استمرار الاحتجاجات بانتقالها إلى سوق الشام وجبال الساحل السوري هو ما يصر عليه الكثيرون داخل السويداء، فقد أثبتت تجربة السوريين الطويلة أن إحدى أبرز قوى التغيير المؤثرة هي في هذين المركزين.
أمام مقام عين الزمان أو مسجد عقل المسلمين الموحدين الدروز «دار الطائفة» اعتصم مئات المدنيين والنشطاء والفاعليات ورجال الدين، الجمعة، احتجاجا على الوضع الاقتصادي والخدمي المتدهور في مناطق سيطرة النظام ومنها السويداء، رغم هشاشة السيطرة الأمنية والعسكرية مقارنة بالمناطق أخرى. وتحت يافطة كبيرة كتب عليها القول الشهير لقائد الثورة السورية الزعيم سلطان باشا الأطرش «إن كأس الحنظل في العز أشهى من ماء الحياة مع الذل» تكررت عشرات الكلمات من مشيخة الطائفة الروحية وغيرها من رجال الكرامة التي اغتيل قائدها الشيخ وحيد البلعوس في أيلول (سبتمبر) 2019.
وفي اليوم نفسه، شهدت عدة قرى وبلدات حركات احتجاج مماثلة على الوضع المعيشي، ورغم الاستنفار الأمني الكبير لقوات أمن النظام في المدينة، وإغلاق الطرق المؤدية إلى مبنى المحافظة، لم ترصد «القدس العربي» عمليات احتكاك بين قاصدي الوصول إلى مكان الوقفة الاحتجاجية وقوات الأمن داخل السويداء. فيما رصدت عدة شبكات محلية أبرزها «السويداء24 « حادثة إطلاق نار على سيارة مدنية من حاجز لقوات النظام مؤدي إلى مدينة شهبا ويعرف باسم «حاجز شهبا» أصيب إثرها صاحبها، قاسم هيال شلغين، واسعف إلى مستشفى السويداء الوطني ومنها جرى تحويله إلى مستشفى المجتهد في دمشق لإجراء عملية جراحية له، ونقلت الشبكة عن مصادرها في مستشفى السويداء أن إصابته خفيفة.
إلى ذلك، وبعد مداولات طويلة في «مجلس الحراك» المكون من نشطاء ومعارضين تقليديين والذي يحاول ضبط إيقاع الاحتجاجات، وبعد مشاورات مع مشيخة العقل، توصل فجر السبت، إلى التريث في توالي الاحتجاجات، وقال المجلس في بيان نشرته «السويداء 24»: «إننا كمنظمين لهذا التحرك الشعبي السلمي المحق ونتيجة للمباحثات بمجلس الحراك قررنا أن نعطي مهلة لتنفيذ قرارات أهلنا المحقة ضمن دولة القانون والمؤسسات لا دولة الفساد والمفسدين». ولفت «هدفنا كرامة الشعب بالدرجة الأولى وما ينطوي تحت ذلك من العيشة الكريمة التي لا يشوبها الذل والهوان وذلك بناء على توجيهات من الهيئة الروحية. وهذا لا يعني أننا توقفنا عن حراكنا الشعبي، فنحن مستمرون» ونوه البيان دون الخوض في التفاصيل «لن نسمح لأحد بأن يفوت علينا هذه الوقفة لغايات ومقاصد نحن لا نسعى لها. وبعد هذه المهلة يتم التعامل حسب معطيات الواقع» وذكر بالدور التاريخي للدروز السوريين في الاستقلال ومحاربة الاستعمار الفرنسي «نحن صناع القرار ونحن من صنع مجد سوريا عبر التاريخ».
وفي وقت سابق، حَذرت حركة «رجال الكرامة» (القوى المحلية المسلحة المعارضة للنظام) من أن القرارات الأخيرة التي أصدرتها حكومة النظام برفع الدعم عن فئات من المواطنين هي عمل حكومي ممنهج، يهدف إلى تهجير الشعب السوري وتجويعه.
وأشارت الحركة إلى أن «سياسة صناعة القرار في سوريا منفصلة عن الواقع، وهناك تعام واضح من مدعي الوطنية في أجهزة الدولة». ووصف بيان «رجال الكرامة» القرارات التي تمس أساسيات المعيشة لمعظم فئات الشعب السوري المنهك أصلاً، أنها «خرق واضح لمواد الدستور وأبسط مبادئ العقل وقوانين العدالة».
ردة فعل النظام
تعرضت احتجاجات السويداء إلى انتقاد شديد بدأ بمقالة للمستشارة الإعلامية لرئيس النظام بثينة شعبان التي وصفت المحتجين الرافضين لقرار رفع الدعم الحكومي بالطابور الخامس، ولم تتردد باتهامهم بتنفيذ أجندات إسرائيلية وخارجية.
عسكريا وأمنيا لم يتردد النظام بإرسال وحدات جديدة إلى قلب المدينة لتعزيز المربع الأمني والمؤسسات الحكومية، خشية من توسع الحركة الاحتجاجية. واعتمد النظام على الفرقة 15 قوات خاصة، وهي نفسها التي اعتمد عليها في اقتحام مدينة درعا في نيسان (أبريل) 2011. وهو ما أرسل رسائل واضحة محذرة من استمرار الاحتجاجات لطائفة الموحدين الدروز عموما، وليس للمنخرطين في الحركة الاحتجاجية.
وبالتزامن مع احتجاجات السويداء، وخشية عدوى انتقال المظاهرات إلى معاقل بشار الأسد في محافظة اللاذقية، هدد قائد ميليشيا مغاوير البعث هناك، جهاد بركات، كل من يتظاهر ضد الحكومة وقال إن «النزول إلى الشارع خط أحمر، وعلى الجيش والقوى الأمنية قمع هذه الظاهرة».
وفي الحرب الإعلامية، وصفت صفحة البعث ميديا وهي صفحة رديفة لصحيفة البعث الناطقة باسم حزب البعث، وصفت متظاهري السويداء بـ«الزعران والخارجين على الأعراف والتقاليد والأخلاق الوطنية». وأضافت «المظاهرات ما رح تخلي الدولة اغنى وما رح ترجع لنا حقول النفط المحتلة وما رح ترجع لنا حقول القمح المسروقة». وطالبت الصفحة المتظاهرين بقتال الأمريكيين «يا ريت تطلعوا باتجاه الرقة وشرق دير الزور وتحرروا لنا حقول النفط حتى يرجع نفطنا وترجع الكهرباء».
الموقف الروسي
في وقت مبكر، وبالتزامن مع انطلاق الاحتجاجات في السويداء، قال نائب قائد المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة في سوريا، اللواء أوليغ جورافليوف إن «قادة العصابات المسلحة يخططون لتنفيذ أعمال إرهابية في السويداء وثلاث محافظات أخرى هي دمشق واللاذقية ودرعا». وهو ما أعطى رسالة لبعض المعولين على أي دور للروس في حل تطور الحركة الاحتجاجية في السويداء.
في المقابل، لم ينقطع الروس عن متابعة ما يجري ميدانيا، حيث زار وفد عسكري روسي مدينة السويداء، الخميس، والتقى محافظ السويداء، نمير مخلوف والقادة الأمنيين، حاول الوفد الاستماع إلى كيفية التعاطي مع المحتجين وتبيان استخدام القوة ضدهم من عدمه. في حين اكتفى الوفد بالاجتماع مع المحافظ ولم يلتق بمشيخة العقل أو ممثلين عن الحراك والمعارضة.
مستقبل الاحتجاج
من الواضح أن «مجلس الحراك» كان أكثر ذكاء بالتريث والإيقاف المؤقت للمظاهرات، على اعتبار أن استمرار الاحتجاج سيدفع النظام إلى حل أمني، لم يتأخر في إظهاره مع إرسال تعزيزات أمنية وعسكرية هي الأولى من نوعها منذ عام 2011.
يضاف إلى ذلك، حالة الصمت الحاصلة في باقي المحافظات، حيث منحها محتجو السويداء أسبوعا كاملا من دون نتيجة تذكر، فلم تنضم إلى الاحتجاجات أي من المدن السورية الموالية للنظام إطلاقا، كما هو حال المدن الرئيسية التي خرجت منهكة بعد عشرة أعوام من حرب النظام عليها. فلم يبق فيها قادر على الصراخ في وجه النظام، في حين هجّر الأخير ملايين الناس الرافضين له.
من جهة أخرى، اختبرت السويداء ردة فعل النظام عدة مرات، وأصبح أهالي المحافظة أكثر إدراكا انه لا يملك إلا الخيار الأمني تجاههم في نهاية المطاف. وهو ما حصل عندما فجر موكب زعيم حركة «رجال الكرامة» في وسط المدينة، بتفجيرين مركبين، ما أوقع عشرات القتلى والجرحى. كما نقل عشرات عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» المتحصنين في حي الحجر الأسود ومخيم اليرموك ومخيم التضامن جنوب دمشق في اتفاق معلن إلى بادية السويداء الشرقية في أيار (مايو) 2018ليتركهم في مواجهة مباشرة مع عناصر التنظيم الذي شن عدة هجمات منتظمة ضدهم.
ومن المرجح أن تتوقف الحركة الاحتجاجية، وليس من باب التشاؤم نصحها بالتراجع من أجل منعها من الإنزلاق إلى ما يشتهيه النظام، خصوصا بعد أن اتخذت موقفا محايدا من الانضمام إلى الثورة في وقت مبكر وانتظرت تحرك دمشق والساحل، حيث قمعت أحياء دمشقية بقوة أدت إلى تراجع الدمشقيين وتخليهم عن ركب الثورة، فيما طهر النظام السوري مدينة اللاذقية وبانياس من «السنة» المنتفضين ضده.
قد يكون الوضع في محافظة السويداء الأكثر تعقيدا في كل المحافظات السورية، رغم أن المشهد يبدو بسيطا، فالمحافظة التي تقطنها أغلبية درزية متماسكة، تتنازعها من الداخل قوى شد وجذب متناقضة، فمن ناحية هناك مشيخة العقل وما تمثله من إطار جامع لكل أبناء المحافظة، ومن ناحية ثانية هناك الزعامات التقليدية التي باتت جزءا من تراث وفولوكلور الجبل لا يمكن تجاوزها ببساطة رغم خفوت صوتها ودورها، وهناك القوى الجديدة التي باتت تفرض نفسها على الزعامتين التقليديتين المشايخ ووجهاء العائلات الكبيرة.
التعقيد البارز في المحافظة يكمن في أن القوى الثلاث السابقة تعاني من انقسامات حادة في المواقف دائما مع وضد، في مشيخة العقل كما في الزعامات التقليدية، وهذا الأمر يمكن فهمه والتجاوز عنه، لكن الخطورة في الانقسام الحاد بين القوى الجديدة، فبعضها ارتضى لنفسه دور الشبيح المستفيد والمتحالف مع أجهزة الأمن والبعض الآخر حائر بين الاصطفاف مع الثورة وشعاراتها، أو الذهاب في مشروع منفصل لبناء كيان ما في الجبل يبعده عن كل الصراعات، هذا الانقسام خطير لأنه قابل للانزلاق للعنف الداخلي بين أبناء الجبل بسهولة، والنظام يغذي مثل هذا الطريق، ولذلك فإن استمرار العملية الاحتجاجية لزمن طويل قد يؤدي بها للدخول في مواجهات داخلية كما حدث في عام 2015 بين رجال الكرامة وبعض الفصائل والميليشيات العائلية المتحالفة مع النظام وأجهزته الأمنية.
ربما كان الرهان على أن الجميع بات يشعر بالخسارة هو الرهان الأكبر، فالشبحية والمعارضون والمشايخ والزعامات التقليدية جميعهم الآن يرزحون تحت وطأة أزمة اقتصادية طاحنة، وبالتالي قد تقترب مواقفهم وقد يتطور الشكل الاحتجاجي على هذه القاعدة الاجتماعية بشكل موجات متتالية يفصل بينها فترات هدوء لإعادة حسابات كل طرف ومحاولة التقدم على أرض صلبة حتى لا تنزلق الأقدام بالجميع إلى الهاوية.
إن اشتراط استمرار الاحتجاجات بانتقالها إلى سوق الشام وجبال الساحل السوري هو ما يصر عليه الكثيرون داخل السويداء، فقد أثبتت تجربة السوريين الطويلة مع نظام الأسد الأب والابن أن إحدى أبرز قوى التغيير المؤثرة هي في هذين المركزين.