سوسيولوجيا العيش مع الناس

تمتلك بعض النخب شيئا من الإحساس بالواقع، باعتباره مادة أولى لها الأسبقية في النقاش لإيمانها بأن المشروع الواقعي هو القابل للتحقق، وبما إن الواقع هو فضاء التغيير وموضوعه، فلا نملك سوى الكلام حوله وبه وفيه، متأملين حالات الحركة فيه وأطوار تحوله سلبا وإيجابا، دون مجازفة الانخراط في توهماته ودهاليز انفصاماته التي يجب أن تكون منفصلة عن الوعي النخبي كمحاولة لقراءتها من الخارج، ولهذا يبقى الحس الاجتماعي الناهض في وعي بعض النخب مستفزا للدخول في مغامرة السوسيولوجيا، باعتبارها إغراء العيش مع الناس، وباعتبارها القاعدة الصلبة لتأثيث الوعي في المجتمع وقراءته وتحليله، من خلال منظورات الواقع، هذا ما التقيت عند مفترقه مع صديقي عبد الرزاق بولنوار أستاذ القانون المدني، الذي يحاول تقريب القانون المدني من علم الاجتماع، وكانت الفكرة مغرية وطريفة، خصوصا دعوته لي للعودة إلى الجامعة والالتحاق بقسم علم الاجتماع، ليس من باب التسلية لكن لأن الوعي العربي ما عاد يتمثل أطروحة العقل المستمر في التحصيل من المهد إلى اللحد، التي أنتجت حضارته المكرسة في التاريخ.

مجتمع «المنامة» والوعي الزائف

هل يمكن أن نستمر في وجودنا دون أن نحرك آلة السؤال؟ «لقد خرج العرب من التاريخ بمجرد أن ماتت الفلسفة في أرضهم» كما يقول هاشم صالح، يوم كف العقل العربي عن فلسفيته بدأ برنامجه الوجودي يشهد أشد انحداراته في كهوف النسيان والظلام المعرفي، لأن السؤال المتجدد والمستمر بالنسبة إلى العقل هو بمثابة الماء البارد، الذي يُدلق على الجسد فجأة، تلك الرعشة والفزعة التي يبديها الجسد تعبيرا عن الخروج من طور الطمأنينة المعدمة من أي مشاعر وانفعالات، تجاه ما يحدث أو ما هو واقع، والدخول في طور الصدمة والدهشة وشدة اللسع، التي تستدعي الإدراك والوعي، ومن ثم العلاج والتغيير، معنى ذلك إنه ما لم يستشعر الفاعل الفرق بين طورين لا يستطيع أن يحدد موقعه التفاعلي مع مناطق الخمود، والحال هذه يجب التأكيد على إن المجتمع العربي غارق في حالة من البلهنية التي أكدها الشاعر العربي الجاهلي لقيط بن يعمر:
مالي أراكم نياما في بلهنية وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
هناك نكتة دالة حول هذا البيت، إذ طلب الأستاذ من الطلبة تفسير كلمة «بلهنية» فقال أحدهم هي «المنامة» (البيجاما) فضحك الجميع، لكن ألم يكن الطالب قارئا لواقعه وحال النوم الذي يستدعي ارتداء البيجاما، فنحن إنما ننام مرتدين ثياب النوم، وهو ما يترجم التناغم والتناسق في السلوك بين وضع النوم وتمثل الذات لذلك، أليس العقل العربي مرتاحا إلى وضعه متناسقا معه تماما، ظانا أنه يقوم بكل ما تستدعيه الحداثة من الإغراق في «عالم الأشياء» الذي يعكس وضعه باعتباره متطورا حداثيا، لكن في الحقيقة نحن نفكر بعقل السائر نائما أو الرباص somnambulisme، هو يتحرك ويقوم ببعض السلوكات، لكنه في حقيقة الأمر غائب عن وعيه، هو في وعي زائف على هامش الواقع، فالنوم الواقعي حالة من حالات الراحة التي لا بد منها للعودة إلى ساحة الفعل بنشاط وحيوية، لا حركة ولا سلوك ولا نشاط أثناء النوم، إلا بالقدر الذي تفرضه الأحلام التي لا قدرة لنا على منعها، لكنها قد تكون وضعا يساهم في تمتين علاقة الإنسان بواقعه، فحين يصحو يجاهد نفسه في إيجاد تفسير لها، ذلك التفسير يساهم بقسط وافر في حركة الإنسان داخل الواقع المعيش، باعتبار أن دلالات الحلم تستدعي دوما استبعاد السيئ منها، والاحتفاظ بالحلم الآمل.
ما زالت تلك البلهنية، سواء بدلالتها اللغوية، رغدا وبحبوحة العيش، أو بمعناها النكتي، المنامة، يجثمان على صدر العقل العربي، مانعين إياه من استبصار حقيقة الواقع، باعتباره فضاء للحركة والتفاعل مع عناصره وليس التماهي معها، على أساس الاحتفاظ دوما بمسافة الأمان الفاصلة بين الملاحظ والظواهر الاجتماعية، التي تمكنه من تنمية حسه اللاقط والمستبصر، أو وعي المجتمع وواقعه.

يبقى التفكير الاجتماعي هو الحائز براءة الابتكار المجتمعي، أو ما يمكن تسميته بسوسيولوجية الإنقاذ، أي حين يتحول المجتمع إلى حقل للانكشاف ويتحول الفاعل الاجتماعي إلى متجول داخل أروقة الكيان الاجتماعي وتفاصيله، بحثا عن مناطق العراء، ويكون ذلك فعالا حين تسترد اللغة حقيقتها العمومية.

