ينبغي أن نقرّ، ونحن نطرح هذا الموضوع الشائك «الأبوّة الدينيّة»، أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتها أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى نفس العائلة المفهوميّة الكبرى نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة، عمل لا يخلو من صعوبة؛ مردّها إلى المادّة اللغويّة المتشعّبة، وما يجري فيها مجرى المجاز أو التعبير الاستعاري أو «الإحيائي» .
من ذلك التوسّع في استعمال كلمة»الأب» التي تعدو دلالة المواضعة، إلى التعبير الاستعاري؛ فقد تدلّ كلمة «الأب» على العمّ والجَدّ والزوج وكلّ من يقوم على تربية شخص وتغذيته، ومن هو موضع شرف وتعظيم أو سخيّ كريم مِطعام؛ أي هي لا تعني الوالد ضرورة أو كلّ ما يلدُ شيئا. بل «الأب» اسم بقدر ما هو صفة.
لكن معنى «الأبوّة الدينيّة» عند عامّة المسلمين، بل كثير من خاصّتهم؛ يلتبس لديهم بالصّورة التي يتصوّرونها عن الأب أي الوالد. وهي ليست في الحقيقة سوى رسم مشتقّ من بيئتهم وحياتهم، وما ترسّخ لديهم دينيّا.
في حين قد لا يعدو الأمر في الصّورة التي نحن بها، أكثر من خلق واقع دينيّ خالص تؤدّيه العبارة المأثورة عن المسيح قبيل اعتقاله:» يا أبي، أنت القادر على كلّ شيء؛ أبعد عني كأس الآلام هذه. ولكن يا ربّ ليكنْ ما تريد لا ما أريد»(مرقس 14:36) أو فاتحة الصلاة الربّانيّة:» أبانا الذي في السماوات». وهذا من شأنه أن يجعلنا نتريّث كلّما تعلّق الأمر بالمقولات الدينيّة الاستعاريّة أو المجازيّة. لكنّ السؤال الذي ينشأ هو: كيف نتأوّلُ هذا المعنى المجازي؟
جاء في»المعنى الصحيح لإنجيل المسيح» أنّ تسمية المسيح الله «أبًا»، ونفسه «ابنًا»، هي من قبيل المجاز. وهو استخدام توراتيّ لا علاقة له بالولادة البشريّة وإنّما بفكرة سلطة الأب وطاعته. والله هنا يرعى شعبه كما يرعى الأب أبناءه. يقول النبي أشعيا في إحدى صلواته:» ومع ذلك فأنت يا الله أبونا. نحن الطين وأنت الخزّاف؛ وكلّنا عمل يديك.» (أشعيا 64:8).
وفي سفر الخروج، يقول الله لموسى:»ثمّ قل لفرعون: هذا ما يقوله الله: شعب بني يعقوب هو كابني البكر. قلت لك: أطلق ابني ليعبدني؛ ولكنّك رفضت إطلاقه، لذلك سأهلك ابنك البكر.» ( سفرالخروج4: 22ـ23). وهذه صورة تشبيهيّة لا تخفى؛ قوامها بنية تداخل بين المشبّه «الله» والمشبّه به «الأب» والمشبّه «الشعب» والمشبّه به «الابن»؛ مع احتفاظ كلّ منهما بتمايزه عن الآخر.
والأمر أشبه ما يكون بـ»القرآن» في المنظور الإسلامي؛ فهو مَجلى الذات الإلهيّة، على نحو ما كان المسيح مجلَى هذه الذات أو كلمة الله.
إنّ صورة «الإله ـ الأب» ترجع إلى معان حافّة خاصّة بالمسيحيّة أو إلى «فضل معنى» في المقول، يتقبّله المسيحي، وقد يشيح عنه غير المسيحي الذي لا يرى في مفردة «الأب» أو «الابن» أيّة دلالة مجازيّة.
لعلّ أهمّ ما نخلص إليه هو أنّ الأب في المخيال الفردي والجمعي هو رمز القوة والسلطان. وهذا ما يسوّغ استعارته للذات الإلهيّة. و»الأب» كلمة أقدم من اليهوديّة والمسيحيّة بكثير؛ وإن استخدمها اليهود والمسيحيّون الأوائل في مخاطبة الله؛ ثمّ صارت لقباً للأساقفة والبطاركة. وقد خاطب الرب يسوع الآب بهذا اللقب في صلواته.
و»الأب» ترد بهذا اللفظ وهذا المعنى في اللغات السامية ومنها العربية .
و»أبو الشعب» أو أبوالقبيلة» هو القائد أو الزعيم أو المؤسّس، وليس من الضروري أن يكون أتباعه جميعاً من صلبه. وهذا المعنى هو الذي يتمثّله إبراهيم «أبو الإسرائيليين» كما كان إسحق ويعقوب ورؤساء الأسباط آباء بهذا المعنى المجازي.
ومن ثمّة فإنّ الصفة «الصمد» قد تكون الأنسب لأداء هذه الصورة. والصمد في كتب التفسير هو الذي لا جوف له، والذي لا يأكل ولا يشرب، والذي لم يلد ولم يولد؛ لأن من يولد سيموت، ومن يرث يورث منه. وهو أيضا السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد، والكامل في جميع صفاته وأفعاله .
«الصمد» هو إذاً السيّد الكامل الذي لم يلد ولم يولد، والمقصود والمستغاث. وفي هذا يجري ـ على ما نرجّح ـ اسم «الأب ـ الإله» أي على أساس من وضع التبادل أو قاعدة التبادل بين داخليّ «الأب ـ الإله» وخارجيّ «الأب ـ الإنسان». ولا غرابة فـ»المجازي» هنا يرقى إلى «الأسطوريّ» ويقاسمه اللعب بالرموز. والأسطوريّ يفلت بحكم قاعه «الحلميّ الطوباويّ» من سطوة التاريخ، ويمتلك قدرة على أن يبني لنفسه حضورا كلّيّا أو زمنا خاصّا يندّ عن أيّ ضبط أو قياس. وعليه فقد يكون هذا التركيب بالنعت «الأب الصمد» هو المناسب لأداء هذا المعنى الرمزي أو هذه «الاستعارة الأبويّة».
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
١. طبقا للانجيل المسيح عليه السلام استخدم (son of mankind ) في الاشاره الي نفسه ولم يذكر او يجيب بالايجاب عندما سئل عن كونه (son of god).
٢. التعبير (ابن الله) استخدم من احد المبشرين بعد فتره من صعود المسيح الي خالقه لتقريب الدعوه الي ملحدي اوروبا في ذلك العصر و اولهم روما.
٣. عندما دخلت روما المسيحيه اجتمع الامبراطور الروماني مع رؤساء الكنائس لتوحيد اسس المسيحيه. في ذلك الاجتماع كان هناك خلاف عميق علي مبداء (الثالوث المقدس) لانه دخيل علي المسيحيه. في النهايه اعتمد المبداء كما اعتمد الاربع اناجيل الحاليه و الباقون، وهم كثر، قد حرقوا.
٤. في المسيحيه الان التعبير بمعناه الحرفي مختلف عليه و مرفوض من بعض الكنائس المسيحيه. في الواقع هناك شخصيه مسيحيه عاليه، للاسف لا اذكر اسمه و انما اعتقد انه من الكنيسه الانجليزيه، قال انه كلما فكر في (الثالوث المقدس) كفكره قل فهمه لها و ازداد عدم تقبله لها.
٥. حسب معلوماتي، تعبير (ابن الله) ينظر له في الكنائس العربيه كما ينظر الي تعبير (ابن النيل) او (ابن الصحراء). هذه الاخيره هي تعبيرات بلاغيه ولا تحمل حتي معني الابوه فيها.
لغة الإنجيل ولغة التوراة تستخدم كلمة الرب والإله ولكن كلمة الله خاصة بلغة القرآن، ومن هذه الزاوية اعترض المسلمون في ماليزيا على غير المسلم في استخدام كلمة الله، وحكمت لهم المحاكم في ماليزيا بذلك، وبالمناسبة لغة القرآن شيء ولغة اللسان العربي شيء آخر، والمعتمد في القرآن هو النص المحفوظ من حافظ إلى حافظ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا ما بين يدينا من نصوص القرآن فعباقرة علماء اللغة عندنا اخترعوا طريقة للكتابة خاصة بلغة القرآن لجمع جميع القراءات في نص مكتوب واحد، وهو ما موجود لدينا الآن من كتاب القرآن الكريم.
الاخ الصديق منصف .. البحث في لغة المقدس الديني مسألة جديرة بالاهتمام .. أشير إلى فائدة الرجوع إلى النصوص الدينية الفرعونية وخاصة كتاب الموتى وكذلك الاساطير البابلية والكنعانية .. هذه النصوص – في تقديري – هي اساس فهم واقعي لليهودية وبالتالي النصرانية .. مع تحياتي ..