ظاهر الحال يشير إلى أن الانتخابات النيابية ستجري في منتصف أيار/مايو المقبل. غير أن شكوكاً كثيرة تكتنفها، وتدفع عدداً غير قليل من المراقبين إلى ترجيح عدم إجرائها. السبب؟ لأن في كل يوم تتفجر أزمة، أو تتكشف فضيحة، أو تتبدى عوائق ومعوّقات ترجّح احتمال عدم إجرائها. مع ذلك تجري استعدادات وتحركات وتُتخذ مواقف وتُطلق شعارات وتًعلن تحالفات انتخابية، الأمر الذي يُوحي بأرجحية إجرائها، غير أن ذلك كله لا يحول دون حدوث مفاجآت تدفع إلى تأجيلها. ما أبرز القضايا التي يتمحور عليها الصراع داخل فسيفساء لبنان السياسية، التي لا تتوقف عن التناسل والتجزؤ؟
يمكن تعداد الكثير من القضايا – التحديات، أبرزها اثنتان مصيريتان: سلاح المقاومة، وهوية لبنان. حيال هاتين القضيتين – التحديين ثمة فريقان كبيران يتصارعان:
الأول فريق سياسي عابر للطوائف والمناطق، وإن كان طابعه الغالب مسيحياً. يرى هذا الفريق أن القضية الأولى، سلاح المقاومة، فَقَد مسوّغ وجوده بعدما انسحب جيش «إسرائيل» من لبنان، نتيجةَ إخفاقه في حرب عام 2006، وترسيم خط أزرق لوقف النار بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1701. ولا يتوانى هذا الفريق عن المطالبة بتجريد المقاومة (حزب الله وحلفائه) من سلاحها بدعوى أن السلاح يجب أن يبقى حكراً على الدولة، لئلا يُستخدم لترجيح كفّة حامليه في الصراع على السلطة والنفوذ.
ثمة فريق سياسي آخر عابر للمناطق والمذاهب والمشارب، ذو طابع وطني مزدوج العضوية: إسلامية وعلمانية (بمعنى لا طائفية). يرى هذا الفريق أن «إسرائيل» لم تنسحب من كل المساحة التي كانت تحتلها، وأن الخط الأزرق لا يتطابق مع حدود لبنان الدولية من جهة، ولا مع مطامعها التوسعية التي ما زالت متوقّدة من جهة أخرى، ما يستوجب بقاء المقاومة وتعزيزها لتشكّل رديفاً قوياً للجيش اللبناني في مهمة الدفاع عن أمن لبنان وسيادته. لا يعارض هذا الفريق في رسم واعتماد استراتيجية وطنية لمواجهة «إسرائيل» تكون المقاومة جزءاً منها، وتحت قيادة واحدة أو مشتركة مع الجيش اللبناني.
القضية الثانية تتمحور حول هوية لبنان.. ذلك أن الفريق الأول الداعي إلى تجريد المقاومة من سلاحها، يرى أن الفريق الثاني الذي يضم «حزب الله» وبعض التنظيمات السياسية القومية بات يهدد، بعلاقاته وتحالفاته العابرة للحدود، هويةَ لبنان وسيادته، فضلاً عن توازنه الديموغرافي (بمعنى التوازن العددي بين الطوائف). غير أن الأمر الأكثر مدعاة للجدل والارتياب هو، أن الفريق الداعي إلى تجريد المقاومة من سلاحها بات يتخوّف ويجاهر بأن بقاء المقاومة وتمسكها بمطالبها وأهدافها وعلاقاتها وتحالفاتها العابرة للحدود، يؤدي إلى أمرين خطيرين: تغيير النظام السياسي والاقتصادي القائم، ما يقود لاحقاً، في ظنّه، إلى تغيير هوية لبنان.
المرشحون المتنافسون، وقيادات أحزابهم، يسمونها انتخابات مفصلية.. إنها مفصلية حقاً سواء جرت أو تأجلت.. لبنان بعد الانتخابات سيكون غير ما كان قبلها
النظام السياسي والاقتصادي الذي يتخوّف منه الفريق الداعي إلى تجريد المقاومة من سلاحها هو، نظام المحاصصة الطوائفية القائم، ومنظومته الحاكمة الفاسدة وطبيعته الريعية المتنافية مع اقتصاد الإنتاج. الأخطر من ذلك كله أن الفريق الداعي إلى تجريد المقاومة من سلاحها، يرى أن الدعوة إلى تجاوز نظام المحاصصة الطوائفية الفاسد، حتى لو جرى ذلك سلمياً وديمقراطياً، تؤدي إلى تغيير هوية لبنان بما هي هوية طوائفية في مضمونها، وغربيّة التوجّه في ثقافتها وسلوكيتها.
ما أحجام الأفرقاء السياسيين المتنافسين في الانتخابات، التي يمكن أن تتطور إلى اضطرابات أمنية واسعة النطاق؟ ثمة تقاطع بين بعض المؤسسات والمهنيين العاملين في حقل استطلاعات الرأي على تقديراتٍ مؤقتة للأحجام الانتخابية للقوى السياسية المتنافسة على الفوز بالمقاعد النيابية على النحو الآتي:
ـ حزبُ الله وحلفاؤه 72 مقعداً نيابياً.
ـ خصومُ حزب الله وحلفاؤه 35 مقعداً.
ـ حزبُ القوات اللبنانية 11 مقعداً.
ـ جماعاتُ المجتمع المدني NGO والمستقلين 10 مقاعد.
اذْ ينطوي الصراع السياسي الانتخابي على كل هذه الخلافات والعصبيات والمخاطر، فإن احتمال تطوره إلى صراع مسلح بين الأطراف السياسية المتنافسة، أمر لا يمكن استبعاده، خصوصاً في هذه المرحلة العصيبة من العلاقات الدولية التي تتميّز بظاهرات شديدة الحساسية والخطورة ليس أقلها الحرب بين روسيا والغرب الأطلسي في أوكرانيا وانعكاساتها السلبية على دول غرب آسيا، وفي مقدمها الكيان الصهيوني، وعدوانه المتواصل على أطراف محور المقاومة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى سواحل بحر قزوين شرقاً. سواء جرت الانتخابات في لبنان أم لم تجرِ، فإن ثمة صراعاتٍ ما انفكت تعصف به منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وتتفجر أزماتٍ وحروباً، الأمر الذي يطرح سؤالاً مصيرياً: أيّ لبنان سيظهر بعد منتصف مايو المقبل؟ وأيّ حال ستكون عليه ساحات دول غرب آسيا في غمرة نظامٍ كوني جنيني متعدد الأقطاب، يتشكّل ويشق طريقه إلى الظهور والشمول في زمنٍ شديد الاضطراب السياسي والأمني والاقتصادي. المرشحون المتنافسون، ومن ورائهم قيادات أحزابهم وجماعاتهم السياسية المتصارعة، يسمونها انتخابات مفصلية.. إنها مفصلية حقاً سواء جرت أو تأجلت. لبنان بعد الانتخابات سيكون غير ما كان قبلها.
كاتب لبناني