نزار قباني … و»العربي الأخير»

حجم الخط
2

ما زال شعر نزار قباني (1923- 1998) حاضراً بقوة في الوجدان العربي، يستحضره، هذا الأخير، في لحظات الحب والحرب، وفي أوقات الانتكاسة والهزيمة، علّه يجد فيه تفسيراً لما آل إليه الواقع العربي المثقل بالهزائم والأزمات؛ شاعرٌ تسحرك كلماته، وتأسرك ألفاظه، وتدهشك عبقرية استشرافاته، عندما تتلو شعره عن المرأة، وتغزله بها جسداً وروحاً، ستقول عنه إنه شاعرُ المرأة بامتياز، جعل موهبته من أجل أن يصف هذا المخلوق بشتى الأوصاف والنّعوت، وكرّسها من أجل تحرير نظرة العرب القاصرة نحو المرأة؛ فعلى الرّغم مما يقوله عنها في قصائده الماتعة، التي تقترب في بعض الأحيان إلى درجة هتك الستر والعفة، غير أنّه، في الواقع، كان يرمي من وراء ذلك إلى تصويب النظرة الاختزالية للمرأة، ذلك أنّ العربي ما زال مسكوناً بفكر القبيلة ورجالها الفحول، ولعل هذه النظرة الاختزالية راجعة، في الأساس، إلى الموروث الثقافي والعادات والتقاليد البالية، التي تحكّمت مع مرور الوقت في النّفوس إلى أن صارت في مرتبة المقدس، بحيث يتوجب الخروج عنه، في بعض الأحيان، عقاباً معنوياً، وقمعاً رمزياً.
وعندما تنتقل إلى شعره السياسي، حتماً ستخلد إلى سكنى شعره الأخاذ؛ فبين رثاء لماضي العربي، وهجاء لحاضره، وتوجّس من مستقبله، سينقلك في رحلة إلى التعرف على بطولات الماضي البعيد والقريب، مستذكراً رموزاً عظيمةً، خلّدت اسمها في التّاريخ، بما قدمته من بطولات وتضحيات، لم يكن همّها، في واقع الأمر، أن تخلّد اسمها، وتدخل التّاريخ، بقدر ما كان همّها الأساسي القيام بواجبها المفروض عليها.
إن ما يعيشه العرب في هذه الأيام من قتل بلا طائل، وتشريد للشعوب، وتدمير للأوطان، هو، في حقيقة الأمر، إمضاء على شهادة وفاة «العربي الأخير» الوفاة التي كتب عنها نزار قصيدته المشهورة «متى يعلنون وفاة العرب» التي جاء فيها:
أحاول – مذ كنت طفلا، قراءة أي كتاب
تحدث عن أنبياء العرب.
وعن حكماء العرب.. وعن شعراء العرب..
فلم أر إلا قصائد تلحسُ رجل الخليفة
من أجل جفنة رز.. وخمسين درهم..
فيا للعجب
ولم أر إلا قبائل ليست تفرق ما
بين لحم النساء..
وبين الرطب..
فيا للعجب!
وبما أنّ «العربي الأخير» يعيش في سلبية وانهزامية، وفي ضياع وتيه؛ حيث أضاع فرسه، وسلّم سيفه، واستبيحت أرضه، فإن أضعف إيمانه، ومبلغ قدرته، أن ينزوي إلى إحدى زوايا بيته، كي يشاهد حروبه، ويتفرج على معاركه، ويترقب نصراً من الله، لعله يأتي إليه على شاشة التلفزيون، وفي ذلك كتب:
وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزة…
فقتلى على شاشة التلفزة…
وجرحى على شاشة التلفزة…
ونصر من الله يأتي إلينا.. على شاشة التلفزة.
وفي آخر هذه القصيدة يخلص نزار في تأملاته الاستشرافية إلى نتيجة مأساوية ومؤلمة؛ إذ لم يبق من العرب سوى الاسم، وتاريخ مبثوث هنا وهناك، وحكايات تروى في صفحات كتب التاريخ، وتراث معروض في مزاد الأثاث القديم:
رأيت العروبة معروضة في مزاد الأثاث القديم..
لكنني ما رأيت العرب..
هذه النهاية التي كتب عنها نزار منذ سنوات خلت، تكشفه هذه الأيام الصعبة وتؤكده.. نهاية تترجمها حالة القتل المجاني، الذي يطال العربي في كل مكان، من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا.. وكأنّ العربي يعيش في أيامه الأخيرة.
العربي الأخير محاصرٌ في الداخل بالخوف والقمع والقتل، نتاج سياسة عنترة، ليس عنترة العبسيّ، الذي ينتظره العربي بفارغ الصبر، ينتظر مجيئه على فرس بيضاء، لكي يفرج عنه كربته، ويرد طوابير الأعداء، كما كتب نزار نفسه في قصيدة: «حوار مع عربي أضاع فرسه» لكن عنترة المقصود هنا هو عنترة، الذي يعتقد نفسه بأنّه نصفُ إله.. عنترة الذي خُلق الكون من أجله؛ فهو الأول والأخير، وهو المبتدأ والخبر، في سبيل راحته تقدم له القرابين، ومن أجل سلامته تعلن الطوارئ، وتقاد الحروب؛ حربه سلام، وهزيمته نصر، ولا أحد بإمكانه معارضته أو باستطاعته أن يقول له: لا، في حضرته أو حتى في غيابه، ومن يفعل ذلك سيكون مصيره القتل والتّشريد، وفي أحسن الأحوال، السّجن والنّفي.
يصف نزار هذا الـ«عنترة» في قصيدة بعنوان: «هذه البلاد شقة مفروشة» بالقول:
هذي البلاد شقة مفروشة، يملكها شخص يسمى عنتره..
يسكر طوال الليل عند بابها، ويجمع الإيجار من سكانها..
ويطلب الزواج من نسوانها، ويطلق النار على الأشجار..
والأطفال.. والعيون.. والأثداء.. والضفائر المعطرة..
هذي البلاد كلها مزرعة شخصية لعنتره

تفاهة القتل

وتتجلى نهاية العربي هذه، بصورة أوضح، في تفاهة القتل أو القتل على الهوية؛ فالشيعي يقتل السني، والسني يقتل الشيعي، والكردي يقتل العربي، والعربي يقتل الكردي، والمسيحي يقتل المسلم، والمسلم يقتل المسيحي؛ كما أنّه لا يُقتل بسلاح الأعداء وحسب، بل يقتل حتى بسلاح الأصدقاء؛ بمعنى آخر، أنّ عنترة في سبيل إرضاء نزواته النفسية، وإشباع شهواته الشخصية، حوّل «العربي» في الأخير، إلى مشروع للقتل والإبادة.
إن النظرة الاستشرافية لنزار قباني تظهر مرة أخرى في قصيدة: «المحضر الكامل لحادثة اغتصاب سياسية» حيث يصوّر فيها حالة «العربي الأخير» الذي ضاقت به الأرض بما رحبت، وهو في رحلة بحث مستمرة عن حضن يحضنه، أو عن منزل يسكنه، أو عن موطن يأويه؛ لكن، للأسف، دون جدوى، هنا، كأنّه ينقل حالة السوري المتشرد هذه الأيام، وتخاذل العرب، ونكرانهم للجميل تجاهه، حتى المرأة التي دافع عنها نزار، وتغزل بجمالها في قصائده الجميلة، لم تبادل المتشرد الحب، رافضة مساعدته، ناكرة لوجوده، الأمر نفسه ينطبق على التّاجر والثّائر العربي؛ الثّائر الذي يتغنى دوماً بأناشيد التّضحية والبطولة في كل حين، لكنه حينما جدّ الجدّ اختار الطّرف الخطأ، أما التّاجر فقد استثمر ماله في المجون والأجساد العارية كي يشبع غرائزه ورغباته! كلهم أداروا ظهورهم للسوري المتشرد واللاجئ، وتركوه وحيدا، يواجه الموت في البحر، ويواجه قساوة الطبيعة تحت العراء، فضلا عما يلاقيه من صنوف الإهانة وفنون اللامبالاة في عواصم العرب، فلا قاهرة المعز قبلته، ولا تونس الخضراء ساعدته، ولا جزائر جميلة بوحيرد احتضنته، لذا، يطلب نزار من كل هؤلاء الصفح والغفران، لأنه، كما المتشرد، قد أخطأ العنوان..
سَامحُونا
إن تجمعنا كأغنام على ظهر السفينهْ..
وتشردنا على كل المحيطات سنيناً.. سنينا..
لم نجد ما بين تجار العرب..
تاجراً يقبل أن يعلفنا.. أو يشترينا..
لم نجد بين جميلات العرب..
مَرْأَةً تقبل أن تعشقنا.. أو تفتدينا..
لم نجد ما بين ثوار العرب..
ثائراً.. لم يغمد السكين فينا.

كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي سعدون خلف. لست من هواة الشعر عمومًا لكن كنت دائمًا أنظر باعجاب إلى شعر نزار قباني السياسي حيث بالفعل نجد قدرته على رؤية الواقع وترجمته إلى قصائد بقريحته الشعرية القوية.

  2. يقول بن نعوم ابراهيم ...الجزائر:

    اخى الكريم
    لقد سبقتنى فى كل ما قلته وارجعتنى الى ايام نزال الاستشرافية المشرقة بانوار ما كنا نحسد بها حتى اتان اليقينمن حيث لا نحتبس لقد ضاع الامل فى الناس وكرهوا ان يسمعوا او يقراوا عن البطولة والفداء وكفروا بكل عنترية جاءت تفوح رائحتها من بين تصدعات الامل الى ذاب فى اوحال ان هناك فسحة امل وهى على غير ذلك . ان الراهن قراه نزال واحس به واهتزت احاسيسه بوخزاته الا اننا انتظرنا ونظرنا فى القادم بانه عنترة الا انه من طوب ما ان تحمله يقتل فى حامله والمؤمن به والمصفق له مشاعر الاحساس حتى اننى استرجعت نزال فى اشعاره صرنا كالغنم نعلف ونلف لا عقل لنا ولا راس يدبر حالنا او يدبر لحالنا

إشترك في قائمتنا البريدية