لا يمكن للمعارضة السورية التصرف خارج مصلحة أنقرة في الأحوال العادية، فكيف بمرحلة حرجة للغاية تحاول تركيا الحفاظ على توازن العلاقات وكسب ود ورضا الدولتين المتحاربتين في آن معاً.
في الوقت الذي تحلم فيه المعارضة السورية أن تتلقى دعما عسكريا غربياً، أمريكيا على وجه الخصوص، أيقظهم من أضغاث أحلامهم بيان لوزارة الخارجية الأمريكية، عقب اجتماع «أصدقاء سوريا» في واشنطن الخميس، على مستوى المبعوثين، ضم ممثلين عن أمريكا وبريطانيا وتركيا وفرنسا وألمانيا والنرويج والعراق والأردن وقطر والسعودية، كما حضر ممثل عن جامعة الدول العربية وآخر عن الاتحاد الأوروبي.
وعوضا عن رغبة المعارضة بسماع أخبار منتظرة من نوع «تزويد المعارضة بصواريخ ستنغر وجافلين» على غرار ما يحصل في أوكرانيا، حث بيان المتحدث على «وقف إطلاق النار على الصعيد الوطني. واحترام القانون الإنساني الدولي، والتشديد على أهمية وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق».
ولم تنته الخيبات من البيان عند ذلك، بل كرر موقف بلاده المرحبة بمبادرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن، المعروفة «خطوة بخطوة» وأشار مكتب المبعوث إلى انتظاره التوصل إلى «نتائج ملموسة من الجولة السابعة للدورة المقبلة للجنة الدستورية السورية في آذار الجاري» مؤكداً على أن الدول المجتمعة «ستواصل الضغط من أجل المساءلة، خاصة بالنسبة لأخطر الجرائم التي ارتكبت في سوريا، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية». ويؤكد البيان على ملف المساءلة وإطلاق سراح المعتقلين والحل السياسي بناء على قرار مجلس الأمن 2254. وتشير انتظارات الموقف الأمريكي إلى أنه لا توجد رغبة لدى الأمريكان بتغيير المسار السوري أو الضغط على موسكو بما يتعلق بكل المسارات وعلى رأسها المسار الدستوري الذي لم يتقدم قيد أَنمُلة منذ عقد جولته الأولى في تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
وفي أول تعليق للمعارضة السورية على نتائج اجتماع دول «الأصدقاء» قال رئيس «الائتلاف الوطني» سالم المسلط: «نقدّر التوقيت في ظل انشغال العالم بأزمة أوكرانيا، كانت رسالة إيجابية من طرف أصدقائنا مفادها أن القضية السورية ما زالت موضع اهتمامهم، لكن ما نتج كان دون تطلعات السوريين». وزاد «يتعرض شعبنا للإبادة والتهجير ولا تفيد اللغة المخففة في رفع المعاناة عنه، نظام الأسد وحلفاؤه يجب أن يُشار لهم بالاسم ويُسلط الضوء على جرائمهم ويُرفع عنهم كل غطاء ويساقوا إلى المحاكم الدولية».
وفي إطار استغلال العدوان الروسي، اقتصر تحرك المعارضة السورية على زيارة تضامن، قام بها دبلوماسيو السفارة السورية في قطر وممثلون عن الجالية السورية إلى السفارة الأوكرانية في العاصمة الدوحة، وكان في استقبالهم السفير أندري كوزمينكو. ورغم أهمية التحرك فانه بعيد كثيرا عن منطقة الحساسيات الأخرى، مثل تركيا وأبو ظبي والرياض والقاهرة والتي لديها الكثير من الحسابات الدقيقة بين روسيا وأمريكا. واكتفت المعارضة «الرسمية» بإصدار بعض التصريحات التي أعربت فيها عن إدانتها للغزو الروسي، أما على الصعيد الدبلوماسي فلم تقم بأي زيارة دولية خصوصا إلى عواصم الدول التي تقود حملة التصدي لروسيا مثل لندن وواشنطن أو باقي الدول الأوروبية المهددة مباشرة. وعوضاً عن ذلك، فضلت قيادة «الائتلاف الوطني» زيارة تل أبيض ورأس العين.
وفي السياق، يستمر النقاش السوري حول مسألة الدور المحتمل للمعارضة ويشغل بال الباحثين والسياسيين والنشطاء الذين يجدون في الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة لتغيير الموقف مع النظام في سوريا، بمعنى توسيع دائرة الصراع والمواجهة الغربية لروسيا وتوسيع الجبهة إلى سوريا وإعادة القتال إلى سوريا مرة أخرى.
ويسيطر هاجس «تصنيع المعارضة» في حال اعتقدت الدول الغربية الفاعلة بضرورة نقل المعركة ضد الرئيس فلاديمير بوتين إلى سوريا. وهي التجربة التي حصلت مع عدة معارضات، أبرزها المعارضة العراقية ضد نظام صدام حسين. وهي «النظرية» التي يؤمن بها عدد غير قليل من السوريين، لكن السبب هو عدم وجود إرادة فعلية غربية بتغيير النظام السوري. وتريح هذه الفكرة ضمائر المعارضة وتبرر الفشل والتقاعس المستمرين، فتستمر بثباتها حتى يأتي الربيع الأمريكي.
وترتبط المعارضة السورية بموقف تركيا أولا وأخيراً. ولا يمكنها بطبيعة الحال التصرف خارج مصلحة أنقرة في الأحوال العادية، فكيف بمرحلة حرجة للغاية تحاول تركيا الحفاظ على توازن العلاقات وكسب ود ورضا الدولتين المتحاربتين في آن معاً.
وتدير أنقرة علاقة معقدة مع موسكو مبنية على فصل الملفات في سوريا وليبيا والقرم وأخيرا في أوكرانيا، في حين تتعاون الدولتان بقضايا الأمن والسياحة والغاز والمفاعل النووي لأغراض مدنية ومنظومة إس- 400.
وأغلقت تركيا مضيق البوسفور الواصل إلى البحر الأسود أمام السفن العسكرية، بناءً على طلب من كييف وحلف شمال الأطلسي «الناتو» معتمدة على اتفاقية مونترو لعام 1936 ولكن إغلاق المضيق أتى بعد عودة أغلب السفن إلى قواعدها الروسية في البحر الأسود بعد انتهاء التدريبات في البحر المتوسط عشية بدء الغزو، وهي في الأساس تعبير عن تضامن رمزي مع الناتو، ولن تؤثر على المعركة في أوكرانيا.
وفي الوقت الذي رفضت فيه أنقرة العقوبات على موسكو واستمرت في فتح المجال الجوي أمام الطيران الروسي المدني والعسكري سلمت دفعة جديدة من طائرات بيرقدار قبل يومين لكييف.
في المقابل، فإنه من المتوقع بعد سيطرة الجيش الروسي على المدن الأوكرانية الكبرى أن تستمر الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي بدعم المقاومة الأوكرانية وإدخال الروس بحرب استنزاف طويلة تحول أوكرانيا إلى مستنقع فعلي كما جرى عندما غزا الاتحاد السوفييتي جارته أفغانستان، تحولت الجبال الواسعة إلى مستنقع استنزف فيه الجيش الأحمر عشر سنوات، انتهت بهزيمته وخروجه في شباط (فبراير) 1989.
وينعكس استمرار الحرب مع الوقت بشكل سلبي على العلاقة مع دول الشرق الأوسط بما فيها تركيا وإسرائيل، ومن المرجح أن تتضرر العلاقة الأمريكية مع السعودية والإمارات إلا في حال عوضت النقص الحاصل في سوق النفط عوضا عن النفط الروسي. لكن تبقى دول الخليج المصدرة لمصادر الطاقة هي أكثر الرابحين اقتصاديا من الأزمة الأوكرانية بسبب زيادة الطلب على الغاز والنفط من دول الخليج العربي، وكذلك سيكون حال إيران أيضا، فهي اكثر الرابحين على الإطلاق مع خروجها من نفق العقوبات الطويل.
ختاماً يختصر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو» ستولتنبرغ مستقبل الحرب في أوكرانيا بقوله «الحلفاء رفضوا طلب كييف فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، لا يجب أن تكون هناك طائرات للحلف في المجال الجوي الأوكراني أو تكون له قوات على أراضيها، الناتو لا يسعى لحرب مع روسيا وليس جزءا من هذا النزاع». وهذا يعني أن الحرب ضد روسيا ستبقى ضمن الحدود الأوكرانية فقط. ولكن دعم الحلف وشركائه مستمر إلى كييف وهو تحضير لمواجهة طويلة لن تنتهي قريباً، فقد بدأها الرئيس بوتين ولن يتمكن من وضع خاتمتها سريعاً.