ضغوط روسية لتسمية رئيس جديد للبعثة الأممية إلى ليبيا

رشيد خشانة
حجم الخط
0

عبارة «التقسيم» التي غابت عن القاموس السياسي الليبي منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد صد الهجوم العسكري على طرابلس في تشرين الأول/أكتوبر 2020 باتت تتكرر على الألسنة.

كتبت الخبيرة في الشؤون الليبية ماري فتسجيرالد تقول إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة خصص للفتيان والفتيات المقبلين على الزواج منحة قيمتها 40 ألف دينار ليبي (8.000 دولار). واسترعى العرض اهتمام الشباب الذين كانوا يائسين من القدرة على جمع ذلك المبلغ، وخاصة الشباب الذين فتحوا أعينهم مع الانتفاضة، التي أطاحت بالزعيم الراحل معمر القذافي في العام 2011. وأثار الإجراء جدلا بين الذين اعتبروه ضربا من الشعبوية في إطار الإعداد للانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة كانون الأول/ديسمبر الماضي، ومن رأوا أنه الحل الأمثل لتفادي انضمام الشباب اليائس إلى الميليشيات، في مقابل الحصول على رواتب.
وانتقد كثيرون ما وصفوه بالحملة الدعائية للدبيبة، التي أطلقها بعد سحب مجلس النواب الثقة من حكومته في ايلول/سبتمبر الماضي، ومن مظاهرها حضوره عرسا جماعيا لشباب استفادوا من «منحة الدبيبة». واضطر مجلس النواب إلى اتخاذ إجراء مماثل، بإقرار منحة قيمتها 50 ألف دينار ليبي (10.000 دولار) لكل أسرة ليبية، شريطة ألا تكون حصلت على منحة زواج. ويتفق المراقبون على أن «منحة الزواج» كانت لُقية جذابة من الدبيبة، تُساعده في صراعه مع غريمه فتحي باشاغا. وطالما أن نسبة الشباب مرتفعة بين سكان البلد، وأن الإقبال على طلب المنحة شمل عشرات الآلاف من الشباب، يتوقع أعضاء في اللجنة العسكرية 5+5 التي تضم ضباطا سامين من الفريقين المتخاصمين، أن يكون هذا العنصر مُيسرا لإيجاد حل يُنهي الميليشيات، أو على الأقل يحدُ من نفوذها.
لكن اجتماعات اللجان الثلاث الاقتصادية والعسكرية والقانونية، المنبثقة من مسار برلين، تعثرت بسبب الصراع المفتوح بين رئيسي الحكومتين الدبيبة وباشاغا، بعدما حققت تقدما ملموسا، بتفاوت من لجنة إلى أخرى. وبدا الخلاف بلا حل، لأن كل طرف متمسكً بموقفه، معتبرا أنه الوحيد الذي يحظى بالشرعية. والواضح أن الحل لن يأتي منهما، لذلك يصبح دور رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي كبيرا. وهذا الدور سيجعل الحل ليبيا وليس واردا من القوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الملف الليبي، والتي تسعى لتثبيت وجودها عبر الأدوار السياسية التي تلعبها. من هنا يُثير موقف الرئيس المنفي الاستغراب حين يجتمع مع سفراء البلدان الكبرى المؤثرة في الصراع مباشرة أو مداورة، ولا يدعو الدبيبة وباشاغا إلى جلسة مصارحة ومصالحة. ثم يمكن، بعد جولة أو أكثر من اللقاءات، أن يأتي الدور الخارجي ليدعم ما تم تحقيقه بين الليبيين. أكثر من ذلك، يُفترض أن لدى رئيس المجلس الرئاسي رؤية لمسارات الحل السياسي، وأن تكون لديه خطة لإطلاق حوار لا إقصاء فيه، من أجل إقرار صيغة وفاقية للحل الوسط في ليبيا، وإن كانت هذه العبارة مكروهة لدى التونسيين الذين جربوا «التوافق» فأعطى نتيجة سلبية. وما يحفز على سلوك هذا المسلك تذبذب مكانة ليبيا في سلم الأولويات الغربية، خصوصا مع تفاقم الحرب في أوكرانيا، وهو ما شجع البعض على التشدد والتلويح بالحل العسكري، بما أنه يعرف أن القادرين على رفع العصا في وجهه مشغولون في صراع سخن آخر.

أين «مبادرة المنفي»؟

كان الأجدر بدل مناقشة مبادرة المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا ستيفاني ويليامز، أن يُناقش رئيس المجلس مع أولئك السفراء مبادرة خاصة به قد تُدعى «مبادرة المنفي» التي ينبغي أن تؤدي إلى وضع قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات العامة في تاريخ يُتفق عليه. وفي هذا الإطار لا تنبغي الاستهانة بتحذير ممثل المملكة المتحدة في مجلس الأمن الأربعاء، من أن «استمرار التصعيد في ليبيا يعني خطر التقسيم، وهو ما يجب العمل على تجنبه» على ما قال. عبارة «التقسيم» التي غابت عن القاموس السياسي الليبي منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، بعد صد الهجوم العسكري على طرابلس في تشرين الأول/أكتوبر 2020 باتت تتكرر على الألسنة. ولوحظ أن وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية روز ماري ديكارلو حذرت بدورها من عودة الانقسام إلى ليبيا مرة أخرى، جراء استمرار الخلاف حول شرعية السلطة التنفيذية. وكانت ديكارلو تتحدث في إحاطة حول تطورات الأوضاع في ليبيا قدمتها إلى مجلس الأمن الدولي الأربعاء الماضي.
وألقى الانقسام الداخلي بظلاله في مواقف الأطراف الدولية من الوضع الراهن في ليبيا، إذ أن معسكر خليفة حفتر/عقيلة صالح تعزز بانضمام باشاغا إليه، وهو الذي كان أحد القادة البارزين للمقاومة الطرابلسية لدى اجتياح قوات حفتر للعاصمة، في 2019. خارجيا، منحت القاهرة وموسكو «مباركتهما الأولية» لجهود مجلس النواب في تنصيب حكومة جديدة برئاسة باشاغا. وفي المقابل تحالف الدبيبة مع رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري وقادة الكتائب المدافعة عن طرابلس. أما الأمم المتحدة فانتقدت للمرة الأولى الإخلالات التي شابت منح مجلس النواب الثقة لحكومة باشاغا، مؤكدة أنها تلقت تقارير تُثبت أن التصويت على منح الثقة «شابته عيوب إجرائية وتهديدات بالعنف ضد بعض أعضاء النواب وعائلاتهم، وقد أثرت هذه النواقص على مصداقية العملية». وذهبت روز ماري ديكارلو إلى أبعد من ذلك حين انتقدت غياب الحوكمة في إدارة المنطقة الشرقية، التي تسيطر عليها القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، مُلاحظة أنه «في شرق ليبيا غالبا ما يجري تطبيق قوانين الأمن القومي بشكل تعسفي، ويُفسد الافتقارُ إلى الإجراءات القانونيةُ اللازمةُ الإجراءات في المحاكم العسكرية».
ورددت ديكارلو التحذير نفسه من تكريس دولة برأسين، مُنبهة إلى أن استمرار المواجهة حول الشرعية التنفيذية سيُفضي إلى ظهور إدارتين متوازيتين مجددا، «ما يؤدي إلى اضطرابات وتوجيه ضربة قاسية لمسار إجراء الانتخابات». والسبيل الوحيد لتلافي الوقوع في هذا المحذور هو الوصول إلى قاعدة دستورية تفضي إلى صوغ خطة واضحة لإجراء الانتخابات المؤجلة. ومع أن مجموعة الأزمات الدولية حذرت في تقرير نشرته الأسبوع الجاري، من أن الوضع الراهن يجعل ليبيا تقف مرة أخرى على مفترق طرق ينذر بتجدد القتال، للمرة الأولى منذ وقف إطلاق النار في تشرين الأول/أكتوبر2020 رأت مصادر مطلعة أن الطريقة التي أخرج بها أنصار باشاغا من ضواحي طرابلس دللت على تفاوت كبير في ميزان القوى العسكري بين هذا الأخير وقوات حكومة الوحدة ما أقنعه بالانسحاب.
وكانت ويليامز طلبت من مجلسي النواب والدولة تشكيل لجنة مشتركة من ستة أعضاء، في إطار مقترح لوضع القاعدة الدستورية للانتخابات، إلا أن مجلس النواب تأخر في اختيار ممثليه في اللجنة. ومن الواضح أن رئيس المجلس عقيلة صالح وعناصر مؤثرة في قراراته يعطلون مبادرة ويليامز، وبدا هذا الموقف واضحا من التأخُر في تسمية ممثليهم في اللجنة المشتركة مثلما أسلفنا. أكثر من ذلك هم يتماهون مع الموقف الروسي في الأمم المتحدة، الضاغط على الأمين العام غوتيريش من أجل تسمية رئيس جديد للبعثة الأممية، على نحو يُهمش دور ويليامز، ولعله يدفعها إلى الاستقالة، مثلما يتمنون. من هنا شدد النائب الأول لممثل روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي، خلال جلسة مجلس الأمن بشأن ليبيا، على ضرورة تعيين مبعوث خاص في ليبيا «في أقرب وقت، لأن عمله ضروري أكثر من أي وقت مضى» على حد قوله. وهكذا لم يترك بوليانسكي الفرصة تمرُ من دون أن يغمز من قناة واشنطن، التي سبق أن اعترضت على تسمية دبلوماسيين مُحنكين في منصب رئيس البعثة الأممية، بينهم وزير الخارجية الجزائري الحالي رمطان العمامرة.

اهتمام متزايد بغاز ليبيا

وعلى عكس التحاليل التي تعتبر ليبيا قد تراجعت في سلم الاهتمامات الأمريكية والأوروبية، جراء الحرب في أوكرانيا، فإن الاهتمام بها زاد في الفترة الأخيرة. وأكد المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لويس ميغيل بوينو، أن أوروبا تأثرت كثيرا بالأزمة الأوكرانية لاعتمادها على أكثر من 40 في المئة من الغاز الروسي. وكشف بوينو أن الاتحاد الأوروبي يقود حاليا مشاورات مع عدد من دول الشرق الأوسط، في مقدمها ليبيا والجزائر، بُغية تنويع مصادر الغاز والطاقة و«التسريع في توفيرها لمواجهة جميع الاحتمالات». كما كشف أن هناك محادثات وزيارات في أعلى مستوى تجري حاليا بين ليبيا وإيطاليا في هذا الشأن، مُتوقعا أن تُكثف البلدان الأوروبية استثماراتها في الغاز والنفط الليبيين. وفي هذا الإطار تعتزم إيطاليا زيادة وارداتها من ليبيا لتكون بديلاً عن الغاز الروسي، مع أن ليبيا لا تلبي سوى احتياجات ضئيلة من الغاز إلى إيطاليا لا تتجاوز 2.5 في المئة فقط من إجمالي الطلب اليومي، الذي يأتي معظمه من روسيا ثم الجزائر وقطر.
زيادة على ملف الطاقة، يشتغل حاليا خبراء أمريكيون ومغاربة وفرنسيون وإسرائيليون على ملف المرتزقة في ليبيا، في إطار خطة لإرسال مرتزقة متمركزين حاليا في شرق ليبيا إلى ألبانيا، بتمويل أمريكي-مغربي مشترك، ومن ثم إلى أوكرانيا، للقيام بعمليات محددة ضد الجيش الروسي، بالتنسيق مع عناصر تابعة لخليفة حفتر. ولعل هذا الأمر سيخفف من اندفاع بعض الأطراف للعودة إلى الخيار العسكري في ليبيا. لذا يمكن تشبيه الوضع الراهن بالوضع الحرج الذي مرت به ليبيا في العام 2015 عندما اندلع صراع عسكري بين «عملية الكرامة» بقيادة حفتر، وميليشيات «فجر ليبيا» وهو الصراع الذي وُضع على مائدة التفاوض في ضاحية الصخيرات المغربية، فأسفر الحوار عن الاتفاقات المعروفة، التي تشكلت في إطارها حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج. والأرجح أن الأمور تسير حاليا في وجهة مماثلة بدفع من ويليامز ومن ورائها الإدارة الأمريكية، فهل تنجح جهود الإعداد السياسي والقانوني للمسار الانتخابي، بالرغم من كثرة القوى الداخلية والإقليمية، التي تعمل على إحباط أي تقدم نحو الاستقرار والحل السياسي، أم يبقى المصير الليبي في مهب التجاذبات الإقليمية والدولية؟ الأمر بأيدي الزعماء الليبيين إذا ما أرادوا تقديم مصلحة البلد على المصالح الشخصية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية