ستصبح مشاهد هبة شهر أيار / مايو المنصرم مجرد فواصل صغيرة في حياة شعب عرف الأمل مطويا، منذ أكثر من مئة عام، في صفحة وعد بريطاني مشؤوم؛ وتجرع حليب فجر ذبحوه في عام النكبة. وستمضي الشهور ولن يبقى في الذاكرة غير الغصات وفي الصدور غير الوجع. أعود إلى تلك الهبة وتبعاتها بعد أن قرأت، يوم الاربعاء الماضي، في جريدة هآرتس العبرية، ما قاله ممثل النيابة العامة الإسرائيلية لقضاة المحكمة العليا الإسرائيلية أثناء مرافعته في الاستئناف على قرار الحكم الذي أصدرته المحكمة المركزية في حيفا ضد الشاب، ابن مدينة عكا، محمد أسود.
ففي أعقاب تلك الهبة الشعبية اعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الشبان العرب، وقدمت ضدهم لوائح اتهام، تضمنت تهم المشاركة بأعمال الشغب والتسبب بأضرار لممتلكات يهودية وغيرها من هذه التهم الشبيهة، وطالبت بإدانتهم وبإنزال عقوبات قاسية بحقهم. وفي نهاية الشهر الماضي حكم قاضي المحكمة المركزية في حيفا على الشاب محمد أسود بالسجن الفعلي لمدة سنة بعد أن أدانه بمثل تلك التهم.
وفي الاستئناف على القرار طالب ممثل النيابة من قضاة المحكمة العليا تشديد العقوبة على المتهم بشكل استثنائي وغير مسبوق لكي يصبح الحكم في هذا الملف سابقة تحتذى في سائر القضايا المرفوعة ضد معتقلي الهبة الذين وصفهم بمثيري الشغب؛ وبسبب الخطورة الصارخة المنبعثة من الأحداث التي جرت في مواقع مختلفة من البلاد «ولأننا لا نتحدث عن عدو خارجي وإنما عن مواطني الدولة وعن جزء من النسيج المدني المشترك فيها» كما جاء في أقواله أمام القضاة. وأضاف جازما بأن هؤلاء المواطنين قد «تحولوا إلى عدو من الداخل، فالاحتجاجات قد استهدفت المناعة القومية للدولة، والأمل بحياة مشتركة» وهذا كله ينطوي على خطورة بالغة قد تؤدي إلى انشقاق بين المواطنين، حسب رأيه.
سننتظر كيف ستتعاطى المحكمة العليا مع هذه المسألة الخطيرة؛ وسنعرف عما قريب، فيما إذا سيقبل قضاتها موقف النيابة العامة ويعتبرون بدورهم كل المواطنين العرب الذين شاركوا في الهبة الشعبية «أعداء من الداخل» على كل ما سيستوجبه هذا التعريف القانوني من تبعات، ويعنيه بالنسبة لمكانة المواطنين العرب وحقهم في الاحتجاج ومواجهة سياسات القمع والاضطهاد العنصري الممارس ضدهم من قبل مؤسسات الدولة.
إننا نقف أمام مشهد مفصلي في مصير علاقة الدولة بمواطنيها العرب؛ وقد أراهن اليوم على أن المحكمة العليا الإسرائيلية ستنضم بشكل سافر وواضح، عاجلا أم آجلا، لموقف النيابة العامة الذي يمثل، في الواقع، موقف الحكومة الرسمي وسياساتها، في الحاضر والمستقبل، تجاه مواطنيها العرب.
لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة
ومن المفارقات المدهشة أن ما شاهدناه خلال أحداث هبة أيار/مايو وكيف تعاملت وستتعامل مؤسسات الدولة مع مواطنيها العرب، يجري بالتوازي مع تنفيذها لبعض السياسات المغايرة تجاههم ولاتخاذها بعض القرارات الرسمية التي قد تبدو نقيضة لممارساتها العنصرية العملية؛ لكننا، إذا ما تمعنا فيها بجدية، سنجد أنها ليست أكثر من تكتيكات مكملة ومدروسة وتنفذ كجزء من سياسة الحكومات الإسرائيلية المرسومة بدقة تجاه من تعتبرهم «أعداءها من الداخل». فلقد قرر وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، تعيين النائبة عن حزب ميرتس، غيداء ريناوي زعبي، قنصلا إسرائيليا عاما في مدينة شنغهاي الصينية. وسوف تكون السيدة غيداء أول مواطنة عربية مسلمة تتبوأ منصبا هاما كهذا؛ لكنها ليست أول مواطن عربي يخدم في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي، اذ سبقها إلى ذلك المنصب مواطنون عرب آخرون، دروز ومسلمون ومسيحيون.
لم يلق هذا القرار ما يستحقه من اهتمام بين المواطنين العرب، لا من باب المعارضة ولا على سبيل الدعم، كما تحاول أن تدعي بعض المواقع الإخبارية العبرية؛ فباستثناء بعض التعقيبات عليه من جهة بعض من يتعاطون الإعلام السياسي، سنجد أن الخبر قد مر بهدوء نسبي، من دون أن يؤدي قرار التعيين نفسه إلى أي احتدام أو مواجهات بين معسكر من المؤيدين ومعسكر المعارضين. وهذا ليس صدفة بل دليلا على حالة السبات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.
لا أعرف متى ستتراجع حكومة إسرائيل عن موقفها الحالي وتطلب عودة قنصلها العربي من شنغهاي، لكنني على قناعة أن ذلك سيحصل قريبا؛ خاصة وأن البعض قد غمز وأشار إلى أن قرار الوزير لبيد مشكوك في نزاهته، ويستهدف، في الواقع، أولا، إبعاد النائبة غيداء عن ساحة الكنيست لتضمن حكومة بينيت – لبيد عدم تكرار «مشاغبتها» في المستقبل، كما حصل عندما صوتت ضد قانون تجنيد الشبان المتدينين اليهود (الحريديم)؛ وثانيا، لمعاقبتها بسبب بعض تصريحاتها ومواقفها التي استفزت ديوك الحكومة وصقورها.
لقد تزامن قرار تعيين مواطنة عربية كقنصل يمثل إسرائيل في أحد المواقع الجغرافية المؤثرة في العالم، مع قرار تعيين قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب، خالد كبوب، في المحكمة العليا الإسرائيلية، خلفا للقاضي العربي الحالي جورج قرا، الذي سيخرج قريبا إلى التقاعد. قد يفهم من قرار تعيين القاضي كبوب أن صناع القرار في الدولة سيحافظون، لأسبابهم الدعائية الخاصة، على وجود قاض عربي واحد في المحكمة العليا، وقد يتم ذلك بالتناوب بين أبناء الطوائف جميعها، فخالد المسلم يخلف جورج المسيحي، وهذا قد يخلفه في المستقبل قاض من بني معروف.
لم يكن غريبا اذن أن تقوم المصادر العبرية بتأكيد هوية القاضي كبوب الدينية، كمسلم يخلف مسيحيا؛ لكنني لم أستوعب حين لجأت وسائل إعلام عربية الى إبراز هذه الجزئية، أو حين سخرتها بعض الشخصيات العربية التي باركت الخطوة وهنأت القاضي، مثلما فعلت النائبة غيداء ريناوي زعبي عندما كتبت على صفحتها: «خطوة تاريخية، تعيين قاض عربي مسلم في المحكمة العليا. ألف مبروك اختيار القاضي خالد كبوب خلفا لجورج قرا بالعليا، وبهذا يحقق خطوة تاريخية كعربي مسلم يشغل منصب قاض في المحكمة العليا». كلام يقال من قبل شخصية قيادية عربية، بروتينية عادية، ويعكس في الواقع ما تعانيه هويتنا الفردية والجمعية من أزمات. كلام يكشف، مرة أخرى، عن تعقيدات حياتنا، خاصة فيما يتعلق بفهمنا لمكنونات هويتنا، وبعلاقتنا مع الدولة، وكيف يكون تحقيق مطالبنا في المساواة الكاملة وما هي مساحات اندماجنا المتاحة في الدولة اليهودية والمرغوبة من قبلنا.
لقد كتبت في الماضي منوها الى أن من يراهن على أن إسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة، يخطئ ذلك لأننا بالرغم من مواجهتنا لتداعيات أزمة خطيرة وساحقة، لم ننجح كمجتمع في وضع رؤى كفاحية حقيقية وواقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، ولم نحاول إيجاد السبل الصحيحة للتوافق المتزن مع الدولة أو للاشتباك الرابح معها.
إنها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية وبعيدا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء. ففي النهاية لن يجدينا التهرب من مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا وما زلنا نعيشه برتابة هشة. لا تحتاج هذه المواجهة الى الجرأة السياسية فحسب، كما يطالب البعض، بل تحتاج إلى التعامل معها كضرورة وجودية ملحة، والاعتراف بها كمعضلة يجب تفكيكها بمفاهيم صحيحة وحكيمة، وإلا سيبقى التسيب القائم اجتهادا متاحا بعشوائية لكل المواطنين ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، وليس محصورا في هذه الحركة أو ذاك الحزب.
وبعودة إلى مشاهد التيه من هذا الأسبوع، فهل حقا نريد تعييين مزيد من القضاة في جهاز القضاء الاسرائيلي بشكل عام وخاصة في المحكمة العليا؟ وإذا كان منصب القاضي يعتبر إنجازا مرموقا واستحقاقا لمن اختاروا كلية الحقوق عنوانا لطموحهم في شبابهم، فلماذا نعيب على من قبل أن يكون قنصلا في شنغهاي مثلا، وهو منصب مرموق أيضا بدون شك؟ وإذا كان الجواب على هذا مطبوعا في فقه البداهة التي عشنا في أكنافها، والحظر في أن نقبل أن نكون أبواقا تدافع عن سياسات دولة تعتبرنا أعداءها الداخليين فماذا سنقول لمئات الأكاديميين العرب الذين استوعبتهم مرافق الدولة حتى أصبح بعضهم يتبوأون أعلى المناصب في الجامعات والمستشفيات والشركات والوزارات، ويقفون على منصات البلاد وخارجها، كعرب وإسرائيليين، ويستعرضون منجزاتهم ومنجزات مؤسساتهم الإسرائيلية التي يمثلونها؟
لا أقول هذا دفاعا عن قبول النائبة غيداء وموافقتها لإشغال منصب القنصل في شنغهاي، ولا تقليلا من مكانة القضاة، ولا ذما لجميع من كافحوا وتميزوا في ميادين العلم أو في الادارة أو في الرياضة واستحقوا عن جدارة مناصبهم وتمثيل ما أنجزوه حتى لو كان باسم الدولة وتحت علمها، أقول ذلك، لأذكر بسوء حالنا وبتيهنا وبأننا ماضون نحو مستقبل قاتم لا نعرف فيه كيف يكون الحسم بين المرغوب والمشتهى وبين المحظور، فهذا سيبقى قرارها وستتحمل هي وحدها عواقبه.
كاتب فلسطيني
مقالة مهمة جدا استاذ جواد.
من و ما يمثله العربي المسؤول في دولة احتلال ؟ سؤال يقلق و جوابه اصعب!
هل يمثل هذا القاضي العربي العرب ، العدل ، شخصه ام الدولة المحتلة؟
اطلعت على عنوان مقالة في جويش كرونيكل قبل قليل يقول : ” دولة ابارتهيد تعين مسلما في مجلسها القضائي الاعلى” .. هل ينبغي أن نكون أذكى و أوعى؟