سوسيولوجيا التجمع بين الجماعة والمجتمع

تختلف النخب في توصيف سوسيولوجية التجمع العربي، هل هو مجتمع أو جماعة؟ فما لبث العرب يعيشون الواقع بوعي القوم أو الربع أو القبيلة، ليس انتقاصا من طبيعة هذه الكيانات، لكن محاولة لفهم واقع العقل العربي في إمكانيات تصالحه مع بنية مجتمع، سائرة إلى تواؤمات كبرى تجعل منه كينونة منسجمة مع مقدراتها وتطلعاتها وتحقيق أهدافها، بما يمكن العقل من الانفلات من حالتي التوتر والقلق المرضيين، إلى حالتي التوتر والقلق الإبداعيين.
إن المجتمع يتميز باعتباره المكون الجماعي من الأفراد في وضعهم المشمول بالتظيم والسلوك والشكل. لا بد من أن يكون الأفراد في تنظيم يؤسس لقمة وحلقة واصلة وقاعدة، وليس التنظيم سوى القانون، باعتباره مجموع القواعد التي تنظم سلوك وعلاقات الأفراد، ثم بعد ذلك عندما يتكرس التنظيم تنبثق فعالية السلوك، ليس بالمفهوم الأخلاقي لكن بمفهومه البراغماتي الذي يؤكد على التواصل بين مكونات الشبكة التنظيمية للمجتمع. تَحَققْ العلاقات يكشف عن شكل المجتمع، لأن طبيعة الجماعات البشرية، تختلف من بقعة إلى أخرى حسب الدين والثقافات والتقاليد والعادات «ولا يمكنك أن تخرج كليا على عصرك أو أن تهمل مشروطيته التاريخية.. فإنك مشروط بمصطلحاته، ولغته، ومسموحاته ومحرماته» بتعبير هاشم صالح، فإذا كان هذا يجوز على العصر، فمن باب أولى جوازه على المجتمع. تؤهل هذه العناصر الأفراد للانتقال من وضع الجماعة إلى مستوى المجتمع، كما إنها تبني الأفراد في حالات التحول وفق ما يستدعيه (التحول) من مستويات عقلية، تتدرج من الوعي والاستيعاب والفحص ثم الخلق والإبداع.

نعود لنطرح سؤال المصير في مسار العقل العربي، هل نعيش مجتمعا أم مجرد جماعة؟ الإجابة لا تكون ببساطة السلب أو الإيجاب، لأن المظاهر تخفي حقائقا عميقة وجوهرية، تتطلب مهارة في الإدراك والتفكيك وإعادة التركيب بما يتوافق والخصوصيات أو»المشروطيات التاريخية» كما سماها هاشم صالح، فإن نقول ببساطة أننا نعيش تجمعا بشريا فيه شيء من الانتقاص من حق العقل العربي في أن يكون مفكرا، لكنه يعيش ظروفا قاهرة لا تسمح له بالتفتح والذهاب بعيدا في تفكيك بنيات الانغلاق والتخلف والأوهام، وهو ما تعايشت معه وتجاوزته عقول مختلفة كتجربة «لاهوت التحرير» في أمريكا اللاتينية، فصفة الجماعة تعني أن العلاقات بين الأفراد ليست بالدرجة التي تشكل نسيجا بشريا قادرا على إحداث المفارقة، لكن الذي يجب أن نعيه جيدا أن تلك اللحظات الفارقة في حيوات الشعوب تكون مفاجئة، لكنها تنبثق في لحظة معينة فاصلة بين طورين، إضافة إلى بعض الإنجازات التي تحدث داخل «الجماعات» وتعتبر بمثابة الفعل العقلي الذي يكشف وعيا علميا داخل مساحات من التفكير المنهجي، بمعنى إن أي جماعة تحوز مؤسسات رسمية ولو كانت غير فاعلة واقعيا، لأن أثرها لا يعود بالمنفعة على مجموع الأفراد، إلا أن هناك حراكا متواضعا يمنحها صفة المجتمعية، فالمجتمع الذي فقد قدرته التاريخية على الفاعلية، يشكو اختلالات بنيوية في أسس التفكير والقيام بالمبادرة وتحقيق الإنجاز، لكنه يبقى محتفظا بصفة المجتمعية لأن العقل لا يعدم وظيفته في التفكير والاختيار بين البدائل، فعقل الأفراد الفاعلين يبقى مهموما، بما يمكن أن ينقل المجتمع من حالة العطالة إلى وضع الفعالية.

آخر المطاف عَرَقُ الواقع

يبقى التفكير الاجتماعي هو الحائز براءة الابتكار المجتمعي، أو ما يمكن تسميته بسوسيولوجية الإنقاذ، أي حين يتحول المجتمع إلى حقل للانكشاف ويتحول الفاعل الاجتماعي إلى متجول داخل أروقة الكيان الاجتماعي وتفاصيله، بحثا عن مناطق العراء، ويكون ذلك فعالا حين تسترد اللغة حقيقتها العمومية، فقد كان مهدي عامل، صعبا على بعض الوعي اللبناني في كتاباته، لكنه حينما انخرط في شرايين الواقع اللبناني أثناء الحرب الأهلية، وتواصل جماهيريا مع الناس، أدرك قراؤه مغزى فعالياته الكتابية من رواق الواقع، لا من فكروية الجملة، وهذا هو أس عملية التغيير، وقراءة الواقع في تموجاته، وإدراك النخبة المعزولة أصلا في أبراج الأكاديمية العاجية، أن حقيقة النخبي في أن يكون قريبا من نبض الشارع، دون التخلي عن فكروية المسار العلمي، ولعل العمل على التقريب بينهما يجعل من الجهد النضالي والمعرفي صنوان لا يفترقان، فتجربة الذات تنكتب بعرق الواقع لا بحبر الرؤية وحده.

كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية