يخلق استخدام فكرةٍ تكررت كثيراً في الروايات على مدى تاريخها، مثل فكرة صعود شخصية الزعيم، بمختلف أشكالها وأحجامها الدينية، الاجتماعية، السياسية، ومآلها في نهاية الطريق الذي صنعها؛ تحدياً لا يُستهان به أمام احتمال فشل الرواية التي تدخل هذا الطريق الشائك، أو نجاحها إن قتلت وحش التكرار بالإجابة الصحيحة. ويزيد في صعوبة ما تخلقه الفكرة من تحدّ، تألقُ روايات فرضت مكانتها على تاريخ الأدب بنوعية هذه الشخصية، لروائيين كبار من وزن أستورياس في الـ«البابا الأخضر» على سبيل المثال العالمي، وجمال الغيطاني في «الزيني بركات» على سبيل المثال العربي، ضمن عشرات الروايات المتألقة.
كما يزيد استخدام هذه الفكرة صعوبةً جنوح الرواية إلى عكس حقبةٍ تاريخيةٍ ما، من خلال هذه الشخصية، يضخم الرواية ويزيد صعوبة السيطرة على أحداثها وشخصياتها وأزمانها.
رواية السوري يعرب العيسى «المئذنة البيضاء»، الأولى، دخلت حلبة صناعة رواية الزعيم المحور، من أضيق وأعرض الأبواب، لتمشي فعلاً على الماء، باستعارةٍ من أحد عناوين فصولها، أو لتخوض النهر وتخرج، ليس من دون بلل يذكر فحسب، وإنما أيضاً بالكثير من أسماك التقدير التي ستَعْلق بثيابها كما يُتَوقع في سوق الجوائز، وإنتاج المسلسلات التلفزيونية الضخمة.
في كشف مدّ عنق «المئذنة البيضاء» إلى آفاق التألق في سحاب الرواية، يميز العيسى روايته باختيار شخصيةٍ محورية تتطور من الطفل الفقير الذي يحمل اسماً يدلل على أنه آتٍ من الدرك السفلي للفقر وانعدام الثقافة هو «غريب الحصو»، إلى طالب فلسفة في جامعة دمشق، فقير وغير مرئي يُطرَد حتى من الجامع الأموي الذي يلجأ إليه لقضاء الليلة بحكم منع المخابرات البقاء في المسجد أكثر من عشر دقائق بعد الصلاة، قبل حلول موعد مغادرته للعمل في بيروت، إلى تطوره لتلميذ معلّم القوادة اللبناني الشيخ قسام بسخرية الحظ، ثم إلى مايك الشرقي، معلّم القوادة وتجارة النساء والمخدرات الذي استغل موت الشيخ قسام على أكمل وجه، وإلى معلم قوادة السياسة ووساطة اللقاءات السرية بين السياسيين ورجال مخابرات الدول ومنها إسرائيل، ثم إلى قوادة الأعمال الهائلة التي تتاجر بكل الأشياء وعلى رأسها الحرب، وأخصّها حرب الخليج الثانية واستغلال تهجير الكويتيين، ثم استغلال عقوبات النفط مقابل الغذاء، فاستغلال سقوط صدام حسين، فتوسيع تجارة الحرب إلى الصين، ثم إلى ما يأتي صارخاً ويرتبط بأحد أقوى عناصر نجاح الرواية: ثيمة «المئذنة البيضاء»، ونجمها: «المسيح الدجال»؛ بإدراك منه لما يفعل، بعد توسيع معرفته برمزية هذه المئذنة التي ارتبطت بأهم أحداث حياته، وهدتْه كمنارة جديرة بتقديسها إلى نشر التبرير بأنه يُسَرّع من خلال شروره الهائلة كمسيح دجال، في عملية مجيئه وقتله من قبل المسيح للخلاص من الشر.
ويزيد قوة فعل هذه الثيمة في تخطّي الرواية تحدّياتها، وتجسيدها جانباً من الثقافة الجمعية التي يتكرّس فيها نزول المسيح في الباب الشرقي من دمشق، تداخُلها العميق في المكان الذي تحوّل إلى سعير استثمار ملوّثٍ في سوريا ما بعد التسعينات، وداخَلَه العيسى في روايته بنسيج المشروع الهائل في حلم مايك الشرقي الذي تحوّل إلى المسيح الدجال المتنكر بالشيخ الغريب المحسن المتبوع من الجميع، بالاستيلاء على منطقة شرق الباب الشرقي وتحويلها إلى بقعة بيعِ أوهام الخلاص ونهاية العالم فيها، كما بشّر بذلك وفَصّل دينُ المسلمين: «لا يمكن لعقل أن يفهم كيف يعمل ذلك العقل. لكنّ المرجّح أن فيه مادةً كيميائية ما، أو بقعةً ضبابية غريبة تستطيع التفاعل مع الأفكار التي تدخل إليه وتُغيّر في خواصها وتحيلها إلى شيء أكثر فائدة وربحية، تعكسها أحياناً، تحرفها أحياناً أخرى، تخلق بينها وبين جاراتها روابط غريبةً، والأرجح أيضاً أن تلك المادة النادرة وصلت إلى لحظة مخيفة حذّرت منها مقالات وأفلام الخيال العلمي بشأن الروبوتات، فقد صارت واعيةً لذاتها، وتدرك ما تفعل، وتطلب الأفكار الجديدة بإلحاح، وتلتهمها بشراهة، وتتصرف من تلقاء نفسها. تغذت تلك اللعنة جيداً، تجاوزت حدّ العودة، فتحوّل مايك الشرقي إلى موظف عند النقطة الملونة التي في دماغه. صار فهمه أكثر استعصاءً. ومعرفةُ صدقه من كذبه باتت أقرب إلى الإعجاز».
في توسيع آفاق روايته من سرد شخصيةٍ آسرةٍ ومثيرة للتساؤل والإعجاب والكره والتعاطف في ذات الوقت مثل شخصية بطله، إلى تجسيد مراحلٍ وضياعِ شعوبٍ كاملةٍ بالآلام والأوهام، من خلال هذه الشخصية؛ وفي ابتكار حلوله لما يواجه من تحديات الحجم التي يخلقها هذا التوسيع، يضع العيسى روايته في بنيةٍ ذكية سلسةٍ وبسيطة، تتضمّن مقدمةَ محققٍ صحفي، تثير دهشته شخصية رجلٍ يحدّثه عنها شخصٌ عرفها، ويحصل منه ومن الإنترنت على الكثير من المعلومات المتعلقة بمشروع هذه الشخصية في بناء ما سماه الشرق الجديد، وأنشأ شركةً صينية لتحقيق ذلك. ويُدهَش من خلال غوغل أنّ مشروع الرجل الذي يدعى باسمٍ ولقبين ولديه عشرون جواز سفر حقيقي، هو مشروعٌ ربما يغيّر حياة أجيال إن لم يكن لسنواتٍ فللأبد؛ وحيث أن المعلومات شحيحةٌ والغموض يحيط بهذه الشخصية، اضطر المحقق إلى سدّ ثغرات تحقيقه بافتراضات كونه لو كان مكانه، ما الذي يفعل؟ وهو ما حوّل فشل تحقيقه إلى رواية «المئذنة البيضاء». يلي ذلك قسمان ضخمان تحت عنوانين يلخصان الشخصية التي يتابعها، ويتضمنان خمسين فصلاً.
في مشروعه الروائي الضخم المركب في بنيته العميقة كما شخصية بطله، والمبسّط ببنية ظاهرة تساعد على استيعاب التركيب، يأسر العيسى قارئه، بوضع منظومة سردٍ تتضمن سرد الراوي العارف فقط الذي يسرد اهتمامه بشخصية غريب الحصو وتطورها في القسمين الذين يضمان مرحلتين: الأولى، تحت عنوان: القوّاد: من تاريخ مغادرته دمشق إلى بيروت يوم 26 آب (أغسطس) 1984، والثانية تحت عنوان: الدجال: من تاريخ بدء الثورة السورية في 18 آذار (مارس) 2011 التي ارتفع فيها هتاف الشباب السوري في المظاهرات السلمية: «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد»، وحتى ختامها المفتوح الذي سيبدأ فيه «الشيخ الغريب» بشخصيته الغامضة الجديدة الثنائية التركيب تنفيذ استثماره في الأوهام، حيث: «في السابعة من صباح يوم الجمعة 30 تموز 2020، خرج مايك من ملاذه خلف شجرة السرو، بعد أن شعر بصفقته وقد تمّتْ، ودعاؤه لاقى القبول. أتته رسالة الرب واضحةً من البائع. لم يكترث، فهو يعرف الآن أنه كان عميلاً مزدوجاً لدى إبليس والرب معاً، ويكفيه موافقة أحد مُشغّليْه. رفع رأسه إلى المئذنة البيضاء ممتَناً: لم تجلبي المسيح في غيابي!».
يمرّ بذلك العديد من الأحداث يؤرخها العيسى لتفكير القارئ، مثل عودة مايك إلى دمشق صباح الثلاثين من آب 2015، يوم دخول بوتين إلى سوريا، حيث: «أفصح الروسي سريعاً عن كل ما يريد: استئناف سيرة أمته التي توسعت 134 كيلومتراً مربعاً كل يوم طيلة أربعمائة عام. وأخفى الشرقي أكبر قدر مما يريد: استعادةَ روحه من الشيطان مقابل الثروة التي كانت تنمو 134 ألف دولار كل يوم طيلة 31 عاماً وأربعة أيام».
كما يأسر العيسى قارئه بأسلوب تشويق مميز يتدفق منذ البداية بافتتاح الرواية، ويسير به مع خطوات هذا الشخص الأولى التي يعدّها بحسبانٍ بين الجامع الأموي والباب الشرقي، منبوذاً من مدينة تمّ مَسخُها لتكون آكلةً وطاردة لأبنائها.
وعبر عناوين مثقفة وموحية وساخرة وغنية ومتسائلةٍ، يُدخِل العيسى قارئه في أدغال الاكتشاف والمتعة؛ من عالم قوادة الجنس والمال والسياسة والإعلام في بيروت، إلى عالم الاستثمارات وغسيل الأموال في دبي، إلى عالم التجسس وعقد اللقاءات والوساطات السرية بين الأعداء المفترضين من قبل السياسيين بعيداً عن أعين شعوبهم في قبرص، إلى عوالم تجارة الحروب التي تصل إلى تشكيل مايك لكتيبة إسلامية تقوم بتفجيرٍ يدعو النظام وبالتشارك معه إلى هدم أحياء وتهجير سكانها في دمشق القديمة للاستيلاء على بيوتهم، إلى فرد جميع أسرار التجارة بالبشر وغسيل الأموال والاستثمارات الوسخة وتجارة المخدرات التي تراكم ثرواتٍ لا يتسع الخيال الذي يتابعها في تقارير فوربس إلا لفتح فمه اندهاشاً عنها من أين تأتي وإلى أين تذهب.
ويمكن للقارئ بسهولة ملاحظة وعيش عناوين من مثل «كيف سقينا الموداك»، المتماثل سخريةً مع عنوان الرواية الروسية الشهيرة عن ثورة أكتوبر «كيف سقينا الفولاذ» للتعبير عن صناعة المافيا الروسية وتبييض أموال الروس الفاسدين في دبي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، من قبل مايك. ومن مثل «ثم مشى على الماء»، تماثلاً مع معجزة المسيح، للتعبير عن تطوير مايك لأعماله في ليماسول، وتحويل ناقلة النفط الإيرانية المعطوبة من أيام حرب الخليج الأولى، والمحظورة بفعل العقوبات على إيران، إلى سفينة سياحة الجنس المتنقلة في مدن المتوسط.
ويفعل ذلك العيسى ببناء عميق للشخصيات ومعرفة استقصائية للأحداث، وابتكار مشوق لقصص عالم الجنس السفلي، وعالم المال والصفقات، بلغة غنية ومعرفة ثرية وتحليل عميق للثقافة الجمعية التي تكبّل الناس بالأوهام وتقودهم إلى مآلات ما يرسم لهم تجار البشر. مع سخرية سوداء عالية مزودة بثقافة رفيعة تُميّز هذه الرواية وتأسر قارئها بالمتعة وتغنيه بالمعرفة.
يعرب العيسى: «المئذنة البيضاء»
منشورات المتوسط، ميلانو 2021
428 صفحة.