مئة ثانية قبل “يوم القيامة”… ماهو مصير الحضارة الإنسانية؟

هل ستقع نهاية البشرية بعد مئة ثانية كما تبينه «ساعة يوم القيامة» لاسيما في ظل الأزمة المتصاعدة بين روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى، التي قد تؤدي إلى اندلاع حرب نووية تنهي العالم؟ بداية ليس الأمر كما يبدو للوهلة الأولى، فلا علاقة لتعبير «يوم القيامة» هنا بالتعبير الديني، بل المقصود لحظة تدمير العالم وانتهاء البشرية، بسبب حرب نووية. والساعة المذكورة ليست ساعة حقيقية، بل هو مفهوم نظري بحت ابتدعه فريق من العلماء لأغراض غير دينية، بل لأغراض عملية هدفها خدمة الإنسانية.
ولهذه الساعة حكاية مثيرة للاهتمام، ولفهمها علينا العودة إلى بداية أصولها التي صاحبت الحرب العالمية الثانية، عندما قامت مجموعة من العلماء في الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة أولى القنابل النووية في التاريخ، وألقيت اثنتان على هيروشيما وناغازاكي في اليابان. وكان هؤلاء العلماء على دراية تامة بما كانوا يقومون به، وأدركوا القوة المدمرة الهائلة وغير المسبوقة لهذه القنابل، حتى إن أحدهم أرسل رسالة إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان، يحثه فيها على عدم استعمال القنبلة النووية في الحرب. واستُعملَت القنبلة في نهاية المطاف، وانتهت الحرب العالمية الثانية. وشعر بعض علماء جامعة شيكاغو، من الذين اشتركوا في صناعة القنبلة النووية، بأن السياسيين والجمهور لا يملكون فهما متكاملا حول الأسلحة النووية، ومدى خطورتها وقابليتها على محوالحضارة، أو حتى البشرية بأكملها من الوجود بسرعة لا يتخيلها الكثيرون. ولذلك قرر هؤلاء العلماء في اجتماع ضم إلبرت آينشتاين، الذي لم تكن له علاقة بالبرنامج النووي الأمريكي عام 1947 وقرروا إصدار نشرة دورية تحذر العالم من الخطر النووي، وتحتوي على مفهوم رمزي يبين مدى قرب العالم من نهايته، نتيجة لحرب نووية، وإظهار التغييرات الأساسية في مستوى الخطر الذي يؤدي إلى إنهاء الجنس البشري، لكنهم أوضحوا أن الساعة ليست وسيلة للتنبؤ بمستقبل العالم، بل هي توضيح للوضع الراهن في العالم. وكان هذا المفهوم على شكل ساعة، تكون نقطة منتصف الليل نهاية البشرية، أي يوم القيامة بالنسبة لهم، وعقارب الساعة تشير إلى القرب من تلك النقطة. وقاموا بتكليف فنانة كانت متزوجة من ذلك العالم، الذي أرسل تلك الرسالة إلى الرئيس الأمريكي، لرسم الساعة. وأطلقوا عليها اسم «الساعة الذرية» .Atomic Clock وقيل إن سبب اختيار الساعة، كان شبهها بالعد التنازلي الذي يستعمل عند إطلاق الصواريخ النووية. وقامت الفنانة برسم الساعة كاملة، لكنها سرعان ما غيرت الرسم لتجعله يمثل الربع الأخير من الساعة فقط، أي من الدقيقة الخامسة والأربعين حتى الدقيقة الستين. وقد عللت الفنانة تكليفها بهذه المهمة، بأنها كانت الفنانة الوحيدة التي عرفوها. أما النشرة، فسميت «نشرة علماء الذرة» Bulliton of the Atomic Scientists، وأصبحت هذه الساعة أبرز ما فيها.

النشرة الاولى لعلماء الذرة

ويجتمع العلماء كل سنة لدراسة الأوضاع العالمية، ودرجة تطور الأخطار التي قد تودي بالحضارة الإنسانية، ونتيجة لذلك يُغَيّر موقع عقرب الساعة في شهر كانون الثاني/ يناير حسب آخر المستجدات. وتحدث تغييرات بين الحين والآخر، ومنها اسم الساعة، إذ أطلقت الصحف العالمية عليها عام 1968 اسم «ساعة يوم القيامة» Doomsday Clock الذي أصبح الاسم الرسمي لها عام 1972. وشملت التغييرات المعايير كذلك، حيث أخِذَ معيار تغير المناخ عام 2007 بنظر الاعتبار، ثم أضيفت معايير أخرى مثل، الذكاء الاصطناعي والأوبئة، مثل كورونا، والأسلحة الجرثومية والهجمات السيبرانية، والإعلام الكاذب، وحصول دول أخرى، غير روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، على السلاح النووي، وغيرها من العوامل التي هي من صنع الإنسان. وحصل آخر تغيير في شكل الساعة عام 2007.
كان موقع العقرب بالنسبة لنقطة نهاية العالم، أي منتصف الليل، مثار جدل دائم، فالفنانة التي رسمت الساعة جعلت العقرب يشير إلى سبع دقائق، قبل منتصف الليل، دون أن يكون هناك أي سبب علمي لذلك، حيث كان ذلك الخيار اعتباطيا، إذ أرادت الفنانة والعلماء، إعطاء الانطباع بأن هناك بصيص أمل في إنقاذ البشرية، ويقلل هذا الخيار غير العلمي من جدية الأمر برمته. وتغير هذا الموقع أربعا وعشرين مرة منذ ذلك الحين، إذ قُرّبَ العقرب من منتصف الليل ست عشرة مرة وأبعد ست مرات. وأخذ العقرب يقترب تدريجيا من منتصف الليل في السنوات الأخيرة بشكل مثيرا للقلق، فأصبح على بعد دقيقتين ونصف الدقيقة عام 2017 ثم دقيقتين عام 2018 حتى أصبح في أقرب نقطة على الإطلاق في تاريخ الساعة ذات الخمس والسبعين سنة، ليصبح مئة ثانية عام 2020 وبقي في محله دون تغيير منذ ذلك الحين. لكن هذا يثير الاستغراب، فأين تاثير الأزمة الاوكرانية التي أصبحت الشغل الشاغل في الإعلام العالمي والمحافل الدولية، خلال الأشهر القليلة الماضية؟ وعلى سبيل المقارنة، كان العقرب على بعد سبع دقائق من منتصف الليل، عندما كان العالم فعلا على شفا الحرب النووية عام 1962 عندما سببت الأزمة الكوبية مواجهة حقيقية بين الدولتين العظميين آنذاك، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، كادت أن تتطور إلى مواجهة عسكرية نووية حقيقية منهية البشرية، لولا تعقل قادة الجانبين. واعتقد الكثيرون آنذاك أن حربا نووية ستقع لا محالة، لاسيما أن ذلك حدث أصلا في خضم الحرب الباردة، عندما كان تلاميذ المدارس في الولايات المتحدة يتلقون تدريبات للاختباء أسفل المناضد في المدارس في حالة وقوع هجوم نووي، وأخذ الكثيرون يبنون الملاجئ المضادة للقنابل النووية في الدول الغربية، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا. ومن المثير للسخرية أن بعض مالكي هذه الملاجئ أبلغوا جيرانهم أن الملاجئ لعوائل المالكين فقط، وأن أي محاولة من قبل الجيران للاشتراك في استعمالها ستواجه بالأسلحة النارية. وقد برر العلماء القائمون على الساعة آنذاك ذلك الموقع المطمئن والغريب للعقرب، بأن الجانبين النوويين قد استطاعا حل الأزمة في نهاية المطاف والتوصل إلى اتفاقات خفضت من حدة الأزمة.

تغيرات موقع العقرب بالنسبة لنقطة نهاية العالم منذ عام 1947، المصدر فاستفجن

ما أن انتهت فترة الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفييتي حتى ابتعد العقرب عام 1991 عن منتصف الليل بمقدار سبع عشرة دقيقة، مشيرا إلى أن العالم كان في الفترة الأبعد عن وقوع الكارثة بسبب الخطر النووي، وأن العالم أصبح ينعم بفترة غير مسبوقة من السلام العالمي.
تعرضت فكرة «ساعة يوم القيامة» إلى العديد من الانتقادات، حيث اتهمت بأنها في حقيقة الأمر ليست سوى دعاية سياسية. وذكر البعض أن كون رمز الفكرة ساعة يعطي الانطباع، بأن العالم سيقترب تدريجيا من منتصف الليل، أي هلاك العالم، حتى يصله لا محالة في نهاية المطاف وينتهي كل شيء، إلا أن الواقع لا يعطي هذا الانطباع، فالدول العظمى تدرك جيدا خطورة السلاح النووي وتحاول جاهدة تجنب المواجهة النووية، بكل الوسائل مهما بلغت درجة توتر الموقف الدولي، على الرغم من اعتقاد الكثير من الخبراء بأن حدوث خطأ ما أو سوء تفاهم، لم يؤخذ في الحسبان قد يؤدي إلى حرب نووية، خاصة أن الدول النووية تستعمل الذكاء الاصطناعي في أنظمتها العسكرية بشكل يتيح له اتخاذ القرار في إصدار أوامر إطلاق النار في الكثير من الأحيان. وانتقد آخرون مفهوم الساعة، لأنها تسبب توترا وارتباكا مبالغا فيهما لدى المواطن العادي والسياسيين، مما قد تكون له نتائج عكسية تزيد من احتمال نشوب حرب نووية. ولا يمكن أن يكون لدى العلماء المسؤولين عن هذه الساعة المعلومات المتوفرة لحكومات الدول العظمى، ما يعيق التوصل إلى استنتاجات واقعية بالنسبة لهؤلاء العلماء، الذين لا نعرف ظروفهم ومعتقداتهم السياسية، التي قد تؤثر في أحكامهم. لكن هناك سؤالا آخر لم يتبادر إلى ذهن المعلقين، ألا وهو، اذا كان هؤلاء العلماء ضد السلاح النووي، فلماذا اشتركوا في صناعته أصلا؟
لم تغب «ساعة يوم القيامة» عن الخطاب السياسي لكبار الساسة العالميين، فمثلا ذكرها في خطاب رسمي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. وكان ذلك في خطاب ألقاه في مؤتمر عالمي عقد في مدينة غلاسكو الأسكتلندية يوم الأول من أيلول/ سبتمبر عام 2021. لكنه قال خطأ، إن العقرب يشير إلى منتصف الليل، إلا دقيقة بينما تشير الساعة في الحقيقة إلى منتصف الليل إلا مئة ثانية.

باحث ومؤرخ من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية