الروائي ناقداً: إمتاع كويتزي ومؤانسته

حجم الخط
3

أن يقرأ المرء تحليلات نقدية، معمقة ورصينة، يكتبها روائي ذو باع ومكانة مثل الجنوب – أفريقي جون ماكسويل كويتزي (نوبل الآداب 2003)؛ أمر ينطوي على متعة خاصة، بالغة النفع معرفياً وفنياً (في تقدير هذه السطور)، حمّالة سلسلة من الدلالات تتجاوز إطلالة كاتب متمرّس على أساتذته، ممّن تتلمذ على أيديهم غيابياً بصفة خاصة، أو على زملاء المهنة في أزمنة ماضية أو راهنة أو مستقبلية. بُعد أضافي، لا يقلّ منفعة، أن تشمل تلك القراءات أجناس كتابة أخرى غير السرد؛ كالشعر أو بعض المسرح، أو ذلك الطراز الاستثنائي من كاتب (صمويل بيكيت، مثلاً) يجمع بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والشعر.
كتاب كويتزي الأحدث «مقالات متأخرة: 2006-2017»، الذي صدر في طبعة جديدة العام الماضي ضمن منشورات Text الأسترالية، ضمّ 23 مقالة، تبدأ من كلاسيكيات بريطانية لأمثال دانييل ديفو ونثانييل هوثورن، وتمرّ على الألماني غوته والفرنسي فلوبير والإسباني خيمينيث والأسترالي باتريك وايت، ولا تنتهي عند ترجمة هولدرلين وشعر زبغنيو هربرت وليس موراي. في مجموعات لاحقة كما تعدنا دار النشر، تضمّ مقالات أقدم ربما، قد تُتاح للقارئ عودة حميدة إلى مقالة كويتزي عن نجيب محفوظ، التي نشرها سنة 1994 في «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، وشملت قراءة روايات «الحرافيش»، «زقاق المدق»، «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، «بداية ونهاية»، «أولاد حارتنا»، «اللص والكلاب»، «ثرثرة فوق النيل»، و»رحلة ابن فطومة».
ليس هنا المقام المناسب لمراجعة كتاب كويتزي في الحدود الدنيا لإنصاف قراءاته المختلفة هذه، لكنّ الحديث عن كويتزي يقود هذه السطور إلى سمة خاصة تقترن بحال الأكاديمية السويدية عند تبيان حيثيات منح الجائزة إلى تلك أو ذاك من الكاتبات والكتّاب؛ وهو تفصيل يذهب أبعد من ثراء اللغة أو فقرها، وبراعة الصياغة أو بؤسها، فينتهي إلى كشف (ولا حرج في الحديث عن: تفضيح) حضور الخفايا السياسية أو غيابها خلف اختيار الفائزة والفائز. في عبارة أخرى، حين ترتقي المعايير التي تعتمدها الأكاديمية السويدية في الاختيار، فإنّ لغة الحيثيات التي تتوسل تقريظ الفائز إنما ترتقي بدورها، سواء في محاجّاتها النقدية أو في صياغتها اللغوية الصرفة.
خذوا، هنا، ما قالته الأكاديمية في مديح كويتزي: «مثل ذلك الرجل في لوحة ماغريت الشهيرة، الذي يتفحص عنقه في المرآة، فإنّ شخصيات كويتزي تنتصب خلف نفسها في اللحظات الحاسمة، لابثة بلا حراك، عاجزة عن المشاركة في ما تقوم به هي نفسها من أفعال. غير أنّ السلبية ليست ذلك السديم القاتم الذي يبتلع الشخصية فحسب، بل هي أيضاً الملاذ الأخير المفتوح أمام الكائنات البشرية وهي تتحدّى نظاماً قمعياً عن طريق الحيلولة دون إخضاع نفوسها لما يبيّته ذلك النظام. وفي استكشاف الضعف والهزيمة ينجح كويتزي في التقاط الومضة المقدّسة داخل الإنسان».
وخذوا، على سبيل المقارنة مع مثال نظير معاكس، ما قالته الأكاديمية ذاتها عن الهنغاري إيمري كيرتيش، نوبل الآداب لسنة 2002: «يستكشف إمكانية استمرار العيش والتفكير كفرد في حقبة يزداد فيها اكتمال خضوع البشر لقوى اجتماعية»؛ وكتاباته: «تعود بشكل حثيث إلى الحدث الحاسم في حياته: الفترة التي قضاها في أوشفيتز، إلى حيث اقتيد وهو فتى يافع خلال الاضطهاد النازي ليهود هنغاريا»؛ وأخيراً: «أوشفيتز بالنسبة إليه ليست واقعة اسثنائية توجد، مثل كائن غريب، خارج التاريخ الطبيعي لأوروبا الغربية. إنها الحقيقة القصوى للانحطاط الإنساني في الوجود الحديث».
الأرجح أنّ الاعتبار الأخير هو الذي يختصر جوهر السبب في منح الجائزة إلى كيرتيش، كما يفسّر ذلك الحماس المشبوب الذي أتاح لأعضاء الأكاديمية السويدية أن يتحدثوا عن «عشوائية التاريخ البربرية»، دون كبير تبصّر في محاذير هذا الحكم الفظّ والعدائي ذي النبرة الإطلاقية الجلية. ذلك لأننا، في واقع الأمر، لا نعثر في أيّ من أعمال كيرتيش على أنساق أو مستويات أو أشكال من «عشوائية التاريخ البربرية»، أكثر ممّا نعثر عليها في مئات، وربما آلاف، الأعمال التي تناولت الأنظمة الشمولية (سواء أكانت شيوعية في أوروبا الشرقية، أم نازية وفاشية، أم دكتاتورية عسكرية هنا وهناك في العالم).
وهكذا، حين تمنح الأكاديمية نوبل الآداب لأسباب تتغلّب فيها الاعتبارات السياسية على اعتبارات الفنّ، فإنّ لغة الحيثيات تميل إلى ما يشبه التأتأة والغمغمة والبحث عن الذرائع كيفما اتفق. وحين يحدث العكس، أي حين تكون معايير الفنّ هي السيّدة، فإنّ البيان الصحفي الذي يصدره عجائز الأكاديمية يأخذ صفة النصّ النقدي الرفيع، الذي لا يثبّت الأحكام المطلقة ويحشد الإجابات بقدر ما يطرح الأسئلة ويفتح فضاء التأمّل. وإذا كانت الأكاديمية قد أعلنت، بصراحة غير معهودة، أنّ قرارها تكريم كويتزي كان سهلاً للغاية، فالأرجح أنّ صياغة الحيثيات لم تكن بالسهولة ذاتها، تماماً كحال الأدب الذي حاولت امتداحه.
ذلك لأنّ أدب كويتزي ليس من النوع الذي يخضع للتصنيفات السهلة، سواء في موضوعاته وأشكاله وخصائصه الفنية، أو من حيث موقعه في الأدب الجنوب – أفريقي من جهة ثانية، وكتلة الآداب الواسعة المتنوعة التي تتصدّى لموضوعة التمييز العنصري (الأبارتيد) من جهة ثالثة. وكذا الحال بخصوص قراءاته النقدية، لجهة الإمتاع والمؤانسة والمعرفة…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حكيم:

    “وهكذا، حين تمنح الأكاديمية نوبل الآداب لأسباب تتغلّب فيها الاعتبارات السياسية على اعتبارات الفنّ..” تذكرت بوب ديلن و نوبل للادب التي منحت له .
    بوب ديلن لا تعرفه آداب و لا بعرفها، فما كان معيار اختياره لها؟ كانت تلك سقطة خدشت سمعة نوبل و مصداقيتها.

  2. يقول أبو لحية:

    شكرا صبحي حديدي امتعتنا بمقالك الرشيق.

  3. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

    شكرا للأخ صبحي حديدي على التذكير بالكتابات النقدية للروائي الجنوب-أفريقي جون ماكسويل كويتزي! وبالمناسبة، في عدد من رسائله كذلك قد تطرق هذا الروائي إلى ظاهرة هامة جدا، وهي ظاهرة انتحال بعض العبيد الأذلاء لأسماء أسيادهم على مر الزمن، لكنها لم تنل الدرس الوافي في الواقع – وأذكر هنا أن الأخت آصال أبسال قد وعدت بإنجاز هذا الدرس قريبا على ضوء التمييز الذي ميَّزه الثائر الأفرو-أمريكي مالكوم X بين «عبيد المنازل» و«عبيد الحقول»: ننتظر هذه الدراسة الهامة بفارغ الصبر !!!؟

إشترك في قائمتنا البريدية