لم تتعرض قضية عادلة للتسويق والتسليع والمتاجرة كالثورة السورية، هذه الثورة التي قامت على نظام الأسد الذي طوال سنين حكمه كان حارسا للاستبداد والتخلف ويعيد تدوير إنتاجهم، ولا يمتلك أدنى درجات السلطة الأخلاقية، فعكفت مؤسسات نظامه على تحويل القيم الوطنية، والسياسية، والدستورية، والعسكرية والأمنية، والدينية، والاجتماعية، والثقافية والقانونية والخدمية، إلى سلعة تباع وتشترى في مزاد علني.
التجار والسماسرة
ومنذ سنوات يكابد السوريون الثائرون التشرد والتهجير حتى تحولوا إلى مزار مر عليه جميع سماسرة الفواعل الدولية، وكما ينتج على هامش قضايا الشعوب عادة الكثير من التجار والسماسرة، كذلك هي الثورة السورية حظيت بكم لا بأس به من تجار الأزمات الذين لم يرتبطوا ارتباطا عضويا بمطالب الشعب المهجر والمشرد في ظل ترهل المعارضة السورية وغياب القيادة الممثلة بين حقلي الثورة والسياسة.
فالترابط بينهما تبدل بموجب مقتضيات المرحلة وشخوصها وأولوياتها وشروط المانحين وإفرازات علاقات القوى الموجودة على الأرض.
وغدا المواطن المهجر كرة طائرة بين أيدي اللاعبين الدوليين وتجار الحروب يضغطون عليه ماديا ومعنويا ونفسيا، وبالسلعة الاقتصادية وبقوت يومه، فأصبحت أسعار بعض السلع مضروبة بعشرة وأحيانا بعشرين، وأصبحت أيضا الصورة سلعة يستخدمها اللاعبون على الأرض السورية، كصور اللاجئين والإتجار بهم، وبعدها صور الأطفال لاستمالة الرأي العالمي ليخدموا أجنداتهم ومصالحهم.
السوريون الثائرون على استبداد الأسد أخرجوا من ديارهم قسرا ولم يخرجوا منها، بل انتقلوا بين ألسنة النار، وقتل الكثير منهم، النساء والأطفال والعاجزون والشباب لم يجدوا طريقا للنجاة إلا بالرحيل، فتشتتوا بفعل الذين قرروا اقتلاعهم وتهجيرهم وقتلهم أيضا. وعجز الكثير منهم عن تأمين حياة كريمة في وطنهم، فأخذتهم دروب التهجير إلى المجهول حيث لم تعد حياتهم معلومة في وطنهم، وهم يعيشون اليوم حياة حزينة ومأساوية في ظل انعدام الوازع الأخلاقي للسياسة العالمية التي أصبحت تتلاعب بقضيتهم، وعمدت إلى تسليعها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وليكون المستفيد الأول نظام الأسد وداعميه الذين تسببوا بتهجيرهم ويحاولون استغلال قضيتهم ولجوئهم لتمرير رسائل شتى ولا يريدون إعادتهم إلا وفق توقيتهم، أو إبقاءهم في المخيمات والمنافي، وفرزهم لاحقا لطوائف وقوميات وجماعات، مع العلم أن الذي تسبب بالإجرام والتهجير ليس مؤهلا لاستقبالهم ومعالجة آثار التهجير.
مأساة المهجرين
بعد عشرة أعوام من الثورة مازال المهجرون يعدوّن سنين تهجيرهم، والتي لم تنته باقتلاعهم من أرضهم وتشريدهم في وطنهم ودول الجوار، ومازال بعضهم يحتفظ بمفاتيح بيته وصكوك ملكية أرضه وأوان وفرش رافقته في طريق تهجيره، ورغم تتالي خيباتهم السياسية والإنسانية مازالوا يحتفظون بالحلم ويغلفونه بأجمل الذكريات ويخافون عليه من الضياع وفي كل عام يعيدون سرده ويصيغون أملهم بالعودة.
عملية التسليع لقضية السوريين ترافقت مع نشوء “صناعة ومهننة” الثورة السورية بمؤسساتها السياسية والعسكرية يتقاضى من خلالها شخوص تلك المؤسسات الدعم والأموال مقابل خدماتهم، فقد أقدمت تلك المؤسسات وشخوصها على “مهننة” الثورة وتسليعها وأصبحت الثورة تُفهَم كخدمة مدفوعة الأجر!
وهذا التوصيف لا ينطبق على الثورة الشعبية النابعة من الجماهير الثائرة على نظام الطاغية، فالتسليع هنا هو من شأن المؤسسات وإن غطت ووصفت عملية التسليع هذه بكلمات أخرى لتمويه الحقيقة، وهذا التسليع للثورة ينسجم تماما مع البرنامج السياسي للقوى السياسية التي تسيدت الثورة، والذي لا يستجيب بحده الأدنى لتطلعات الشعب الثائر، ويأتي كذلك كنتيجة حتمية للاعتماد المطلق على الفاعل الدولي بدل الذات، بما فيها المساعدات الدولية المشروطة.
الممثل السياسي للثورة زاد من ضعف ووهن الحاضنة الشعبية للثورة، أضحى الفعل الثوري أو مجرد التظاهر السلمي، هو الاستثناء بدل القاعدة.
وأضحى مصطلح “الثورة” غائبا في أروقة صناع القرار السياسي للثورة، إذ أن هدفهم تمثل ببناء أجهزة أمنية تحمي سلطتهم وضرب وعي الثورة المتمثل بتحرير البلاد والعباد.
فالثورة كأداة بيد الشعب الثائر لنيل حريته والخلاص من طاغية يحكمه أصبحت مسرحا للتلاعب السياسي خصوصا في ظل نظام شخصاني فرداني زبائني، وهو الذي أضعف الثورة، فكرا وممارسة، على مر السنين والذي سهل بدوره عملية تسليعها.
ضعف التحول في العمل الخيري من الإغاثة إلى التنمية في الحالة السورية أدى لتكريس ثقافة التسول الخفي، حيث اعتاد المهجرون استلام المعونات المالية والعينية بشكل دوري ولمدة زمنية محدودة؛ مما ينذر بخطر جسيم يتهدد المجتمع بعد انقطاع الداعم، وكذلك الإبقاء على الفقر، وعدم اجتثاثه والقضاء عليه وتحقيق عوامل الاكتفاء الذاتي للمهجرين، لكن استمرار المنظمات والجمعيات الخيرية في لعب دور «ساعي البريد» بين الداعم والمهجر الفقير، جمع التبرعات وإعادة توزيعها لا يمكن أن يحققا الغاية من العمل الخيري.
جمع التبرعات
المتابع للجدل الحاصل لجمع التبرعات للمهجرين السوريين من أعلى الهرم حتى الشارع، يجد أن جمع المال هو الهم العام بشكل رئيسي وحاد، حيث عززت الحرب التي يتعرض لها الشعب السوري حضور المال كأداة للإعمار، وحلبة للتناطح والابتزاز السياسي المتبادل، وكشفت أن المال هو القضية المركزية لأطراف لا ترى إلا رفاهيتها وحسابات قواها التنظيمية والحزبية تحضيرا لتحديات المرحلة المقبلة والتحكم في السلطة المقبلة من الداخل، أو الحفاظ على السلطة الحالية، وأظهر بوضوح الصراع على توزيع المال السياسي ضمن هيكلية السلطات كمشروع دولي لتحقيق التسوية وتأجيل الصراع بالتسكين المالي.
نتائج التسليع للقضية السورية أدت لتحويل المهجرين على وجه الخصوص، وكل السوريين الثائرين إلى حالة اجتماعية تحتاج التكفل بالحد الأدنى لحياتهم مع المس بكرامتهم وتطلعهم لمستقبل أفضل، على قاعدة إضعاف الجميع لصالح القوى الدولية والحلول التصفوية لثورتهم، والاستمرار في التسليع يعني إذلال الشعب السوري وتمييع قضيته لصالح تسويات دولية وإقليمية باهظة الثمن وذهاب طوعي لتسوية عنوانها العيش مقابل الأمن الهش.
كاتب سوري
مقال بألف مقال
بوركت أخي أبا ساجر