غالبا ما نعقد قرانا مبهما وغامضا بين الرؤية والمنهج، من حيث إنهما ركيزتان أساسيتان في الإبداع. ففي الرؤية يجيء شكل الكتابة، بل ترتسم في ملكوتها معالم الجنس الأدبي، الذي سيحتضن المولود الجديد. فالرؤية الإبداعية ليست هي التبصر، أو ما يدور في فلكها، وإنما البصيرة، التي ترمي بظلالها في التأويل، واستخلاص النهايات. القصة القصيرة مثلا، كأحد الأجناس الأدبية التعبيرية، تستوجب ذكاء نافذا، ونباهة مصحوبة بملاحظة عميقة للحظة زمنية عابرة بسرعة البرق ؛ تحمل في تلابيبها فكرة، تتحول بموجبها إلى حدث يؤثث، في بنية مغلقة ودائرية، باقي العناصر الإبداعية الأخرى.
ففي الزمن الإبداعي يتحصل ما لا يعد ولا يحصى من ثيمات الإبداع، فضلا عن تواصليته واستمراره في الحدث القصصي. فعل الزمن يأتي كستار يغلف الأحداث، بل يلفها في معطف يحجب عنها القر، فتتمطط حينا، وتتقلص أحيانا حسب المقام التداولي. ولأن الذاتية تتولد من خلال الكتابة والقراءة؛ فإن الزمن القصصي هو أيضا يطول ويقصر، كما أشار، إلى ذلك، عبد المالك مرتاض في إحدى الدراسات الأدبية الخاصة بالسرد، حين استدل بشهر الصوم، بما هو يطول عن باقي الأشهر القمرية الأخرى، فكذا الزمن القصصي المتواتر، الذي يتمفصل إلى فواصل زمنية صغرى، يتشكل منها الوسع الزمني للقصة.
إن الرؤية، في هذا المقام، لا تزيغ عن البناء الزمني في القصة القصيرة، فهناك من المبدعين من جعل من الزمن توطئة ومدخلا للحكي القصصي، بل وطّد به العنوان، كعتبة مفصلية للحكي. فـ»نصف يوم يكفي « لزهرة زيراوي، هو عنوان مجموعتها القصصية، بما هي جعلت من الزمن، الذي يطول ويقصر، معيشا وحياة خلال مدة محدودة. فالدورة الزمنية المتعلقة باليوم، وعلى الرغم من أن ديدنها الرتابة، إلا أن أحداثها متشظية، تنعكس على مرايا منكسرة. فكل حدث لا يتصل بآخر، إلا من أجل إتمام سيرورة الحكي، الذي يسجف الأحداث.
فمن خلال «تهاويم ليلة باردة» و»فاليوم لهذه الليلة» مرورا بـ»زمن الذاكرة» ووصولا إلى ضفاف «نصف يوم يكفي» تطل علينا زهرة زيراوي برؤية جديدة للحكي النسوي. فالصمت وإن يتعرى وسط المارة، فإن لفيفا من صور بلاغية يسكنها جنون وتشظ لا يؤلف بينها إلا نسق الذاكرة، التي تحاول دائما أن تنسج لحمتها عندما تكون تائهة في اليومي. هكذا تأسست الرؤية، عند زيراوي، على أشياء بسيطة، لتنمو في اتجاه أحلام صغيرة جدا. تقول في قصة «الرصيف هذا المساء»: «يمتد شارع الزرقطوني أمامي كما هو. بنايات. تكوينات لونية. المساء. الطيور. ألوان أرجوانية. أرفع عيني إلى السماء أرى هلالا يعبر غيمة». ندرك، في ضوء ما تقدم، أن الرؤية القصصية لا تزيغ عن لغة حوارية، بل جوانية عبارة عن مناجاة بين ذات تائهة وأحلام وأشياء صغيرة.
وغير بعيد عن الرؤية الجديدة للإبداع، من خلال ما تناولته الكاتبة المغربية لطيفة باقا، يستكين النقد الأدبي إلى الطريقة التي تقدم بها المعارف والأحداث، فيظهر المنهج كبلسم يداوي جراح النقاد.
في حين نجد أن القاصة المغربية لطيفة باقا، في مجموعتها «منذ تلك الحياة» تدمغ السرد الزمني، بفواصل متعلقة بحقول المتخيل القصصي، وفي مقدمتها إشكالية الذات والأنوثة في عالم تهيمن فيه الذكورة، وتتقوى بشكل متسارع، فضلا عن متخيل طفولة تائهة بين أشنة وغياض، تبحث عن متنفس لأحلام مغتصبة. تقول باقا «في تلك الحياة الماضية… كنت أحمل معي دميتي الزرقاء إلى الفصل.. دفاتر الامتحان كانت بيضاء دائما». تطل القاصة، رغم شحوب صدرها الضامر، على مداعبات سيد الفصل ؛ ليأتي مذاق لعابه مقرفا، وينتشلهم من عالم الطفولة؛ ليلقي بهم في أتون شهوة عابرة بين زمنين أو بين جنازتين. نستحضر الطفولة، مع لطيفة باقا، كلما أفل خيط الأمل الرفيع، الذي يربطنا بالماضي والحنين إلى البراءة وإلى طيش الحرية العابر. من هنا جاءت قصة «زازيا» لتعقد القاصة قرانا غريبا بين التحول والضمور والانتظار، بين ملء فراغات وحفر لا تكف عن المزيد، فالحب الذي يطوق «زازيا» لا يعترف بعشق الأبوين، وإنما هو وجد من نوع آخر، يستظل بالمعاناة والألم والشهوة، والاندفاع في اتجاه المجهول الغامض.
تتولد من هذا الزمن التواق إلى الحرية والحب مسألة مهمة، بل في غاية الأهمية، ولا أعرف إن كانت الكاتبة قد استحضرتها لحظة الإبداع أم لا؛ وهي هل وجدُ الأب وحبه يعوض حب الحبيب؟ أم وجدُ الحبيب له مفعول كيميائي ـ زمني لا ندرك مصدره، ولا شيء يمكن أن يأخذ حيزه. إن الرؤية الإبداعية تخلق للجسد الأنثوي تضاريسه الخاصة، ويمسي مبعث الشبق والضجيج باللذة، وبفعل الزمن دائما تتغير المواقع والمنازل، ويصبح هذا الجسد الصغير لزازيا يفيض رغبة واشتهاء.
وغير بعيد عن الرؤية الجديدة للإبداع، من خلال ما تناولته الكاتبة المغربية لطيفة باقا، يستكين النقد الأدبي إلى الطريقة التي تقدم بها المعارف والأحداث، فيظهر المنهج كبلسم يداوي جراح النقاد. فمهما كان البحث عن السبيل، الذي يؤمن استقراء النص والكشف عن ثوابته ومتغيراته الزمنية، فإن للمنهج طريقا يفجر بموجبها الإبداع من الداخل، ويجعله أكثر حيوية، وذلك بسبر عوالمه وتعويم دلالاته. فالمنهج أخذ ينحت سمته في صخر الإبداع، بدءا بأرسطو وهوراس، مرورا بعبد القاهر الجرجاني في الثقافة العربية، ووصولا إلى جورج لوكاتش ونورتروب فراي، إلى جانب كل من رولان بارث وتزيفتان تودروف، بيد أن الشغل الشاغل لديهم هو، كيف يمكن سبر أغوار النص الأدبي، بالمنهج واستنادا إلى الرؤية، دون المساس بلذة النص، مع الحفاظ على أدبيته. إننا، إذن، إزاء وجهين لعملة واحدة، فالرؤية لا تستقيم دون منهج يفسر الظواهر ومتقلبات الإبداع، كما أن المنهج هو الطبق المعرفي الذي تفترشه الرؤية، ليستقيم عود الإبداع.
كاتب مغربي