. طالبت النيابة تمديد توقيف المعتدين حتى نهاية الإجراءات القضائية بحقهم وكتبت في متن طلبها لاعتقال المتهمين الثلاثة بأنهم “اعتدوا بصورة عنيفة وبشعة وبدم بارد وبشكل متعمّد وبمساعدة السلاح على ضحاياهم، الذين كانت خطيئة اثنين منهما الوحيدة أنهما مواطنان عربيان رغبا بتمضية سهرة برفقة صديقتين، فتاتين يهوديتين، في متنزه عام..”، ثم أضافت في وصف أفعال المتهمين وأكّدت: “إن أفعال المتهمين تعد إرهابا خطيرا، لاسيّما وقد تخللها إطلاق نار حي في وسط المدينة، وعنف جسدي قاس وكلام مدفوع بكراهية وبعنصرية وبأيديولوجية قومية متطرفة، وبعدائية تستهدف التعرض للعرب، فقط لأنهم عرب، وتستهدف أيضا إشاعة الخوف والذهول والهلع بين المواطنين العرب في إسرائيل.. إن أعمالهم تجسّد خطورة خاصة وبشاعة بارزة لأنهم هاجموا إنسانا مقعدا، ولأنهم استمروا بالاعتداء العنيف على ضحيّتهم، حتى بعد أن سقط من جراء ضرباتهم على الأرض”. ولا أوضح مما كتبَت. لا أجد حاجة لإضافة أية كلمة على هذا الوصف المخيف وعلى تشخيص حالتنا بالعموم؛ لكنني أخشى أن قطار العدل، الذي تلهث وراءه هذه المدعية العامة، كان قد سقط عن المحطة منذ سنوات؛ وأشعر بأننا، نحن المواطنين العرب، فالحون في الغط تحت أجفان الزمن وماضون إلى مجهولنا، ونحن نفتش عن أصحاب المؤامرة الكبرى، وكلٌّ يحمل طعمه تحت إبطه؛ أرى أننا ننتظر على أرصفة التيه والأوهام والعجز، ولا يعرف الواحد منّا متى سيحين موعد اصطياده، أو في أي “لينش” سيكون هو البطل؟

*كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية