لندن ـ “القدس العربي”:
أشارت مجلة “إيكونوميست” في تقرير لها إلى اهتمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالقطاع الخاص، قائلة إن اللباقة ليست بدلة يحسن ارتداءها الديكتاتور الذي سيطر على السلطة في انقلاب عام 2013، فطالما حاضر شعبه بأنه يعاني من السمنة ووبخ القادة الأجانب لذكرهم سجل نظامه في حقوق الإنسان، إلا أنه وجه النقد إلى حكومته، ففي افتتاحه لمصنع كيماوي في 28 كانون الأول/ديسمبر لاحظ الرئيس أن الدولة ليست جيدة في إدارة الاقتصاد وقال “نريد قطاعا خاصا” و”ثبت عجزنا في الإدارة”.
وأثار كلامه دهشة المدراء التنفيذيين في مصر ولكن ليس استنتاجه الأخير، لأنهم ظلوا وعلى مدى السنين الماضية يشتكون من المنافسة غير العادلة مع الشركات التي تملكها الدولة وتتمتع بالإعفاءات الضريبية والامتيازات الأخرى، في وقت أثر فيه توسيع الإمبراطورية الاقتصادية للقوات المسلحة على الشركات الخاصة.
وحذر صندوق النقد الدولي في 2017 من أن هذا سيعيق النمو، وكان هذا الكلام صحيحا. فالنمو السنوي كان 4% في الفترة ما بين 2015- 2019 وظل فوق 3% طوال فترة الوباء، إلا أن معظمه جاء من قطاع الغاز الطبيعي المزدهر والنفقات العامة السخية، فقد أظهر مؤشر مديري المشتريات، وهو مقياس للنشاط التجاري، انكماشا في الأشهر الستين الماضية باستثناء تسعة أشهر. كما وانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر من 3.4% بالنسبة للناتج المحلي العام في الفترة ما بين 2016- 2017 إلى نسبة 1.3% في الفترة ما بين 2020- 2021.
وتقول المجلة إن السيسي تناول في خطاباته الأخيرة المشكلة واعترف بوجودها، وهو وإن لم يكن آدم سميث إلا أنه وصف القطاع الخاص بشريك الدولة، مع أن بعض رجال الأعمال رحبوا بتغير النبرة. وقامت مصر بتشجيع من صندوق النقد الدولي، بخطوات لتحسين المناخ التجاري.
ومع ذلك فمن الباكر القول، هذا إذا كان السيسي جادا في حديثه عن الحد من دور الدولة، إن نمو القطاع الخاص سيحدث سريعا. ويبدأ الجدل المتفائل من البيروقراطية الخبيثة، ففي 2017 أقر البرلمان قانون الاستثمار الذي منح عددا من المحفزات، وهو واحد من شروط القرض الذي قدمه صندوق النقد الدولي بـ 12 مليار دولار قبل عام. وفي عام 2018 أقر البرلمان قانون الإفلاس، الذي ألغى فعليا تجريم التخلف عن السداد. وبدأت الوزارات بالعمل في الخدمات الرقمية بما فيها تسجيل الأراضي. وفي العام الماضي بدأت مصر خدماتها الرقمية للزبائن، مستبدلة هذا بالفوضى القديمة من الأوراق والأختام. وهو ما سيسهل على الشركات تخليص بضائعها في الموانئ والدولة للحصول على العوائد المالية.
وعندما وصل السيسي إلى السلطة كان انقطاع التيار الكهربائي إزعاجا دائما للمصريين وكارثة على الصناعة. أما اليوم فمصر لديها طاقة أكثر مما تحتاج إليها. وتوفر حقول الغاز في البحر المتوسط كميات كبيرة من الطاقة لثلاث محطات جديدة تعمل بالغاز والتي تنتج مجتمعة 14.4 غيغاوات. وزاد حجم الاستثمار في الطاقة الشمسية حيث يأمل الوزراء بتصدير الفائض منها قريبا. وأنفقت الحكومة مليارات على بناء الطرق والجسور لتخفيف حدة الازدحام وتم افتتاح منطقة صناعية في منطقة قناة السويس التي جذبت استثمارات من الصين والإمارات وروسيا. وتضاعفت قوة “برود باند” التي كانت بطيئة بالمعايير الدولية ستة أضعاف منذ 2018. وتقول المجلة إن هذه التطورات تعطي قاعدة للنمو، لكن هناك عدة أسباب تدعو إلى الشك، منها وأولا إن كان السيسي الجنرال السابق يعني ما يقول.
ويتحدث بعض رجاله عن تخصيص الشركات التي يملكها الجيش، لكن دوره غامض ولا يعرف أحد حجم أملاكه، ففي عام 2016 قال رئيس الوزراء شريف إسماعيل إن الجيش سيخفض من نشاطاته الاقتصادية بعد عدة سنوات، وبدلا من ذلك توسعت النشاطات. ثم هناك وكالة المخابرات الوطنية التي تصر على فحص المستثمرين الأجانب. وبحسب مدير تنفيذي “إن لم يكن لديك مساهمون أجانب في شركتك، فالحصول على موافقة تحتاج عدة أيام” و”لو كان لديك واحد، فالموافقة تحتاج إلى شهر، شهرين أو ثلاثة أشهر”.
وحتى لو تراجع دور الجيش والأمن فهناك أسئلة حول ما ستنتجه الشركات المصرية وأين ستبيع. فمعظم هذه الشركات تعمل على واحد من طرف سلاسل التوريد. ومعظم الصادرات المصرية هي سلع أولية. وعلى الجانب الآخر فإن البضائع التامة تعتمد على مدخلات من أماكن أخرى. ويقدر البنك الدولي أن نسبة 20% من صادرات مصر الكهربائية تعتمد على مكونات محلية. أما صناعة السيارات فتحصل على ربع قطعها من السوق المحلي، مقارنة مع 60% من شركات صناعة السيارات في المغرب. ولكي تخلق مصر فرص عمل جديدة فعليها أن تصنع هذه المنتجات لا أن تقوم بتجميعها. ويقول مدراء إن الشركات التي تملكها الحكومة هي عقبة إلى جانب التعليم الفقير والتدريب والتمويل المكلف، ولا يمكن حل أي من هذه المشاكل بطريقة سهلة.
وبالنسبة للسوق الداخلي، فقد تركت سنوات من الضرائب وقطع الدعم المستهلك المحلي في حالة تقشف دائمة. فثلث المصريين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي أو يعيشون على 857 جنيها مصريا في الشهر (54 دولارا). كما لا يتوقف تذمر الطبقة الوسطى من الرسوم الجديدة التي لا تنتهي. وفي كانون الأول/ديسمبر أعلنت وزارة التعليم عن رسوم جديدة على الامتحانات الإلزامية المطلوبة للتقدم. وأعلن السيسي في 18 كانون الثاني/يناير عن زيادة الحد الأدنى من الأجور إلى 2.700 جنيه في الشهر، وهي الزيادة الثالثة منذ توليه المنصب عام 2014 عندما كان 1.200 جنيه. وهذه الزيادة ليست سخية كما تبدو، لأن الحد الأدنى من الأجور لم يتناسب مع التضخم. فالقوة الشرائية للأجور التي يحصل عليها المصريون لا تقارن بقوتها قبل ثمانية أعوام. كما أن القرار لا يهم ثلثي المصريين الذين يحصلون على أجورهم بطريقة غير رسمية.
وبشكل إجمالي فنسبة 80% من الشباب في سن العمل إما عاطلون في بيوتهم أو يعملون بوظائف غير آمنة وبأجور منخفضة. وستكون السنوات المقبلة صعبة، فالسلع المكلفة ستؤدي إلى زيادة التضخم في بلد تشكل السلع الغذائية المستوردة نسبة 21%. وهناك مظهر آخر للقلق وهو الدين العام الذي أصبح بنسبة 91% من الناتج المحلي العام، بزيادة عن نسبة 73% قبل عقد. وتشكل خدمة الدين نسبة الثلث من العوائد. واعتمدت الحكومة في تمويل مشاريعها العملاقة وصفقات الأسلحة على المستثمرين الأجانب المتعطشين للفائدة. وبحسب وكالتي التصنيف موديز وفيتش فإن مصر أقل من كونها جيدة أو يقينية. وتواجه مصر اليوم معدلات فائدة مرتفعة في أمريكا والدول الغنية الأخرى، مما سيقلل من العائد النسبي للديون المصرية ويخفف من حماس الأجانب.
وسيؤدي ارتفاع أسعار السلع إلى توسيع فجوة العجز التجاري. وصنفت “إيكونوميست” في تحليلها للأسواق الناشئة مصر في المرتبة الثالثة من الدول الأكثر عرضة لسياسات مالية متشددة في الاحتياطي الفدرالي الأمريكي.
وتقول المجلة إن تحمس السيسي الجديد للقطاع الخاص قد يكون ابن الحاجة، فالدولة لا تستطيع الحفاظ على معدلات عالية في النفقات، وبعد سنوات من قلة الاستثمار بالشركات والناس وتضييق الخناق على المستهلك، فقد لا يكون هذا القطاع جاهزا لحرف الميزان.