ما بعد “الرواية الجديدة”… أو رواية المستقبل

في ظل اجتياح المعلوماتية، وتطور وسائل التواصل والتعبير، كما فقدان العالم لتوازن القوى، وتحول العالم إلى قرية كونية، بدأ الإنسان يفقد ماهيته الصريحة نحو المزيد من الطابع العلاماتي، فقد بات من السهل أن يتحدث عبر اسم مستعار، أو رقم، أو يخلق هوية رقمية، كما بات باستطاعته أن يقيم حواراً مع أي شخص على هذه الأرض، من خلال الألياف الضوئية «الإنترنت» بما في ذلك التسوق، والتعلم، بل أن يعمل من منزله، دون أي اتصال فيزيائي بأحد من البشر، مما يجعل الإنسان أقرب إلى ظل رقمي.

الرواية الجديد: مقدمة الواقع الجديد

ربما لم يعد الواقع هو الواقع عينه، كما ترى الروائية اتالي ساروت، حيث عبرت عن ذلك قائلة: «هذا الواقع لم يعد هو نفسه الواقع الذي عبّر عنه آلاف المرات. الواقع الآن أصبح يتكون من عناصر مبعثرة ضائعة تحت غلاف الظاهر، فكلما كان الواقع جديداً، كان الشكل الجديد شاذاً». ربما تحمل ادعاءات ساروت إشكاليتين تتمثلان في رؤية الواقع والشكل الشاذ الناتج عنه لتحولات البنى الثقافية المشكلة له، ولكن كيف يمكن التعبير عن هذه الصيغة الجديدة.
الإجابة تأتي من خلال أبرز ممثلي الرواية الجديدة، ألن روب غرييه، في رؤيته للواقع الجديد المتمثل في عصرنا الحاضر، إذ يؤكد أن عالمنا مختلف عن عالم بلزاك من حيث إن الإنسان أصبح لا يدرك مكانته في هذا العالم، وهذا ما يقودنا إلى الخطيئة، التي يصفها البيريس: «الخطيئة هي محاولة شرح كل شيء قبل فهم أي شيء». ومن هنا، يمكن القول إن الرواية الجديدة تعدّ تصوراً سابقاً أو منطقياً لمستقبل الرواية في زمن الحقبة الرقمية، فجميع المؤشرات تشير إلى أن الواقع أصبح شكلاً مراوغاً من الصعب الإمساك به، وهذا ما يفرز طرق تعبير وأشكالاً شاذة، وهذه الأشكال تعني إحداث تصور روائي جديد يعبر عن المرحلة الطارئة.
يلقي جيريمي هورثون، الضوء على مفهوم الرواية الجديدة قائلاً: «تعد الرواية الجديدة من التطورات الحديثة نسبيا النابعة في فرنسا، حيث تتعرض التقاليد المتعارف عليها للإنشاء التخيلي للتشويه والاستهزاء المقصود، بهدف إرباك القارئ، للحصول على نوع مختلف من التأثير، وبهذه الطريقة يمكن رؤيتها كشكل متطرف للحداثة».
إن مدرسة الرواية الجديدة كانت تطوراً طبيعياً أو حتمياً للرواية، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، فكلتا المدرستين من وجهة نظر لوسيان غولدمان ترتبطان بمراحل من تاريخ الاقتصاد و(التشيؤ) في المجتمعات الغربية، غير أن الرواية الجديدة عملت على هدم بنيان الرواية التقليدية ومحاولة إفراز أشكال عديدة بتقنيات ورؤى جديدة، ولكن يبقى السؤال الأكثر إثارة وجدلاً، يتحدد بواقع الرواية في زمن العوالم الرقمية، وهنا لا نعني رواية تتخذ من المنصة الرقمية وسيطاً، أو منصة، إنما في القدرة على اختزال الهوية الرقمية الجديدة للإنسان، مع البحث عن بنية سردية جديدة تتناسب مع هذا الطارئ.

مفهوم الرواية الجديدة تحدد من خلال رفضها للشكل الثابت، وبحثها الدائم عن أشكال جديدة في كل مرة، لكن الباحث يستطيع أن يحدد بعض الاتجاهات التي سادت، ومنها على سبيل المثال روايات غرييه، التي يمكن تسميتها بروايات ظواهر لا شخصيات.

التقويض المستمر

إن عملية هدم بنيان الرواية التقليدية، جاء ليعصف بأهم مكونات السرد التقليدي في إفراغ الرواية من الحركة الكلاسيكية، من حيث وضوح العقدة، وتطور الأحداث، وتوازنها، كما يوضح ألن روب غرييه، ما يعني تراجع السرد، ليحل بدلا منه الوصف الاستطرادي، الذي هو تحول عميق في البنية الروائية، التي كانت تقوم على الحدث، فالمعادلة الجديدة التي فرضها رواد الرواية الجديدة، تعني أن الوصف أصبح يشكل المساحة المهيمنة على المتن الروائي، من خلال إعطاء الرواية بعداً أشد كثافة في المعالجة، والتركيز على ظواهر الأشياء عوضاً من تعليلها، فرواد الرواية الجديدة في بحثهم عن الشكل الجديد والشاذ، لا يعتمدون تقنيات واحدة تشكل نهجاً رئيسيا، إنما هم يتفقون على رؤية واحدة مؤداها رفض الرواية التقليدية، وما قامت عليه، ولاسيما الالتزام الأيديولوجي، أو بناء الشخصية على قاعدة التحليل النفسي، أو بث الرسائل، أو أي موقف أخلاقي، فالمعنى أصبح مندغماً في الأشكال التي يخلقها الروائي – كما أشار محمد الباردي في كتابه «الرواية والحداثة» – ما يعني أننا إزاء المعضلة عينها في محاولة الخروج من المحكي، الذي ينتمي إلى ما قبل الثورة الرقمية، غير أن الصيغ الجديدة ربما تأخذ مدى أكبر لتصل إلى المحتوى أو الصيغة الجديدة، كون الواقع ما زال يحفل بعوالق أو ترسبات الواقع التقليدي، أو حتى النموذج الحداثي، وما بعده.
ولعل الشكل الجديد للرواية الجديدة يعني أنك ستجد لدى كل روائي من أصحاب الرواية الجديدة أسلوباً مختلفاً، أو اتجاهاً خاصاً به، وبناء عليه، فإن مفهوم الرواية الجديدة تحدد من خلال رفضها للشكل الثابت، وبحثها الدائم عن أشكال جديدة في كل مرة، لكن الباحث يستطيع أن يحدد بعض الاتجاهات التي سادت، ومنها على سبيل المثال روايات غرييه، التي يمكن تسميتها بروايات ظواهر لا شخصيات، إذ تقوم على نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان، فأغلب أعماله ذات مسميات تختص بتلك الظواهر المجردة والمحايدة، فنجد روايات « الغيرة» و«المتلصصين» و«المتاهة». إن اعتماد غرييه، على الوصف البصري وتركيزه على سطح الأشياء، وإدراكها دون الخوض في ما تمثله هذه الأشياء من مواقف ورؤى أيديولوجية، يبدو لي مقدمة للرواية في زمن الحقبة الرقمية، فلا جرم أن يرفض أعمال سارتر وكامو لالتزامها المطلق، ومن هنا يمكن القول إن الرواية الجديدة كانت مقدمة لزحزحة الرواية التقليدية، عبر اتباع حركة عكسية في الرؤية، أي أنها تتجه إلى الأمور التي لم يلحظها الإنسان، مع أنها ذات قيمة في حياته، فهي أصبحت وصفا لأشياء خارجية سطحية، بموجودها الخاص، دون تدخل للروائي من خلال تعليقاته، والهدف من كل ذلك تحقيق الصدمة، إذ لا وجود لشخصية سيكولوجية، وإنما هناك حضور إنساني لأشخاص لا وجود لهم حسب تعبير البيريس.
إن هذا النسق للرواية يمثل أحد الاتجاهات، وفي المقابل هناك اتجاهات أخرى، فنحن في عصر الشك كما تقول ناتالي ساروت، وهذا الشك ملمح بارز في حركة الرواية الجديدة، فالقارئ لم يعد ساذجا لتقبل كل شيء يقال له، وبالتالي بات يتساءل من قال هذا؟ وإذا كان غرييه قد أوجد رواية الظواهر المجردة، فإن كلا من ساروت وبوتور، أشركا القارئ في اللعبة السردية من خلال استخدام ضمير المخاطب غير المتوقع، للتوحيد بين القارئ والبطل. وهكذا يلاحظ هنا، أن التطور في التقنية السردية المعتمدة في الرواية الجديدة، شكل مقدمة ثورية بغية التخلص من تقنيات الرواية التقليدية، علاوة على إضافة جديدة في البناء الفني للرواية، التي تقوم على إخراج القارئ من سلبيته، ودفعه إلى الدخول إلى اللعبة السردية. وإذا كنت قد تحدثت عن ظاهرة الوصف البصري لدى غرييه وتقنية استخدام ضمير المخاطب لدى ساروت، وبوتور الذي علق الزمن وأجهز عليه تماما في روايته «درجات» التي يصف فيها عدة أماكن في آن واحد، مشكلا انتهاكا واضحا للبنية السردية التقليدية، ولكن كيف يمكن التحقق من الذات في زمن الهوية الرقمية، التي تعدّ أكثر سيولة، إذ لا يمكن التثبت منها، فثمة القدرة على التقنع الدائم، وخلخلة منطق المكان والزمان، الذي يمكن أن يعاد تشييده رقمياً، بل اختلاقه بلا مرجعية.
إن جميع هؤلاء بالإضافة لكلود سيمون وغيره من رواد الرواية الجديدة، لجأوا إلى تقنيات غير مسبوقة في أعمالهم الروائية، كاستخدام طرائق الوهم الذهني زيادة في خلخلة البنيان السردي، من خلال المزج بين الشخصيات الروائية، أو جعل أشخاص يتحولون إلى شخص واحد، كل ذلك بغية هدف واحد، ألا وهو جعل الرواية تعاش من الداخل كما يقول ريمون جان، غير أن هذا الداخل بات غير متعيّن في زمن الهوية الرقمية فثمة من يقوم بالاستبدال الدائم له.

جاءت الرواية الجديدة لتنقض الرواية التقليدية، وكي تتجاوز الرواية الحديثة، من خلال تقنيات وأساليب جديدة لم تعهدها الرواية، إن غرييه وساروت وبوتور وسيمون قد نسفوا البنية الروائية تماما، فإذا كان بلزاك قد قدس الشخصية، وسارتر عبّر عن أزمتها، فإن غرييه محاها تماما، واستبدلها بظواهر سطحية، ولكن هل يمكن أن يعني ذلك أن نقرأ رواية بلا شخصيات، إنما وجود علاماتي يعتمد التمثيل الرقمي؟

التصور المقبل

إن ما تتميز به الرواية بصفة عامة محاولتها المستمرة نحو بناء عالم روائي جديد، فلم تعد تتقبل كل سابق عليها، فهي في حالة رفض دائم، أو تشكل وتحول مستمر متتابع، فشخصيات بلزاك لم تعد مقبولة في عصر الشك الذي لا يتم التعرف على شخوصه من خلال بطاقة هوية، إذ لا يمكن التعرف على ملامحها، ولم يعد تصويرها النفسي مقبولا، فهي شخصيات هائمة بلا قيم ولا طموح، ولا حتى خيال، إنها متوحدة فقط تسجل وفي حالة بحث دائم، وهنا يبدو التفعيل المنطقي كمقدمة لتحولات الرواية في العصر الرقمي.
لقد جاءت الرواية الجديدة لتنقض الرواية التقليدية، وكي تتجاوز الرواية الحديثة، من خلال تقنيات وأساليب جديدة لم تعهدها الرواية، إن غرييه وساروت وبوتور وسيمون قد نسفوا البنية الروائية تماما، فإذا كان بلزاك قد قدس الشخصية، وسارتر عبّر عن أزمتها، فإن غرييه محاها تماما، واستبدلها بظواهر سطحية، ولكن هل يمكن أن يعني ذلك أن نقرأ رواية بلا شخصيات، إنما وجود علاماتي يعتمد التمثيل الرقمي؟
إذا كان من الممكن الخروج بمحصلة، فإنه يمكن الركون إلى أن الرواية التقليدية التي سادت في مطلع القرن العشرين، لم تعد ملبية لحاجات العصر الجديد، ولاسيما بعد سلسلة من الأحداث والتحولات، ما شكل ظهورا لمدرسة الرواية الحديثة التي شكلت أول انتهاك للبناء التقليدي، بخلخلة ذلك البنيان واللجوء إلى تقنيات جديدة، لاسيما تيار الوعي، وتراجع مكانة الشخصية الروائية، وكسر حاجز التسلسل الزمني، ومن ثم ظهور تيار الواقعية السحرية المعتمدة على العجائبي والغريب، ومن ثم تيار مدرسة الرواية الجديدة التي رفضت الشخصية والزمن الروائي، ولجأت إلى أساليب سردية جديدة، كاستخدام ضمير المخاطب، والاعتماد على الوصف الخارجي لظواهر الأشياء، دون أي التزام بأي موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، ومن هنا، يمكن القول إننا مؤهلون للمزيد من التحولات المستقبلية، وفي هذا السياق نسير إلى تطور وتحولات الرواية اللذين يلخصهما عبد الملك مرتاض في ثلاث مراحل: الأولى مرحلة التوهج والازدهار، وتمثلها الرواية التاريخية والاجتماعية، وأهم روادها: بلزاك وزولا وفلوبير وتولستوي، وغيرهم، ومن ثم مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، أو عهد الاهتزاز والتشكيك، وهي المرحلة الوسطى، ويمثلها أندريه جيد وجيمس جويس وفيرجينيا وولف، وغيرهم، وأخيراً مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو مرحلة الرواية الجديدة ورفضها لمفهوم التاريخ، كونه لا شيء خارج اللغة.. ولكن يبقى التساؤل الأهم.. ما هو التصور الجديد للرواية اليوم، أو ربما أعني رواية المستقبل؟

كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الله العقبة:

    اتفق مع حضرتك الرواية ( الطويلة ) نحو الأفول.ربما ستكون الرواية في المستقبل هي القصة القصيرة.الناس غير قادرين على قضاء الأيام الطويلة مع ( كتاب واحد ) إلا في حالات محدودة.الرقمية اختزلت الزمن إلى معشار الزمن التقليدي.حتى الناشرين لا يميلون إلى الرواية الطويلة.لذلك يضعون حدودا لعدد الكلمات لا تزيد على أربعين ألف مفردة..ثمة منْ يرى ان الرواية هي الفكرة ( الثيمة ) لا سرد الأحداث وصراع الشخصيات..فلنكتب الثيمة باسطر قليلة وتطلق على جناح طائر..ستصل إلى الجميع.وبذلك ستكون الرواية ؛ الفن الشعبي الواسع الانتشار مستقبلا كما كانت ألف ليلة وليلة بالأمس مجموعة حكايات شعبية وحكايات فرعية وأخرى تكميلية ، كمراحل نشوء وافول القمر.

إشترك في قائمتنا البريدية