ليس في القول «ثلاثية العَمالة» أي ذم بأفلام الفلسطيني هاني أبو أسعد، بل فيه توصيف مبني على موضوع واحد تتشاركه الأفلام الثلاثة الأبرز له: «الجنة الآن» 2005، و«عمر» 2013، و«صالون هدى» 2021. في ثلاثتها تتمحور الحكاية حول العمالة مع الاحتلال الإسرائيلي، كموضوع إشكالي في الحالة الفلسطينية، وتكون الشخصية الرئيسية، في سلوكها المحدد لتطور الأحداث، مجرورة بحقيقة أبٍ عميل في الفيلم الأول، وصديق عميل في الثاني، وزميلة عميلة في الثالث. في هذا الأخير «صالون هدى» تتوسع العمالة عما كانت عليه في الفيلمين السابقين له، تتخطى الحالةَ لتكون ظاهرة، فلا تتحدد في شخصية واحدة، بل في اثنتين، وبثالثة هي ضحية تلامس التعامل، ما يجعل العمالة في الفيلم عينة مجتمعية لا قصة استثناء فردي، كما كانت عليه في الأول، «الجنة الآن» وكما بدأت تتخذ شكلَها المجتمعي في الثاني «عمر».
ليست العمالة، كموضوع سينمائي، مذمومة، هي حالة إشكالية ومعقدة وإنسانية، تكون بالتالي محفزةً لسيناريو جيد، وفيلم تطاله الجودة إن حَسن إخراجه. وهذا ما كان، نسبياً فقط، حال «الجنة الآن» وبنسبة أقل في «عمر» وقد كُتبا جيداً وأُخرجا بشكل أقرب للتقليدية، إذ يمكن لأي مخرج محترف، بالمعنى التقني لا الفني، أن يَخرج بهما إلى المشاهدين.
ذلك، في كل الأحوال، ما لا يمكن قوله عن الفيلم الأخير «صالون هدى» الذي طاله خللٌ فني وسردي أشد وطأة من مصَب الانتقادات التي طالته، وقد خصت العمالة من ناحية، والعري من ناحية أخرى، وهي انتقادات غير موفقة، وبمرجعيات ليست هذه المقالة معنية بها، وهي آراء قد يسعدها عنوان «ثلاثية العمالة» فتحكم على مقالة دون إدراك لمضمونها، كما حكمت على فيلم من مشهد أولي، كان مَكمن استفزاز هذه الآراء المكتفية به، وكان ذلك، مدى جرأته، أفضلَ ما فيه، وأسوأ ما فيه كان سياقه السينمائي وشكله الإخراجي. على كل حال، بين هذه الآراء الإقصائية والوِصائية، وفيلم رديء، يختار أحدنا (إن كان لا بد من ذلك) أن يمضي الحياة بمشاهدة أفلام رديئة (على ما في ذلك من خسارة) على أن يمضيها ضمن فضاء تسيطر فيه هذه الآراء المتطرفة والنافية لما لا يشبهها.
لا بد من فصل هذه المقالة بما فيها من رأي حول الفيلم الأخير، أو الثلاثة معاً، عن كل رأي يأخذ الفيلم، أي فيلم، مأخذَ القول السياسي كما تعبر عنه الكلمات، ورأيٌ كهذا لا يحتاج، بالتالي، إلى المشاهدة، بل يكتفي بلملمة (ولا أقول بالإلمام) ما يقوله الفيلم سياسياً، مع أفضلية أن يكون ذلك بكلمات مفهومة، وبأقل قدر منها.
لم يأت موضوع العمالة في الأفلام الثلاثة على السوية ذاتها، وهذا ما جعل فيلماً هو «الجنة الآن» يحظى بآراء إيجابية، للمرور السريع لفكرة العمالة، في مشهد لن يؤثر تفويته على أحدنا في متابعته، وقد أتى (وهذه نقطة أساسية هنا في طبيعة التلقي للفيلم) بصناعة سينمائية تتفوق على الفيلمين الآخرين. في «عمر» ذهب أبو أسعد بعيداً، فيما مرره سريعاً في سابقه، متخذاً العمالة موضوعاً أساسياً للفيلم، لا خلفية سياقية سريعة، مهما بدت هشة، فتنبه المُشاهد، وكانت الآراء متفاوتة تتوسط ما كان ويكون حول الفيلم الأول والأخير، حيث أبقى أبو أسعد، في «صالون هدى» العمالة موضوعاً أساسياً في شغله السينمائي، إنما بإلحاحٍ عليه مع تقصد فج للاستفزاز بشكل أبعد ما يكون عن الصناعة السينمائية الجيدة.
ليس الإشكال إذن في تناول العمالة في فيلم أو أكثر، وذلك يعتمد على السياق (للمَشاهِد) والإدراك (للمُشاهِد) بل في إصرار أبو أسعد على الغوص في هذه المسألة المعقدة إنسانياً ووطنياً، والمبررة لفيلم ممتاز إن حسنَ تناولها (وليست هذه حالتنا هنا) والإشكال يقع أساساً، في ما يمكن أن يبدو منهجاً سينمائياً في ثلاثية تجعل من الحالات الفردية، كالعمالة، حالة جماعية متفشية في المجتمع الفلسطيني، صار لها «سلسلة أفلام» وصارت أحد مواضيع السينما الفلسطينية، مرفقةً بلوم وتشكيك تامين لإرادة المقاومة. وهذا ما يجعل رد الفعل على أفلامه عنيفاً نوعاً ما، هو عنف نفسي ولفظي عفوي آتٍ من قهر سابق للفيلم ولاحق له، يرى أصحابه في الفيلم انحيازاً لسردية (لا) أخلاقية تُسعد الاستعمار وسياساته، وتُغضب ضحاياه. فالعمالة في ثلاثية أبو أسعد هي مسبب المقاومة، فتكون الأخيرة رد فعل نفسي وشخصي واجتماعي، لا سياسي لحالة سياسية، المقاومة إذن لاواعية وعاطفية وبالتالي يمكن فهمها، دون تفهمها. هي انتقامية وخَلاصية وعنيفة ومافيوية (تهدد وتخطف وتبتز وتستغل وتعذب وتحرق وتقتل) هي، تالياً وفي الثلاثية دائماً، عالة على الفلسطينيين، ضحايا المقاومة، بالدرجة ذاتها التي هم فيها ضحايا للاحتلال. وبمعزل عن المقاومة كجسم جماعي، ليس المحفز في الشخصيات الرئيسية للتصرف وإحداث انعطافة في الفيلم، تقاوم فيها مأزق التعامل، سوى محفز اجتماعي فُرغ منه الوعي السياسي والواقع السياسي من حوله، فكانت مقاومة التعامل في «الجنة الآن» لغسل خيانة الأب للشعب، وفي «عمر» لغسل خيانة الفتاة لحبيبها والشاب لصديقه، وفي «صالون هدى» لغسل صورة المرأة لنفسها، وقد بدت فيها خائنة أو ملامسة للخيانة. فكان تطور تناول أبو أسعد للعمالة من الشعب إلى الحبيبة/الصديق إلى النفس، هو تسطيح عكسي (لا تعميقا) لمحفز العمالة لدى الأفراد ولرد الفعل عليها، إذ لا مبررات سياقية، ولا إحالات محكمَة. في الثلاثية لا يكون الخيار الفردي بمقاومة ظرف العمالة لسبب سياسي، بل اجتماعي وشخصي (ومبتذَل في ذكوريته، في الثاني والثالث) كأن التعامل حالة تطبعت بين الفلسطينيين ولا مانع وطنياً ولا سياسياً لها.
يُحسب لأبو أسعد الخوض في مسألة إشكالية كهذه، لكن إصراره على تكرار هذا الخوض بشكل منهجي، يجعل الهامشَ متناً والحالةَ ظاهرة، يضرب المصداقية السياقية (سياسياً واجتماعياً) لأفلامه، وأسوأ ما في ذلك، أنها أتت ضمن صناعة بصرية عادية، لا تنقصها الحرفة التقنية، كما نراها في أفلام تجارية، وليس في ذلك استثناء، إنما تنقصها الروح الفنية الجمالية، التي يمكن، نسبياً، أن تخفف، إن حضرت، من وطأة الإصرار على موضوع واحد يقدمه تدريجياً وتصاعدياً من أول الثلاثية إلى آخرها.
لا تطرح هذه المقالة قراءة لفيلم «صالون هدى» المستحق لمقالة منفصلة، لما فيه من تواضع سينمائي، ابتعد كثيراً عن «الجنة الآن» وقليلاً عن «عمر» كأن أبو أسعد كلما غاص في موضوع العمالة تسطحت أفلامه في شكلها. وكانت، في إثر كل ذلك، الإشكالية في أفلامه لا في موضوعها. وإن كان دخولاً متعثراً، يُحسَب لأبو أسعد الدخول في ساحة شائكة، في الحالة السينمائية أولاً، وفي الحالة الفلسطينية والإنسانية ثانياً، لكن أفلامه علقت هناك وتورمت في العمالة كموضوع، دون أن تسعفها، ولو نسبياً، جوانبُ شكلية فنية غير موجودة.
الاستفزاز المتصاعد في أفلامه الثلاثة ذو صبغة تجارية في طبيعة تناول الإشكالية، وهذه أزمة أخرى في الثلاثية، إذ كان العنصر التجاري التشويقي الفارغ أساساً في معالجة الفيلم لموضوعه المعقد. لا أقول إن الثلاثية هذه تتناول مواضيع إشكالية، بل إنها إشكالية في تناولها، في طبيعة تصاعديتها من فيلمها الأول حتى الثالث. الإشكالية في تصاعد، والجودة في تنازل. وكذلك في مباشريتها في طرح موضوع العمالة مع الاحتلال، وإن تفاوت ذلك في ثلاثتها. تُحسب لأبو أسعد المحاولة الأولى، ونوعاً ما الثانية، وتُحسب عليه المحاولة الثالثة، ولا يعود ذلك إلا لرداءة غير متوقعة للفيلم، سيناريو وإخراجاً، بمعزل عن موضوعه.
من بعد كل هذا، وفي الحديث السينمائي، فليُصَن الحق في الرداءة وفي الاستفزاز مهما صار مستهلَكاً، ولتُصَن أحقية الرأي فيه، فآخر «ثلاثية العمالة» أخف وطأة من العفة الوطنية والأخلاقية الفارغة، وفيها بلاءٌ يَصف، في مآله، غير بعيد عن العمالة.
كاتب فلسطيني سوري