روسيا تستدعي خبرتها السورية لتقليل خسائر الحرب في أوكرانيا

العقوبات التي تخضع لها روسيا منذ حرب القرم لم تمنع بوتين من غزو أوكرانيا. والعقوبات التي خضع لها العراق لمدة 13 عاما لم تُسقط صدام، ومن ثم فإن العقوبات لن تسقط بوتين، ولن تقلل أمد بقاء قواته في أوكرانيا، ومع زيادة حدة العقوبات وتوسيع نطاقها، يدفع العالم ثمنا فادحا بسبب انفجار أسعار الغذاء والطاقة وتكاليف النقل. أما بالنسبة للأوكرانيين فإن ما يتبقى لهم هو المقاومة، فالعقوبات لن توقف العدوان، ولن تحرر أوكرانيا من الاحتلال. بوتين يعرف ذلك، وقد تحوط للمقاومة، كما تحوط للعقوبات؛ فروسيا ستبقى دولة احتلال في أوكرانيا لعدة سنوات وليس لعدة أشهر. وفي الحالين فإن أهم ما يؤرق موسكو هو ألا تصل تكلفة الغزو إلى الهزيمة، على غرار ما حدث في أفغانستان، ولذلك فإن أحد العناصر الرئيسية لخطة الحرب هو تقليل الخسائر إلى أدنى حد ممكن.
وهنا فإن الخبرة الروسية في حرب سوريا تقدم له الكثير من العون، في مجال إدارة الحرب بطريقة تؤدي لإنهائها بأقل الخسائر، من خلال استراتيجية لإقامة مناطق «تخفيف التوتر» de- escalation zones بما يضيق الخناق على الخصم، ومنع النزاع من الانتشار، وتجميع المتمردين وإعادة توطينهم، وفتح الباب لتسوية سياسية ترسم المستقبل على الصورة المرغوب فيها. وهي الاستراتيجية التي تم تطويرها في سوريا.
وعلى الرغم من اختلاف مكونات الوضع في أوكرانيا عما كان عليه في سوريا، من حيث الطابع السياسي والقوى المتصارعة، فإن استراتيجية «مناطق تخفيف التوتر» التي تشمل إقامة ممرات آمنة لنقل السكان، وإعادة توطينهم في أماكن تحت السيطرة، تبقى صالحة حتى مع اختلاف مكونات التطبيق. وتسعى روسيا لتجنب الدعوة إلى تدخل دولي في أوكرانيا لأسباب إنسانية، ومن ثم فإنها بادرت من خلال التفاوض مع الحكومة الأوكرانية والسلطات المحلية، وبالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لفتح 6 «ممرات إنسانية» حتى وقت كتابة هذا المقال، تسمح بخروج السكان من المدن المحاصرة، وهي ممرات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لأن معظمها يدفع بالسكان إلى روسيا وبيلاروسيا.

تفسير التقدم العسكري البطيء

أثار بطء تقدم القوات الروسية، على الرغم من قوتها الكاسحة، مقابل القوات الأوكرانية الكسيحة، كثيرا من التساؤلات. واستنتج حلف الناتو أن الروس يواجهون مقاومة غير متوقعة، وأن الغزو لا يسير طبقا للخطة المقررة له. هذه الفرضية، صحيحة جزئيا، خصوصا مع المقاومة التي يواجهها الروس في مدن قريبة من حدودهم مثل «سومي» و»خاركيف» لكنها لا تقدم التفسير الكامل للوضع، إذا أخذنا في الاعتبار خبرة القوات الروسية في الحرب السورية، تلك الخبرة تقضي بعدم التسرع في احتلال منطقة قبل حرق المقاومة المحتملة فيها وتسويتها بالأرض. ويبدو من متابعة أسلوب تقدم القوات الروسية حتى الآن أنها تستدعي تلك الخبرة إلى مسرح العمليات، وهو ما يظهر جليا في حصار المدن، وتجويع السكان، وقصف المقاومة بلا رحمة، ثم التلويح بفتح ممرات محددة «آمنة» لخروج سكان المدن المحاصرة، ومنها العاصمة «كييف» و «ماريوبول» الواقعة على بحر «آزوف» و»خاركيف» و»سومي» القريبتين من الحدود الروسية. وربما تتوصل المحادثات إلى اتفاق لفتح ممرات أخرى مع زيادة احتمالات تصاعد المقاومة، ورغبة روسيا في تفريغ المدن لتقليل الخسائر، خصوصا في «أوديسا» الميناء التاريخي، و «دينيبرو» المدينة الصناعية ذات المليون نسمة، التي تتوعد قوات بوتين بمقاومة تعيد إلى الذاكرة مقاومة «ستالينغراد» للقوات النازية في الحرب العالمية الثانية.

مع زيادة حدة العقوبات وتوسيع نطاقها على روسيا، يدفع العالم ثمنا فادحا بسبب انفجار أسعار الغذاء والطاقة وتكاليف النقل

مناطق تخفيف التوتر

بصرف النظر عن اسم العدو أو هويته السياسية، فإن مناطق «تخفيف التوتر» كانت واحدا من أهم الأدوات التي ابتكرها الروس في «إدارة الحرب» في سوريا. وقامت تلك المناطق على أساس اتفاق ثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران في مايو 2017، لم يكن الأسد طرفا فيه، وهو ما سمح لقواته بضربها عند اللزوم، لتصفية جيوب المقاومة المسلحة المتبقية. وأدت استراتجية إدارة الحرب على أساس إقامة مناطق «تخفيف التوتر» إلى تثبيت سلطة الأسد، وتحويل سوريا إلى دولة مستقرة نسبيا بعد أن كانت مسرحا لحرب أهلية ممتدة، وتم بمقتضى الاتفاق الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران تجميع المتمردين على اختلاف انتماءاتهم في أربع مناطق، هي «الغوطة الشرقية» أخطر المواقع التي كانت تهدد سلطة بشار الأسد، و»درعا والقنيطرة» في مثلث الحدود السورية – الأردنية – الإسرائيلية و»حمص» في الوسط، ثم «إدلب» في الشمال الغربي بالقرب من الحدود التركية. وخلال الفترة من ربيع عام 2017 إلى أواخر العام التالي، جرى تقليم أظافر المتمردين في المناطق الأربع، حتى تمت تصفيتها جميعا باستثناء إدلب، التي تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام تحت إشراف كل من روسيا وتركيا وسوريا. ما يحدث الآن في أوكرانيا يؤكد أن القوات الروسية لا تدخل المدن إلا بعد تصفية المقاومة المحتملة تماما، أو إخراجها والسماح لها باستخدام «ممرات إنسانية» تذهب بها إلى مناطق محددة، وهو ما يؤكد سعي روسيا إلى إقامة دولة محايدة منزوعة السلاح تماما في كل أوكرانيا، أو على الأقل في نصفها الشرقي الممتد جنوبا إلى كل واجهتها على بحر آزوف والبحر الأسود. هذه الغاية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تحقيق ثلاثة أهداف هي، أولا تدمير البنية الأساسية العسكرية تماما، وهو ما تقوم به القوات الروسية عن طريق القصف الصاروخي والمدفعي والجوي. وثانيا عزل المقاومة المحتملة وتصفيتها تماما أو إعادة توطينها. وثالثا إسقاط الحكومة الحالية، وإقامة حكومة جديدة موالية. ويُظهر المشهد الحالي على مسرح العمليات أن روسيا تتقدم على صعيد تحقيق الهدفين الأول والثاني، لكنها ما تزال بعيدة عن تحقيق هدف إسقاط الحكومة، على الأقل حتى يتحدد مصير العاصمة كييف، ثم ما إذا كانت موسكو ستقبل بإقامة حكومة في الغرب عاصمتها «ليفيف» بمقتضى اتفاق بضمانات أمنية وشروط سياسية، أم أنها ستحتل أوكرانيا كلها.

إمدادات السلاح والطائرات

المقاومة الأوكرانية هي الخطر الرئيسي الذي يواجه قوات الاحتلال الروسي؛ فمنذ أعلن حلف الناتو بوضوح أنه لن يحارب روسيا في أوكرانيا، يبقى الأوكرانيون أنفسهم هم القوة الوحيدة التي يمكن أن تقاتل الروس. ويعتمد نجاحهم في التصدي للقوات الروسية على مدى وحدة الموقف الوطني، ومستوى التدريب والتسليح، والدعم الغربي المادي والمعنوي، إضافة إلى قوة القيادة ووضوح أهدافها. ويمثل موضوع إمدادات السلاح في الوقت الحالي المطلب الرئيسي للحكومة الأوكرانية من الغرب، بعد الفشل في الحصول على التزام بإقامة منطقة حظر جوي، بما يكشف القوات الروسية على الأرض للمقاومة، ويحرمها من الإسناد الجوي. وفي حال تجديد وتعزيز سلاح الطيران الأوكراني، وتزويد القوات الاوكرانية بالمزيد من الدفاعات الجوية ومضادات الدبابات والمدرعات، فإن الحرب قد تتخذ منحى جديدا يحمل في طياته زيادة خسائر الروس، خصوصا إذا طال بقاؤهم هناك. كما يحمل في طياته أيضا زيادة الضغوط على بوتين من الخارج وتهديد سلطته في روسيا.

ماذا لو نجح بوتين؟

تقدم تجربة روسيا في الحرب السورية الكثير من الدروس غير العسكرية، مع اختلاف الظروف، فقد تدخلت القوات الروسية بينما كان حكم الأسد على وشك السقوط، وكان سقوطه يعني خسارة روسيا أهم قاعدة بحرية لها خارج الحدود، بل وآخر قاعدة لها في المياه الدافئة في شرق البحر المتوسط، ألا وهي قاعدة طرطوس. في ذلك الوقت راهن كثيرون على أن سوريا ستتحول إلى مستنقع جديد لروسيا على غرار أفغانستان، لكن بوتين استطاع بعد عامين أن ينجح في تغيير توازن القوى، ليس في سوريا فقط، لكن في منطقة شرق المتوسط، من خلال تحقيق أربع مزايا استراتيجية؛ تشمل أولا تثبيت نظام الأسد، وثانيا إقامة تحالف إقليمي جديد مع كل من تركيا وإيران، وثالثا تطهير سوريا تقريبا من القوة العسكرية للجماعات الإرهابية والمتمردين، ورابعا إقامة حوار استراتيجي مع إسرائيل، حيث أصبحت له «حدود جوية» معها بعد إقامة قاعدة «حميميم». كما استطاع بوتين في السنوات الأخيرة تطوير شراكة في المصالح النفطية مع السعودية، وصلت إلى حد أن الرياض تجاهلت طلب الولايات المتحدة زيادة إنتاجها النفطي، لتهدئة التوتر، وتخفيض الأسعار في سوق الطاقة العالمي. وهكذا فإن نجاح بوتين عسكريا في سوريا اتاح له هامشا كافيا للمناورة الدبلوماسية، وإعادة هيكلة النظام الإقليمي في شرق البحر المتوسط. هذه الدروس تطرح سؤالا كبيرا عن تصور بوتين لتوازنات ما بعد الحرب في وسط وشرق أوروبا، ومدى قدرته على تطويع النظام الأوروبي على المدى الطويل، في حال نجاح مغامرته الأوكرانية؛ ففي السياسة تستحيل المستحيلات!
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الثورو_ العربي:

    بدأ بوتين الان يخسر الحرب، الحصار الاقتصادي سوف يشل الاقتصاد الروسي. اوكرانيا ليست سوريا.

  2. يقول مامون علي اديب:

    المقاومة الأوكرانية تتبع قيادة واحدة. تمدها الدول الغربية بسلاح متقدم ضد الطيران والدبايات ولم تظهر اختراقات كبيرة فيها حتى الآن

إشترك في قائمتنا البريدية