«سائق التاكسي» لسكورسيزي… عن النظام الذي لا يتغير

حجم الخط
0

قبل الدخول في عالم فيلمنا هذا، وهو عالم معقّد، لا بد من طرحٍ ولو سريع للسياق الذي أتى فيه «سائق التاكسي» الذي سيصير، مع تراكم تأثيره، جزءاً أساسياً من مكوناته، بأثر رجعي. السياق هو السينما الأمريكية المضادة، المتمردة على سينما العصر الذهبي لهوليوود، سينما الأفلام الخاضعة لأنظمة كتابية وتصويرية وإخراجية صارمة. فيلمنا هذا كان واحداً ضمن موجة واسعة أسست لسينما جديدة في الولايات المتحدة، أو ما بات يُعرف بالجيل الجديد في هوليوود.
عاملان كان لهما التأثير الأساسي لهذا الجيل، الأوّل هو حرب فيتنام والحراكات المناهضة لها، التي ارتبطت كذلك بحراكات سابقة كانت في أوروبا، اجتماعية وسياسية وثقافية، وهذا ما يؤدي بنا إلى العامل الثاني وهو تأثير السينما الأوروبية («الموجة الجديدة» في فرنسا تحديداً، السابقة والمواكبة لثورة مايو/أيار 1968) على الجيل الجديد في هوليوود، المتحرر من قوانين وأنظمة الاستديوهات الكبرى.
كان أحد أبرز الأسماء في «الثقافة المضادة» الأمريكية، سينمائياً، جون كازافيتس، الذي بدأ باكراً، في الستينيات، صناعة أفلامه المستقلة. لحقه بعد أعوام قليلة جيل من السينمائيين، من بينهم كان مارتن سكورسيزي، إلى جانب ستانلي كوبريك وبراين دو بالما وفرانسيس فورد كوبولا مايكل تشيمينو وميلوش فورمان وآخرين. ومن بين أفلام هذا الجيل، والحديث عن السبعينيات، كان «سائق التاكسي» لمارتن سكورسيزي، الذي نال عام 1976 السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي.
استقلّ هذا الجيل نسبياً عن الاستديوهات التي انفتحت على خيارات جديدة في أمريكا ما بعد حرب فيتنام، وكانت لذلك الجيل أفلام أساسية ومؤسسة لتلك المرحلة، تناولت الحياة في الولايات المتحدة بواقعية لا تشبه في شيء المثالية الأخلاقية والسذاجة السردية في أفلام الحقبات السابقة (على أهميتها).

في «سائق التاكسي» ((Taxi Driver، المعروض حالياً على منصّة نتفليكس وهو أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما، في الفيلم الذي لاقى تمنّعاً من استديو الإنتاج الذي حدّ من انتشاره، قاطع سكورسيزي ما بين الحالة الاجتماعية الخارجية لشخصيته الرئيسية ترافيس (روبرت دو نيرو) والحالة النفسية الداخلية له، الأولى في مرحلة ما بعد الحرب، وترافيس كان جندياً في فيتنام، والثانية تعود إلى شعوره المتطرف بالوحدة، ومشاعر كره لآخرين تتراوح بين العنصرية ورهاب الأجانب. هو تقاطع معقد يضع ترافيس أخيراً في موقع بطل قومي تتداول الصحف اسمه، لا لقتاله في فيتنام ولا لنشاطه الانتخابي، الذي حاول، للتقرب من فتاة، الدخول فيه عن جهل تام، ولا لعمله ساعات طويلة، بل لمحاولته، ودون مبرر مقنع، فهذه شخصيته غير المتوقَّع منها سلوكها، إنقاذ فتاة من استغلال جنسي. هذه التشابكات التي لا تسمح لأحد بالقول مطمئناً إنّ ترافيس شخصية شريرة أو طيبة، تعود بشكل أساسي لتشابكات حالتيه الخارجية والداخلية، ولتغيّرات في أين وكيف يستخدم أسلحته، وقد منح سكورسيزي، وكاتب الفيلم بول شرايدر، الجانب الداخلي لترافيس المساحة الأوسع، وهو الوحيد المرفوض من زملاء العمل في سيارات الأجرة ومن فتاة حاول مصاحبتها.
هذا التشابك يوحي به الفيلم من مشاهده الأولى، موسيقى جاز سوداوية في نيويورك الغائمة ثم المعتمة، ترافيس في سيارته الصفراء نشاهد من داخلها، من خلاله، الحياة الليلية للمدينة، بألوانها وقذارة شوارعها، وملاحظات ترافيس العنصرية التي يتداخل فيها كلامه عن القذارة على الأرصفة والشوارع، برغبته في تنظيف المدينة وأحيائها (من سكّانها). وهو ما سيحاول فعلياً القيام به كما يراه، من دافعه الكاره للآخرين المحفّز، ذاته، إلى إنقاذ طفلة من بعض هؤلاء الآخرين. ما يجعله، أخيراً، شخصية عابرة لتصنيفات الجيّد والسيئ، الطيب والشرير، المخلّص والمجرم، ففيه مبررات لأي من هذه التوصيفات المتناقضة.
يجسّد ترافيس حالة إحباط على أكثر من مستوى، وهو المرفوض اجتماعياً وشخصياً، هو الحالم بعلاقة مستقرة وعمل دائم. ولا يكون الخروج من إحباطه هذا سوى بجريمة جماعية يكون فيها المخلّص الطيّب، لكنّ الجريمة التي كانت فعلاً صالحاً للمجتمع (حسب الصحافة الشعبية) كانت أخيراً ما استطاع عليه، كانت ضد أفراد صغار في مجتمع واسع، يمكن لترافيس فيه أن يشتري ما أراده من الأسلحة، كما يمكن لغيره استغلال قاصرات جنسياً، ولم يكن هؤلاء الهدف الأوّل لترافيس، وهنا معضلته الأساسية، بل كان المرشّح للرئاسة، وقد حاول ترافيس من خلال الإعجاب المفتعَل به، التقرب من فتاته. فشله في محاولة اغتيال المرشّح، وهو الممثل الأوّل للنظام المسيطر في ذلك البلد، بعدما رفضته الفتاة، أودى به، فشله، إلى عملية القتل البديلة، حيث يموت الصغار ويبقى الكبار، هي عملية لا تغير من المجتمع في شيء، ولا تغير في خطاب المرشّح صاحب شعار شعبوي إقصائي هو «نحن الشعب» ليكون ترافيس أخيراً، صناعة مجتمع الولايات المتحدة ما بعد الحرب، حيث الخطاب الشعبوي الرسمي (الفاشي بصورته المتطورة) وحيث الإعلام المحوّل لشخصية معقدة كترافيس بطلاً شعبياً، في سبب صريح هو قتله لما سمّته الصحافة «أفراد العصابة» وسبب متضمَّن هو عدم قتله، أو عدم قدرته على قتل/اغتيال، المرشّح للرئاسة، الممثل للنظام القائم والمستقر والدائم. الضامن لاستمرارية الولايات المتحدة بشكلها المفرّخ للكثيرين من أمثال ترافيس.

كاتب فلسطيني سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية