ما لم يتم اتفاق بين الطرفين المتصارعين في ليبيا، على القاعدة الدستورية للانتخابات، سيستمر الوضع بالتعفن، وسط تجاذبات وتهديدات متبادلة بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والحكومة المنبثقة من مجلس النواب بقيادة فتحي باشاغا. وثمة اتفاق على أن تتولى إعداد تلك القاعدة الدستورية لجنة مُشكلة من ثلاثة أعضاء عن المجلس الأعلى للدولة، ومثلهم من مجلس النواب، طبقا لمبادرة تقدمت بها المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي ستيفاني وليامز. لكن المجلس الأعلى للدولة، هو الوحيد الذي سمى ممثليه في اللجنة، فيما تلكأ البرلمان في تعيين أعضائه فيها. ويُفترض أن تتولى اللجنة تعديل المواد الخلافية في مشروع الدستور، وطرحه للاستفتاء العام، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على أساس تلك المرجعية، التي تُصبح دستورا دائما. ويرتدي الاتفاق على القاعدة الدستورية أهمية بالغة، بل ومصيرية في المسار السياسي لحل الأزمة الليبية، إذ أن الخلافات التي ثارت العام الماضي بين المجلسين كان محورها القاعدة الدستورية، وهي التي أدت إلى إفشال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بعدما كانت مقررة في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي. وإذا تعذر التوافق على المشروع، تتولى اللجنة صياغة قاعدة دستورية للانتخابات، وتُجرى الانتخابات في فترة لا تتجاوز 14 شهراً، وهو ما رفضه المجلس الأعلى للدولة. أما الدبيبة فهو لا يُخفي إصراره على التوجه للانتخابات في حزيران/يونيو المقبل، وهو موعد نهاية ولاية السلطة التنفيذية في البلاد. ويمكن القول إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية مدفوعٌ بالشعبية التي بات يتمتع بها، في أعقاب الإجراءات التي اتخذها لفائدة الشباب وفئات اجتماعية أخرى، مؤملا الفوز بالانتخابات الرئاسية، بعد تعديل الدستور، بما يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، تختلف عن الصلاحيات المحدودة للمجلس الرئاسي الحالي، المؤلف من ثلاثة أعضاء. ومع وجود هذا التباعد في المواقف، ظل الطرفان متمسكين بوساطة وليامز. وجدد باشاغا في تصريحات أخيرة ثقته في المستشارة الأممية ودعمه لمبادرتها.
ويمكن القول إن إحدى العقبات الكبرى، التي تعطل السير نحو الانتخابات العامة، الرفضُ الشديد الذي تُقابل به حكومة باشاغا في الغرب الليبي، بسبب عدد الحقائب الهامة التي خُصصت لداعمي اللواء خليفة حفتر، القائد العسكري للمنطقة الشرقية المُثير للجدل. كما أن الوضع في الجنوب الليبي ليس أحسن حالا، في علاقة بالمناخات السياسية والأمنية، التي تسبق الانتخابات عادة. فغياب الدولة وانتشار الأجسام المسلحة الخارجة عن الدولة يُشكلان عقبة كأداء، ليس فقط في طريق إجراء انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، وإنما أيضا لبسط الأمن والاستقرار في إقليم فزان. من هنا فإن صعوبة إدماج الجنوب في العملية الانتخابية تُعتبر أحد عوائق المسار السياسي. ويُقدر عدد المسلحين في الجنوب 4000 إلى 7000 مقاتل أجنبي. ومن أجل معالجة هذا المشكل زار الدبيبة العاصمة التشادية نجامينا منذ بضعة أسابيع وبحث مع المسؤولين فيها موضوع سحب المرتزقة التشاديين من ليبيا. ثم عقدت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 اجتماعا في القاهرة، بمشاركة المخابرات المصرية ومسؤولين من تشاد والنيجر والسودان، وهي البلدان المُصدرة للمرتزقة إلى ليبيا. وتردد أنه تم في الاجتماع الاتفاق على آلية لسحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب، لكن لم تظهر مؤشرات حقيقية على بدء تنفيذ هذا الاتفاق في حال وجوده. غير أن العارفين بأوضاع منطقة الساحل والصحراء يؤكدون أن الجيوش النظامية في البلدان الثلاثة أضعف من أن تقدر على ضبط أولئك المرتزقة، الذين لن يقبلوا التخلي عن أسلحتهم ومغادرة ليبيا من دون مقابل مادي وسياسي. كما أنهم سيشترطون الوصول إلى اتفاقات مع سلطات بلدانهم، بما فيها القبول بإشراكهم في السلطة.
على أن المخاطر الأمنية لا تقتصر على الجنوب حيث حلت الجماعات المسلحة محل الدولة، وإنما هناك أيضا مخاوف، خصوصا بين سكان العاصمة طرابلس، من انزلاق الأوضاع الأمنية، وسط التصعيد المتبادل بين حكومتي الدبيبة وباشاغا. ومن عناصر التوتير الأخيرة الرسالة التي بعث بها وزير الداخلية في حكومة مجلس النواب اللواء عصام أبوزريبة إلى كافة مديريات الأمن والأجهزة والقطاعات الأمنية، أمرهم فيها برفض التعاطي مع حكومة الدبيبة، مُعتبرا إياها «مُنتهية الولاية». كما أمرها برفع درجة الاستعداد لتأمين مقار الدولة ومؤسساتها ومنشآتها الحيوية، والتصدي لأية خروق أمنية تمسُ بأمن العاصمة، مُؤكدا أن الحكومة التي ينتمي إليها «بصدد إنهاء كافة الترتيبات الأمنية اللازمة لمباشرة أعمالها من داخل طرابلس». لكنه لم يشرح كيف ستتم هذه العملية، بعدما انسحبت القوة الموالية لبشاغا إلى مصراتة، بالرغم من وصولها إلى مشارف طرابلس. وحذر تقرير جديد أصدرته «مجموعة الأزمات الدولية» من أن يؤدي المأزق إلى العودة للصراع العنيف؛ إذ يمكن لكل طرف أن يعتمد على المسلحين الموالين له، فمجلس النواب والحكومة الجديدة اللذان يتخذان من المنطقة الشرقية مقرًا لهما يتمتعان بدعم المشير خليفة حفتر، وفصائل مسلحة أخرى تدعم باشاغا، بينما يتمتع الدبيبة وحلفاؤه بدعم باقي القوى المسلحة غرب البلاد. لكن المهم أنه لا توجد رغبة في إراقة الدماء بسبب هذا النزاع السياسي. كما أن شركاء ليبيا الأجانب يبدون غير مستعدين حاليًا لدعم تجدد العنف. أكثر من ذلك أكد واضعو التقرير أن الدبلوماسيين الغربيين يُشيرون إلى أن بعض الليبيين ما زالوا مهتمين بمحاولة التوصل إلى صفقة بين النخب على حكومة جديدة، ويعتقدون (بعض الليبيين) أنهم بتغيير بعض الوزراء في الحكومة، التي اقترحها باشاغا (يقصدون على الأرجح الوزراء الموالين لحفتر) وفتح الصفقة أمام أولئك الذين يدعمون حكومة طرابلس، فقد تكون أمامهم فرصة لتأمين مستوى واسع من الدعم، وبشكل كاف للتوصل إلى «صفقة كبرى من نوع ما».
الأحزاب تعود؟
أحد المعنيين بإيجاد هذا النوع من الصفقات يتمثل في الأحزاب السياسية، التي لم تترك لها الحروب الأهلية (2011 و2014 و2019) فسحة لتجميع الأنصار وتصليب عودها والمشاركة في الحياة العامة في أعقاب 42 عاما من الاستبداد والحكم المطلق، تحت شعار «من تحزب خان». ولوحظ أن ستة أحزاب برزت في الفترة الأخيرة في طرابلس بمواقف مشتركة، وعقدت اجتماعات مع مسؤولين في الدولة، بالإضافة لزيارة رئيس المفوضية الوطنية للانتخابات. وأعلنت الأحزاب الستة، وهي «الجبهة الوطنية» و«العدالة والبناء» و«تحالف القوى الوطنية» و«حزب العمل الوطني» و«حزب التغيير» و«تكنوقراط ليبيا»، دعمها صياغة قاعدة دستورية تضمن تنظيم انتخابات برلمانية في أسرع وقت ممكن، على أن يكون ترشح أعضاء الأحزاب فيها بنظام القائمة الحزبية. وحضت في بيانها المشترك، الذي وجهته إلى لجنة صياغة القاعدة الدستورية، على اعتماد نظام القوائم وتخصيص حصة لا تقلُ عن 80 في المئة من مقاعد المجلس للأحزاب، وضمان نزاهة العملية الانتخابية، «حتى تفضي إلى برلمان قادر على الالتزام بالعملية الديمقراطية وبناء دولة مدنية» على ما نقلت «بوابة الوسط» الإخبارية عن البيان. وحذر البيان أيضا مما وصفه بـ«التداعيات السلبية لإقصاء الأحزاب» الذي تسبب بالفوضى والتشظي وغياب الأعضاء وعدم توافر النصاب في جلسات البرلمان وضعف شرعية الحكومة، مشيرا إلى إقصاء الأحزاب في قانوني الانتخابات رقمي 1 و2 لسنة 2021. وكان رؤساء الأحزاب الستة اجتمعوا مع رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السايح لمناقشة دور الأحزاب السياسية في إنجاح العملية الانتخابية، وأهمية تضمين القائمات الحزبية في قانون الانتخابات البرلمانية.
سيطرة الأجسام المسلحة
يُعزى ضعف الأحزاب إلى التصحُر الذي ساد ليبيا في ظل دولة الفرد، فضلا عن الملاحقات والاعتقالات والاعدامات، كما أن انتشار ما لا يقل عن عشرين مليون قطعة سلاح وسيطرة الأجسام المسلحة على الشارع، أحالت الأحزاب المدنية إلى هامش دوائر القرار السياسي. ومن الواضح أن هذه الأحزاب شعرت بأن المسار يتقدم باتجاه الانتخابات العامة، وأنها ستندثر لو لم تحصل على مقاعد في البرلمان المقبل. كما أن الواضح أيضا، من منهجية عمل تلك الأحزاب، أنها تسعى للمساهمة في بلورة صيغة وفاقية للعيش المشترك، تقود المسار إلى محطة الانتخابات من دون هزات. وبتعبير آخر فهم يبحثون عن مواقع في أجهزة الدولة الحديثة التي ستُبنى على نتائج الانتخابات المقبلة.
من هنا عكف المشاركون في اجتماعات تونس التي انطلقت الثلاثاء الماضي، في حضور وليامز، على البحث عن صيغة وسط، تستند على بعض الترتيبات التي ما زالت قيد المناقشة. وأتى خيار تونس مكاناَ لعقد جلسات اللجنة الدستورية بالنظر إلى وجود مكتب للمستشارة الأممية هناك، زيادة على قصر المسافات بين ليبيا وتونس، ووجود شبكة من الفنادق التي استضافت وما زالت تستضيف كثيرا من الاجتماعات الليبية، فضلا عن العديد من المنظمات الدولية والأممية والسفارات المعتمدة لدى ليبيا، والتي تقوم بعملها انطلاقا من تونس. وكانت تونس استضافت جلسات ملتقى الحوار السياسي الليبي العام الماضي والذي قبله. وقال أحد المشاركين في الاجتماعات إن التونسيين يُحجمون عن التدخل في الملفات التي تناقشها الأطراف الليبية، على عكس بلدان أخرى، وهم يكتفون بتوفير المناخات المناسبة لإنجاح الحوارات الليبية الليبية. غير أن أحد الأخطار التي تهدد التقدم النسبي نحو التوافق على الروزنامة الانتخابية، يتمثل في تفاقم الأوضاع الاجتماعية، خصوصا بعد التوقف عن بيع النفط، وهو مصدر الايرادات الرئيس للدولة الليبية. وقد سبب انقطاع الايرادات النفطية أضرارا جانبية من بينها تأخر صرف الرواتب وارتفاع الأسعار بما لا يقل عن 60 في المئة بالنسبة للبعض منها، في ظرف يتسم بارتفاع الطلب على المواد الاستهلاكية، استعدادا لحلول شهر رمضان. والظاهر أن الاجراءات التي قررتها الحكومة للتخفيف من معاناة المواطنين ما زالت لم تُعط أُكلها، ومن بينها قرار وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة الوحدة الوطنية محمد الحويج، بتحديد الحد الأقصى لأسعار السلع الغذائية.
وبموجب القرار باتت المحال التجارية مُطالبة بوضع التسعيرة في مكان بارز، على أن يتولى مأمورو الضبط القضائي قفل أي محل تجاري مخالف للقرار الحكومي. لكن هذه الإجراءات لا تكفي لأن ليبيا أسوة ببلدان عربية أخرى، ستخرج خاسرة من حرب لم تخترها، بين روسيا وأوكرانيا، ولم تشارك فيها من قريب أو بعيد، وهما المُزودان الأساسيان لغالبية البلدان المغاربية بالقموح. وسيترتب على تراجع المساحات المزروعة في البلدين، بنسبة لا تقل عن 30 في المئة، شحٌ في الإمدادات من مواد استهلاكية بالغة الحساسية اجتماعيا، بما قد يُهدد باندلاع احتجاجات وتمرد على الحكومة.