«جوار الماء» للأردنية أماني داود: بقايا الظلال… وصدى التكثيف

لا يمكن النظر إلى القصة القصيرة إلا بوصفها نصاً مكتملاً، على الرغم من التكثيف والإيجاز الذي يَسِمُها تبعاً للرؤية التي تحكم تقاليدها، ونشأتها، وفي مسعى القصة لتجاوز بعض الصيغ التي وسمتها، إلا إنها ستبقى في مخاضها الخاص نحو تشكيل عوالمها، بالتّوازي مع استمرار التحديات التي تجعل منها فناً خطيراً، لا على المستوى الخطابي وحسب، وإنما على مستوى التشكيل، فليس هناك من فسحة لتجاوز بعض الإخفاقات على مستوى البناء أو تمكين الرؤية القائمة على المقاصد، بوصفها نصوصاً مصقولة لا تحتمل الكثير من الفجوات أو الفراغات، فلا توجد مساحات يتيحها السرد لاستعادة زمام التوجيه كما نعاينه في الرواية التي تعاني شيئاً من الهبوط، أو الاستطراد، أو الخروج عن توتر السرد في بعض المواقع؛ خاصة حين يهوي فعل القراءة، ويبزر التشتت، إذ نواجه ذلك حين يجنح الكاتب إلى الإغراق في جزئية تشوّه النسيج السردي، بيد أن القصة لا تتيح ذلك، فالجملة كما البنية العامة مرتهنة لمتطلبات البناء السردي القائم على الحبكة، كما الإسقاطات الدلالية، والأبعاد الثقافية التي يمكن أن تنطوي عليها القصة.
تنهض مجموعة «جِوار الماء» للأكاديمية والقاصة أماني سليمان داود – صادرة عام 2018 عن دار أزمنة في عمان- على رؤية يمكن نعتها ببقايا ظلال تسكن قصصا، يميزها التكثيف والاختزال الواضحان؛ ما يدفعنا إلى القول إن الكاتبة تعي توجهاتها في تشييد البنية القصصية، لكنها تعي أيضاً متطلبات البناء الدلالي، حيث تبقى القصص ضمن مناخ واحد، يحمل شيئاً من التجانس على مستوى تواتر الشخصيات التي تصدر عن تكوين مزاجي مأزوم – على الرغم من تنوعها على مستوى الجندر- لكنها ترتهن لجملة تقاطعات تتخذ من إشكالية الأنا، وتطلعها لما حولها جزءاً من هوية القصص، وماهيتها الدلالية.

فيض الذات

يرى فرانك أوكونور أن القصة تعنى بفكرة البطل، الذي لا يمكن أن يظهر في السرد إلا في سياق مجتمع غير سوي، أو يمكن القول إن فكرة البطل تبقى عالقة أو مرتهنة إلى ما يقع من تنافر بين الشخصية والمحيط، وهذا ما يعدّ قيمة أساسية في تكوين السرد كونه يحقق معادلة التكوين، ومن هنا يمكن القول إن سيطرة السرد المتمركز على الذات في قصص «جوار الماء» – على الرغم من تعدد القصص، وحبكاتها- يقع في أزمة مع المحيط، بما في ذلك تنافر المقاصد مع القيم المجردة، أو الرؤى، وكأن ثمة سوء فهم مزمن يبدأ مع الذات في المقام الأول، ومن ثم مع الآخر، بما في ذلك الرجل، كما المجتمع، والنموذج القيمي، وفي بعض الأحيان تتصاعد القصص لتطال أبعاداً ميتافيزيقية ومؤسسية، وهكذا تتبادل القصص مواقع الإنابة الدلالية، حيث نرى تمثيلات متعددة، فثمة السلطة الأبوية التي تبرز في بعض القصص، ومنها قصة «سلة» بينما تبدو رمزية العصافير جزءاً من تشكيل النموذج المقابل لهذا الوجود الأبوي أو البطريركي، الذي يتكرر في غير قصة، لكن في جانب آخر يبدو غياب الأب جزءاً من فقدان الأمان في بعض القصص، أو على العكس يعني حضوره قيمة مضافة، كما ثمة توتر مزمن مع الرجل، ومنظوره القائم على هيمنة النزعة البطريركية التي تسكن المجتمع في سياق بروز التنافسية العالية، لكن بين الرجل والمرأة، ومن ناحية أخرى ثمة قصص تتمثل صورة الحبيب، الخاضع دوماً لسوء فهم، فلا يمكن أن نقرأ في القصص سوى نمطية اللاكتمال، في حين توجد طاقة تنبعث في مجمل القصص نحو تقويض النموذج الإيجابي (للعالم) الذي يبدو نسقاً قاراً في المستوى الدلالي لمجمل القصص.
تشكل المفارقة جزءاً من تكوين القصص، حيث غالباً ما تُرجأ إلى نهايات بعض القصص، تحقيقاً لمبدأ التنوير، ولاسيما تمكين المفارقة المتأخرة نسبياً، وهي إحدى أدوات التشكيل القصصي، ذلك أن قصص المجموعة تتملكها لغة مصقولة تعتمد المبدأين الجمالي والوظيفي، إذ لا يوجد تباين لغوي بين القصص، أو استطراد سردي غير محسوب، كما ثمة لغة سردية بلاغية مطردة تسكن المجموعة، وهي تتسم بقدرتها على التخلص من سيطرة معجمية تسيطر على بعض الكتاب، إذ تكاد تتكرر المفردات عينها في مجمل النتاجات الإبداعية، في حين نلاحظ في مجموعة «جوار الماء» حرصاً عميقاً على مبدأ الاختيار، ضمن مبدأ سياقية الموقف السردي، مع توضيح مرجعيتها، فمعظم القصص مسكونة بتلك العناوين التي تتصل بقيمة الأشياء، وما تمثله من حضور فلسفي في وعي الأنا الداخلية، أو الذات في تأملها لهواجسها الداخلية كما في قصة «سرير» حيث نستدعي أجواء «أليس في بلاد العجائب» وتلك المخاوف الكامنة في الذات الطفولية، فيحضر الأب غير مرة ليكون جزءاً من تمثيلات توفير الملاذ والحماية، في المقابل نواجه قصصاً أخرى تتملكها تلك النهايات الصادمة لكينونات معذبة، كما في ظل الأخت التي تبقى حاضرة، وكأن القصص لا ترتهن إلى تلك اليقينية المطلقة تجاه ما نختبره في حياتنا من تهديدات.

يسكن القصص في إحدى جوانبها جزء من ماهية الحنين إلى الذات في ماضويتها، وقد أشرنا إلى ذلك في تعلق الشخصيات ببعض الرموز، وهنا تنبعث القصة لتكون مدينة عمان جزءا من تاريخ الوعي في حرب الخليج الأولى، مع بروز نسق نوستالجي لفضاء سابق، فتبدو المجموعة رافضة لعوالم المادية المفرطة.

ولعل عنوان المجموعة «جِوار الماء» لا يبدو سوى إحالة لعدم الاكتمال، ومن هنا يمكن تحديد القرب من الماء، وكأن ثمة أفقاً لا منجزا، وكأن ثمة رغبة لا متحققة في الامتلاك تعكسها أجواء قصة «عطر» فالحلم ليس سوى انعكاس للتأويل، أو العكس، وهنا بحث في ماهية الكتابة، ومدى ما يمكن أن تجلبه من أفق تكسوه كتل الضباب والغموض نحو شيء غير مُتعيَّن، ولهذا تسعى القصص أو تتجرأ على خرق الحدود، للبحث عن المزيد من الحرية، وتبديد السحب التي تكتنف الوجود، ومن هنا تتكاتف الوحدات السردية، لتحيل إلى جملة شخصيات محاصرة بتلك الحدود، أو الماهيات الغامضة لعوالم مستترة، أو محجوبة، وهنا ثمة سعي واضح لتنحية تلك المتراكمات والعوائق، نحو أفق أشد اتساعاً، كما تجاوزاً لما يكمن من ركام تشكله أنظمة متعددة من الماهيات المسبقة التي تصوغها المجتمعات، بما في ذلك الذكورية، والوصايا، والصيغ المنجزة كافة لدحر الأنا عن إدراك ذاتها.
ولعل استعادة التأكيد على نبذ هذه الماهية تبديداً لغلق الأنا، وكبحها، وتغريبها عن حقيقتها كما في قصة «حافة» وهي من القصص التي تتجلى عبر التخلص من قيمة الوعي الذي يمكن أن يحدّ من قيمة الامتداد بتجلياته الراديكالية؛ لذلك تتخلص الشخصية من رأسها، مقابل وجود الطيور، التي تدهش لرؤية جسد يلاحق رأسا سقط من الطابق الستين، وهنا تبدو القصص في بحثها عن دلالات تكمن بين ثنايا النص، لتحتمل الكثير من الدهشة المتولدة عن مناطق تتيح التساؤل عن الفاصل بين الواقع والمتخيل، كما في قصة الشجرة التي تحرسها الجدة، فهناك دائما أمر ما ينزع نحو التشكيك كما في قصة «دوران» أيضاً وما يعنيه البحث عن الرضيع، أو اختبار ماهية الفقد، في حين يبرز التعلق بالماضي عبر رمزية الشجرة أو كما في صورة الجد، أو ذلك الحبيب الذي تبتلعه الحرب، مع التركيز على كيف يمكن أن تتطاول الذات لمجابهة قيم التغير، وفي هذا السياق تندرج قصة «بتر» مع البحث في الأنساق التي لا يمكن أن تكتمل مع العالم، ولاسيما على أكثر من مستوى أو أفق، فنواجه احتشاد القصص بمجاميع من مفردات تمثل النأي أو الابتعاد أو المسير الحذر، علاوة على الخوف كما في قصتي: «عواء وكهف» حيث نقرأ في الأخيرة: «أركض أركض أنفاسي تتقطع، ألقه وأكمل الركض، وكلما كدت أختنق من التعب أتوقف لثانية، أنظر خلفي ولا أكمل نظرتي وأعود لأركض بسرعة أكبر».
هذا السعي الذي ينتهي إلى خواء، كما في تلك التوقعات التي سادت القصص لتبقى فكرة المفارقة جزءاً من ماهية الخطاب، وتلك الحدود التي لا يمكن لنا أن نتوقعها كما في قصة «تمتمات» وهنا نخلص إلى أن القصص تتأثر في تكوينها، ومناخها بالصيغة السينمائية، إذ نستجلي تلك المواقع في تكوينها، حسب الفكرة أو المشهدية.

بقايا الظلال

يسكن القصص في إحدى جوانبها جزء من ماهية الحنين إلى الذات في ماضويتها، وقد أشرنا إلى ذلك في تعلق الشخصيات ببعض الرموز، وهنا تنبعث القصة لتكون مدينة عمان جزءا من تاريخ الوعي في حرب الخليج الأولى، مع بروز نسق نوستالجي لفضاء سابق، فتبدو المجموعة رافضة لعوالم المادية المفرطة، فالأمكنة تبقى مسكونة بروحية الأشياء في بعدها الآخر، أو حتى ذلك الإحساس بقضايا ومواقف ذات طابع إنساني، كالموت والمرض، والحداثة كما رمزية المجمع التجاري في الانتهاك الممارس للكينونة المستقرة، ونشوء كل ما يجعل العالم قاتماً لنخلص إلى ظلال كآبة واضحة، ومن ذلك تأمل إحدى القصص ماهية الموت والحياة ضمن منظور فلسفي عميق، كما في قصة «نهر» فالزمن كالنهر الذي لا يتوقف، فهو دائم الجريان، وهذا يستعاد سردياً في غير قصة، وتحديداً في قصة «عيد» عبر التموضع على محورية البتر، كما يجسده غياب بابا نويل، وما يحتمله من رمزية، وهكذا نرى كيف تمتد القصص لتعضد مناخاً محدداً يطغى على القصص، وما يعتمل فيها من عواطف تتسرب إلى القارئ، لنستحضر ذلك العنوان القائم على فعالية التقدم لمعنى الاقتحام، لما لا يمكن توقعه، كما هو العجين الذي يختمر فيمسي كناية عن الامتداد لشي كامن في العمق، أو أنه استغرق وقته، وقد آن له أن يتخذ مساره.

تنضح القصص بظلال كتابات أو نصوص تتسرب في الرؤى أو الثيمات، حيث تتعالق القصص بحوارات لامتناهية مع مناخات الكاتب الأرجنتيني بورخيس، ولاسيّما كتاب «المتاهة» وهنا تبدو بعض الصيغ التي تعتمد تقنيات الواقعية الممزوجة بشيء من السحرية، التي نستطيع أن نلمحها في عديد القصص، إذ تبقى ثنائية اليقين والشك جزءاً من ماهية القص، أو ذلك الحدث غير المتوقع، المفاجئ أو المفارق.. كما غير المتعيّن بوصفه جزءاً من ماهية الخطاب القصصي، إذ يطغى الوهم أو نرغب في تهيئته لإزاحة الواقع، كما هو في قصة «سانشو» وغيرها من القصص التي تنحو نحو عوالم ترتد إلى نماذج مثالية، لكنها غير حقيقية، أو أنها تسربت كما الزمن عبر التعلق الوهمي، أو محاولة البحث عن قناع لنخلص إلى ماهية الحجب كما في قصة «ثقة» وغيرها من القصص.
ختاماً نخلص إلى مقولة مفادها بأن قصص الكاتبة أماني داود، تتميز بنضج قار على مستوى اللغة والتشكيل السردي، في حين أنها تحافظ على مناخ شعوري يوحد فضاءات القصة، مع التأكيد على تنوع القضايا، والموضوعات، والرؤى، علاوة على وفرة التوظيفات التقنية على مستوى التشييد السردي، لكن ضمن استراتيجية واحدة تعتمد بنى قصصية مختزلة، وفضاء مسكوناً في شيء من الظلال الداكنة.

كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية