ليس عجيباً على الإطلاق حين ينقض نظامٌ انقلابي على ثورةٍ، بكل إشكالياتها، فيمعن في تشويهها واغتيالها، منطلقاتٍ وشخوصاً، معنوياً بعد أن نجح في إزاحة ما نتج عنها من نظام حكم، أو حتى مجرد حكومة مهما كانت شكلية، بل لعل ذلك هو التحرك المنطقي الوحيد، وإلا فما المبرر وراء تحرك غالباً ما يكون عنيفاً يسيل أثناءه وبعده كثيرٌ من الدماء؟
من المنطلق نفسه أيضاً، ليس ثمة ما يدهش حين ينقلب كثيرٌ من الناس على الحراك الثوري، خاصةً في ظل حالةٍ عامة من انعدام التسييس وضمور الاهتمام بالشأن العام، بل حتى غياب مجرد مفهوم المجال العام، عقب عقودٍ من التجهيل والقمع والإقصاء وتشويه الوعي المنهجي، وحين ينظرون حولهم، يحصون شهداءهم وخسائرهم وجرحاهم، يتفقدون ما خسروه جراء الغلاء والتضخم، ويبحثون عن مكاسب في تحسن مستوى المعيشة، فلا يجدون شيئاً، أو أقل القليل؛ حينذاك يسألون أنفسهم: ما الذي جنيناه من هذا الصداع؟ ليتلقفهم إعلامٌ ينهال على رؤوسهم كمئات الشلالات، مؤكداً أن الحراك الثوري لم يكن إلا مؤامرةً كونية يتصدرها كل الأعداء التقليديين كإسرائيل وأمريكا.
كل ذلك طبيعي ومتوقع في ظل ثورةٍ مضادة تسعى لترسيخ وجودها، خاصةً في أعقاب حراكٍ لم تتصوره مطلقاً، فلئن كان النظام أيام مبارك قمعياً من دون شك، إلا أنه كان يستخف كليةً بالعامة، “الشعب”، ولم يكن يرى خطراً حقيقياً سوى في التنظيمات الإسلامية المسلحة، وربما بدرجةٍ ما جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانت تربطه بهم علاقةٌ معقدة، حيث كان يلعب معها ويضربها بالتتابع، وأحياناً بالتوازي، فتارةً يعتقل أعضاءها أو قياداتها، وتارةً يلجأ لهم ولم يزل يعتمد عليهم دائماً في ضبط الشارع وتخفيف الاحتقان. والأكيد أن ذلك القمع غير المسبوق في تاريخ مصر المعاصر، قد أتى بالنتائج المرجوة نوعاً ما، فأي مخايل لمعارضة منظمة تم سحقها تماماً، وأودع عشرات الآلاف السجون. لكن ما نشهده من سعارٍ مجنونٍ في ملاحقة المعارضين، أو حتى كل من سولت له نفسه مجرد التباسط على أي وسيلةٍ كانت من وسائل التواصل الاجتماعي، والتفتيش في هواتف الناس المحمولة، يتخطى مجرد السياسة المنهجية إلى ما هو أعمق من ذلك، مقترناً بحديث السيسي عن البحث عن غيره، إن لم يكن مرضياً للناس (على سخافة هذا الهراء) يفضح توتراً عميقاً متأصلاً، بل هلعاً.
مهما بلغت بشاعة ما يكال ليناير من اتهاماتٍ وتشويه، فإن إبراء ساحة هذا الحراك الثوري آتيةٌ لا محالة
رغم كل مظاهر السيطرة والمنعة، فإن النظام بات مسكوناً بالخوف والقلق، فلربما يحدس رجاله إن كانوا لا يدركون أن ذلك الذي يحاربونه، ليس شيئاً متجسداً ملموساً في صورة معارضين ساخطين فحسب، بل هو ذلك التغير السيكولوجي الذي تحدث عنه تروتسكي، بأن الأمور لم يعد من الممكن أن تستمر على ما هي عليه، وأن تغييراً يتحتم أن يحدث، وبأن الكيل قد فاض. كان ذلك الشعور والتوق للتغيير والتحرر والغد الأفضل، قد تمكن من الناس، إذ خرجوا في يناير/كانون الثاني بما هدد مصالح الطبقة الحاكمة، فجاءت الثورة المضادة بقيادة السيسي، لتضع حداً لاحتمالات أي تغييرٍ حقيقي، تنتقم وتنكل. لكن ذلك الحدس نفسه الذي ينبئهم بالتغير لدى الناس، يشعرهم بأنه ما لم تتحسن أوضاع الناس، فإنه لا يمكن الاطمئنان إلى أن هبةً أخرى مستحيلة. كما يدرك الكثير أن الإنشاءات الملموسة في صورة جسورٍ وطرقات تمولها القروض، قد تداعب مشاعر الناس، وتخلب أبصارهم لفترةٍ زمنيةٍ محدودة، ثم لن يلبثوا ان يسأموا، ما لم يترجم ذلك إلى مكاسب مادية محسوسة منعكسة في مستوى معيشة الناس، وهو أمرٌ غير واردٍ في الزمن القريب. هم يدركون أن الفقاقيع والوعود ستفقد بريقها ومقدرتها بعد قليل، وحينذاك سيعود ذلك الشبح، شبح يناير، منبعثاً من مرقده في الطرقات والأزقة، يشعل الأرض تحتهم.
كما أن بعضاً منهم لعله يدرك أن أي حدثٍ كبير في التاريخ، مهما شوُه وشُيطن، فإن إعادة تقييمه لاحقاً، هو من طبيعة النظرة التاريخية التي كثيراً ما أعادت الاعتبار لأحداثٍ وثورات وخسفت الأرض بما كان ممجداً، لذا، فمهما بلغت بشاعة ما يكال ليناير من اتهاماتٍ وتشويه، فإن إبراء ساحة هذا الحراك الثوري آتيةٌ لا محالة.
لذا، وإلى أن تتغير الأمور، سيظل شبح يناير وذكراه يقض مضاجع السلطة الحاكمة كلما حل من كل عام ولن تنجح أي محاولة في طمسه. ثورة 25 يناير قد حدثت، خرجت إلى حيز الوجود، مكتسباً في تاريخ الشعب المصري، ولن يتمكن أي شيءٍ من تغيير هذا.
*كاتب مصري