حين كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية، كنا نقيم في مدينة بورتسودان الساحلية، وكنا نفر سنويا في عطلة الصيف من حر تلك المدينة الرهيب، إلى قريتنا الصغيرة في شمال السودان، حيث نقضي عطلة جيدة، وسط أهل بسطاء في حياة بسيطة، ومفردات غريبة على تذوقنا بالطبع، لكننا نتآلف معها سريعا، وخلاك شهري العطلة، نكون بالفعل أبناء أصيلين لتلك القرية، نرتدي الثياب البيضاء الفضفاضة،، ونقص الشعر كاملا، وأيضا نستخدم الدواب المتوفرة كمواصلات وحيدة، وغير مكلفة، في ذلك الزمان.
كانت توجد في تلك القرى المتراصة في شريط ضيق بين النيل والصحراء، شخصيات حية، إما تسكن في القرى أو تعبر بها، وقد تمت أسطرة بعضها وأصبحت شخصيات عامة، يعرفها الجميع هناك، ويسعون للتعرف بها واتباع خطواتها، التي كانت خطوات مقدرة بشكل كبير.
كانت ماشطة شعر النساء مثلا، التي في الغالب امرأة مسنة من الأعراب المرابطين بخيامهم وبيوت الشعر، حول تلك القرى، نجمة حقيقية، تتصدر مجالس النساء، وتنقل الأخبار من بيت لبيت، وغالبا ما يتم إكرامها بسخاء، حماية للأسرار أن تظل دفينة في صدرها. كان هؤلاء النسوة يدخلن في الأغنيات التي تضفر في ذلك الحين، ويذكرن في محافل كثيرة، ولعل كتابة مثل تلك الشخصية في نص روائي، في ذلك الحين وحتى عهد قريب، كان سيبدو ساحرا فعلا، ومميزا فعلا، وفيه اكتشاف لبيئة قد يهم القراء معرفتها، وتتساوى في ذلك قارئات البخت، وراميات الودع اللائي، يستلهمن المستقبل، ويحاولن تضفير الطرق بالورود للذين سيعبرونها.
كانت قارئات المستقبل أيضا نجمات، يمنحن كل من جلس إليهن نصيبا من الحلم الجميل: الموظف سيترقى في عمله إلى رتبة أعلى، الفتاة العزباء ستتزوج فورا، ومن رجل ثري، التلميذ سينجح في دراسته وقد يصبح ضابطا أو طبيبا أو وزيرا،، والجدة العجوز التي تقترب من النهاية بخطى حثيثة، ستحج، وتعتمر وتعود إلى أهلها سالمة غانمة. وأعتقد أنني كتبت عن شخصية قارئة المستقبل، بوحي من تلك المشاهدات، ولا بد توجد شخصيات مشابهة، في أعمال كتبت في فترات ازدهار القرى بتلك الثقافة، ولكن لا أعتقد أن معظم النصوص الحديثة التي تكتب الآن، يمكن أن تستوعبهن إلا ضيفات قليلات الإقامة في الصفحات.
أيضا من الشخصيات التي كانت أسطورية بالفعل، في ذلك الزمان وتمثل أقصى طموح للفتيان في القرى، أن يصلوا إلى مقامها، وفتيان أحلام للفتيات الحالمات في ليالي العتمة القروية، حيث لا شيء سوى الثرثرة، وتضفير الأحلام، سائقو اللواري السفرية بين القرى والعاصمة، الذين كانوا يعبرون بكل القرى تقريبا في رحلاتهم الدؤوبة من العاصمة وإليها، حاملين البضائع والمسافرين، في شوارع رملية غير ممهدة، صنعتها عرباتهم.
كان هؤلاء بالفعل شخصيات روائية عظيمة، وشخصيات دخلت في صميم الثقافة الشعبية، وهناك ملاحم عديدة، تحدثت عن سفر الحبيبة من بلدتها، مع سائق من أولئك، وكان الشاعر يوصيه باتباع الأخلاق وعدم إغواء حبيبته. وأذكر أسماء لسائقين من نجوم تلك الفترة مثل، كمال، وختوم حسن، ودوشي، وصابر الشهير الذي لو امتلك السائقون لغة توقيع الإوتوغرافات، لوقع لجميع سكان القرى الواقعة على شريط النيل، من شدة وهجه.
أردت القول إن كتابة رواية عن تلك المناطق في تلك الفترة، لن تكتب إلا ببهارات تكون تلك الشخصيات من بينها أو بالضرورة، ستكون أبطالها. لا بد من قصة حب بين ريفية جميلة، رشيقة، حالمة وسائق يوصف بالوسامة والجرأة والمغامرة، وكيف يضع الطاقية بطريقة مختلفة على رأسه، يسافر ويعود، ويهجر، ويصل.. هكذا. لا بد من ماشطة شعر، تتسلى بالانتقال اليومي من بيت إلى بيت، وتنقل في تجوالها أخبارا ملفقة، أو حقيقية لكنها مزعجة. لا بد من ظهو ذلك الرجل الشجاع الذي يمكن أن يغطس في النيل في زمن الفيضان، لينقذ شخصا من الغرق، أو يجر إلى البر غريقا طافحا جاء به النيل من بعيد، حيث سيعثر عليه أهله في ما بعد، وقد كان في قريتنا رجل بهذه المواصفات اسمه بشير، وكان نجما يمكنه أن يدخل أي نص روائي، فقط كانت النصوص التي كتبت في السودان، وعن هذه البيئة قليلة جدا، بحيث لم يتسع المجال.
رامية الودع، قارئة المستقبل، هي الأوفر حظا في الكتابة، كما أعتقد. الناس تخاف المستقبل، وتريده زاهيا في أي وقت، ودائما ما يوجد من يستطيع تلوين الغبار، وإضاءة الظلام الدامس بشيء من ضوء موهبته، وهكذا قارئات المستقبل. شخصيا كتبت هذه الشخصية في نصوصي الأولى كما ذكرت، وهناك غيري من كتب عنها، وتوجد شخصيات مشتركة بين البيئة السودانية، وبيئات عربية أخرى، كتبت أيضا في نصوص لكتاب تلك البلدان.
إذا جئنا للكتابة في هذا الزمن، بمعنى أن نستوحي رواية من تلك القرى نفسها الواقعة بين النيل والصحراء، في شمال السودان. هل سنتحدث عن وسامة السائق ختوم حسن، وغوايته للفتيات ودغدغته لأحلام الشباب؟ هل سنتحدث أصلا عن عربة بدفورد، تنقل سفاسف الأمور بين القرى والمدن، وهل ستكون ثمة ماشطة للشعر، تضفر النميمة، وقارئة بخت، تتلون بحسب ما تمنح من نقود؟ وبشير الذي يتحدى الفيضان، ليخرج غريقا على وشك أن يضيع، وميتا، يسبح من قرية إلى قرية؟
لا بالطبع، لأن القرى لم تعد هي القرى الموجودة في النصوص التي كتبتها سابقا، البيوت لم تعدد بيوت الطين المشققة، الكثبان الرملية لم تعد مقاهي الثرثرة التي يتكئ فيها الناس، والنجوم القديمة سقطت وتهاوت تماما.
الرواية التي تستلهم مفردات القرية الآن، ستستلهم مقاهي الإنترنت، ومحلات السوبر ماركت، والطرق المسفلتة، والبيوت المبنية بطريقة هندسية نظامية، وربما عربات من ماركة اللاند كروزر والنيسان، رابضة أمامها. وأي شيء يكتب عن تلك البيئة القديمة، لن يغري لأنها لم تعد تملك سحرها القديم.
خلاصة الأمر، أن الكتابة كمادة، تأخذ من الواقع وتمنحه، لا بد أن تتأثر بتطور ذلك الواقع، وأيضا بتأخره إن تأخر لأي سبب، لذلك أتوقع في السنوات المقبلة، وبعد أن تم تدمير كثير من المجتمعات، وانعدمت وسائل العيش العادي فيها، أن تأتي نصوص، تعيدنا إلى زماننا القديم.
روائي وكاتب سوداني
أمير تاج السر