يبدو أن خيبة الأمل التي تلف الوطن العربي من شماله لجنوبه ومن المحيط حتى الخليج ستظل تضني وتحسر الكثيرين، فيروح تفكيرهم يصعد ويهبط محاولًا أن يبرح مكانه ولو قيد أنملة فحسب، فبعد الحيل الدفاعية وتمضية سنوات في الدفاع عن البقاء “محلك سر”، ومن ثم التوق إلى أن شرار النيران الثورية تحت الرماد توشك أن تشتعل بين يوم وضحاه، أو ليلة وصبح يتنفس في غفلة من “الأجهزة الأمنية” والخلافات العشائرية والقبلية، فلما طال المسير وبلغت خيبة أمل المتعجلين العام الحادي عشر خرج كثيرون قائلين إن الربيع العربي كان مجرد مؤامرة بين قوى خارجية ومستبدين داخل الأوطان وصولًا إما إلى جس نبض الشعوب الخمس من تونس لمصر واليمن وليبيا وسوريا، ويؤطر هؤلاء القائلون بالاحتمال الأول إلى أن القوى المؤثرة في الوطن العربي أرادت أن تعرف كيف تُكيف وتعدل وتفصل استمرار مسيرة جبروتها لعقود وربما قرون تالية، أما الاحتمال الثاني والأخير لديهم فلا يخلو من “حس المؤامرة” أيضًا، بل إنه يستخرج من ملامح الاحتمال الأول ملمحًا يريح أنفسهم وينطلقون منه لتعزيز رؤيتهم أن الغرب بمعاونة خونة الداخل ضاقوا ذرعًا بمطلب الحرية الجماهيري بالدول الخمس وغيرها، فتفتق تفكيره عن حيلة جهنمية تجعل عشرات الملايين منهم تتمنى لو أن الزمان استدار وقلب التاريخ صفحة نفسه، فعاود القهقرى لترجع عقارب الساعة لما قبل 18 من ديسمبر/كانون الأول 2011م أو تاريخ انطلاق شرارة الثورة التونسية الرائدة.
شرارة الثورة التونسية
رغم سابق المعاناة الاجتماعية وقتها، ومعهود قسوة الضربات الأمنية، واستمرار ضراوة الاستبداد والقهر، فقد كانت الأمور أفضل مما سارت عليه بعد النجاح الأولي أو “المفترض” لأغلب هذه الثورات، وبالتالي فقد فتح مستبدو الداخل والخارج الباب على مصراعيه بعد نجاح أول الثورات بتغيير وجه النظام، لا مُسلمينَ به أو راغبين فيه؛ وإنما ليجعلوا المطالبين به سواء بشكل مباشر أو الحالمين من الذين يوشكون على أن يخرجوا (أو خرج بعضهم بالفعل وقتها كما في البحرين أو سلطنة عمان) مطالبين بحراك ديمقراطي حقيقي أو الـ17 دولة ومملكة الباقية من ديار العرب، أراد طغاة الداخل والخارج أن يُعلموا الجميع مصداق بيت الشعر العربي الشهير:
رب يوم بكيت فيه فلما .. صرت في غيره بكيت عليه!
سواء أكان هؤلاء”الباكون” ممن شرعوا في الثورة بالفعل أو تمنوها، أو بالمنطق الأرسطي شرعوا فيها بالقوة أو باعتبار ما “كان” سيكون، إذ يكفي من بعد الإخفاق الشديد في الدول الخمس أن يشير طغاة وظلمة بقية الدول العربية للشعوب الخمسة مؤكدين أن بلادهم بفضل حكمهم أفضل حالًا وستظل.
مسيرة التفكير والتنظير
يؤسف كل مدقق في مسيرة التفكير والتنظير النخبوي العربي المفترض أن ينظر في مثل هذه الفرضيات وتكرارها بشكل متنامٍ من عام لآخر في ذكرى الثورات الخمس، وتصاعدها في صفوف المقاومين المفترضين للظلم والاستبداد العربي، فانطلاقًا من سابق أقوال متنكرة للبعض من كون الثورة المصرية مثلًا “فورة” لا ثورة، مرورًا بالتنكر من المنظومة الثورية وادعاء أن تيارا بارزا بالكنانة غرضه الإصلاح فحسب، وصولًا لاستخدام السلاح في سوريا وتورط ثوار مفترضين في تسليح حراكهم الثوري، دون تدقيق في التربة السياسية من حولهم وإمعان في المشهد العالمي، وإدراك أن إجازتهم لأنفسهم إطلاق النيران يجيز لعدوهم أيضًا طلب النصرة من دول أكثر عنفًا ودراية بالرصاص أكثر من التي أمدت الثوار بالسلاح ووقفت تشاهدهم، خاصة لما تستخدم تلك الدول الأجنبية حصتها من الطائرات والمعدات العسكرية الأكثر تفوقًا، ولم تكن سوريا وحدها التي وقعت في فخ محكم بل سبقتها ليبيا بالخلافات القبلية والعشائرية واستدعاء لقوى خارجية أغلبها غير سوية الأهداف والأغراض، وإن وجدت دولة مخالفة للسياق كما وجدت هي نفسها في سوريا، وعلى الطريق نفسه سار اليمن بالحوثيين وحرب الداخل والخارج مع كثير تفاصيل، أما تونس فقد أفرطت للأسف الأشد في مهادنة القوى التي اندلعت الثورة عليها، وإن كانت المهادنة أفلحت عشر سنوات فقد قاربت الانتهاء بانقلاب قيس بن سعيد، الرئيس المنتخب الذي استبشر الجميع به، ولو قدر الله لهم الاجتماع خلف المنصف المرزوقي لوفروا على وطنهم وأنفسهم إرهاقًا لا قبل لهما به، باختصار يؤسف كل عاقل مُنظر أنه لم يكن في أمر الثورات جميعها تنظير أو إعمال عقل بأي قطر منها أو في أي اتجاه كان حتى وصل المشهد كله إلى النهاية المؤسفة المزرية اليوم.
وبالتالي فقد كُتِبَ علينا أن نتوقف مضطرين لدى نظرية المؤامرة التي إن لم ننف وجودها، إلا أننا لا يمكن أن نلغي عقولنا لنفهم أن نحو 445 مليون عربي غير فعالين في عالم اليوم وبالتالي فإن بعض مثقفينا ينفضون أيديهم من الثورات الخمس ويدعون أن الأمر من ألفه حتى يائه كان مجرد مسلسل انساق بين نصف وثلث سكان الوطن العربي إليه، فإن الأمر يمثل إشارة واضحة لخلل في الفهم والإدراك والتفكير، فمن المسلم به أن الحراك الثوري لا يشتعل غفلة ولا ينطفئ تمامًا ولو طال أوان سكونه، بل تلزمه سنوات كثيرة ليتوهج أولًا وآخرًا شريطة أن يعكف المظلومون عليه ويستمروا في إزكائه مهما كانت التضحيات ويكفي أنها في الاتجاه الصحيح؛ وإلا فإنهم ليئدون ثورتهم المخلصة لمستقبلهم وأوطانهم بأنفسهم كما يحدث منذ سنوات!
الأقرب للمنطق
إن الأقرب للمنطق والفهم والإدراك والعقل السوي إن انفجار الربيع العربي كان استثنائيًا في أغلبه، بدرجة حدث “بكر” غير معهود أدهش أهله أنفسهم بقدر ما أذهل الأعداء في الداخل والخارج، مع عدم نفينا إمكانية توقع بعضه على نحو مخابرتي غير واضح الملامح، إلا أنه في المقابل لم يكن حرق الراحل الشهيد محمد البوعزيزي لنفسه مدبرًا بأي درجة؛ وكذلك لم يكن رد الفعل (في توقيته الدقيق) على يأسه من الإصلاح وبطولته حتى في موته متوقعًا، لا من حاكم تونس الراحل زين العابدين بن علي أو حتى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وانتقال الشرارة الثورية لمصر لم يكن ليخطر على بال للعدو الصهيوني (في لحظتها) بالدرجة نفسها التي صارت عمليًا، كما لم تتخيل ثلة المخبرين الذين استشهد على أيديهم الشهيد خالد سعيد ولا الضباط وأمناء الشرطة الذين عذبوا الشهيد سيد بلال من قبل حتى استشهاده أنهم ينزعون فتيل برميل مليء بالغضب المتفجر لن يطيح بوزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي بل الرئيس المخلوع حسني مبارك نفسه، وإن يكن في الأمر تفاصيلٌ أكثر في الحالين، إلا أن انتقال الشرارة الثورية لليمن وليبيا وسوريا من بعد لا يمكن أن يكون مرتبًا هو الآخر، تمامًا كما أنه من غير المعقول أن تكون كل ثورة تم الترتيب لها على حدة لجس النبض أو لإحكام القبضة الاستبدادية على خمس دول عربية، ثم لتواليها وانتقالها من دولة لأخرى على النحو الذي حدث بترتيبه وسياقه وإلا لكان الأشقاء في الوطن العربي من الأحرار والثوار (على الأقل) الذين يعانون لليوم غافلين عن أهم خطواتهم ومفردات وإجمال تفكيرهم!
منظومة كاملة
أما الأقرب للمنطق والعقل فهو أن لحظات ثورية استثنائية في مجملها أتيحت لشرفاء تلك الدول فلم يحسنوا التعامل معها أو إلتقاطها، أو حتى مجرد التنبؤ بها ومن ثم الإعداد لها على مستوى بعيد أو قريب بتجهيز الكوادر المناسبة والسهر عليها، مع تخيل منظومة كاملة قادرة على إدارة ثورة بحجم دولة ارتفع فيها صوتهم المعترض؛ فلم يكونوا أكثر من مجرد تذبذب بالحبال الصوتية للأسف الشديد دون عمل حقيقي أو مثابرة أو جهد، وبالتالي ظهرت أخطاء المقاومين المفترضين بمقدار ظهور عورات الطغاة المغلظة، ومع طول الوقت واستمرار الواقع المزري التقط الطغاة أنفاسهم بصعوبة أولًا ثم بتؤدة وتفكير وإخلاص، فأشاعوا أنهم وراء ما حدث بناء على تنبؤ عام غائم لأجهزة تخصهم، وفرقوا قوى ثورية أو طوائف وقبائل وعشائر مختلفة مع بعضها من الأساس؛ فلم تكن على مستوى المسؤولية لما حانت لحظتها، وفي النهاية جاءت الحقائق مخزية وبدلًا من جميل تدبرها واستخلاص الدروس منها وإمعان العمل والبناء قدر الإمكان لغد قريب بمحاولة التخفيف من أحوال المضارين والبحث عن مخرج لأحوالهم، مع ترتيب الأوراق للغد البعيد بالتفكير في إعادة النظر في المسير بأكمله وتهذيبه وتقنينه استسلموا لمقولات من هنا وهناك مثل الفورة والمؤامرة وكونهم إصلاحيين لا ثوريين وفارق بكاء اليوم عن غد والتمزق والتفرق، وكأنه ليس في القاموس العربي غير تلك المفردات من عمل ناضج مثمر يقود لصبح يتراجع فيه الطغاة رويدًا، وكأننا كُتِبَ علينا أن نعيش في زمان وأوان يستبسل فيها الطغاة والخونة ويعيشون ويتوغلون بناء على غباء مستحكم لمقاوميهم ولو كانوا سلميين!
إن الذين خانوا ربيعنا العربي الذي طال انتظار الملايين واشتياقهم له ليسوا فحسب طغاة ومستبدي العسكريين ونخبا بكت على مصلحتها لا أوطانها ودواليب الدول العميقة التي كانت خنجرًا في روحها لا أداة لتيسير وتسهيل مهام الأشقاء من مواطني أمتنا، فتعاونوا جميعًا مع الغرب في صورة حكام مستبدين لا يريدون لحضارة أن تشرق بالعدل والإنسانية وكسر حصار منظومتهم المادية، إلا أن الصورة لن تكتمل إلا بتوضيح أن مندسين وغير مخلصين اندسوا وسط قادة الربيع العربي، ومن حسن أقدارهم أنه لم يكن له قادة بالإجمال، فخان هؤلاء الأمانة والأمة بمهارة لما فرطوا في شرفهم وكرامتهم وتولوا مناصب لم يكونوا مؤهلين لها أو على دراية بها، أو طمعوا في الحكم وصولًا حتى لحقير المناصب فدب الخصام والشجار واللجاج بين جميع القوى الوطنية، وكان السلاح قريبًا لبعضهم، والفرقة أقرب للآخرين، ومن هنا أوتي الربيع العربي والأمة قبل أن ينتهز الأعداء الفرصة وينقضوا على الجميع ويوم نحسن قراءة المشهد لتغييره يوشك فجر الأمة أن يشرق مجددًا!
كاتب مصري
الربيع العربي إنتهى بلا رجعة لأن الربيع لا ينفع مع هؤلاء الطغاة!
القادم هو خريف مظلم بوجه الظلمة!! ولا حول ولا قوة الا بالله