كثيرةٌ هي الكلمات والآراء التي تعلق في ذهن المرء حتى تصير اقتباساتٍ يرجع إليها كلما استدعت الحاجة وجدّ أو طرأ ما يثبت صحتها، ولعلها من الأصل لم تعلق في ذهنه إلا لتوصيفها الأمين أو شرحها الثاقب لهذا الواقع؛ ولعل أكثر هذه الجمل التي أجدني أعود إليها بصورةٍ منتظمة، هي تلك التي انتقد فيها كارل ماركس هيغل مستدركاً، حين أعرب عن رأيه بأنه لو صحت مقولة إعادة التاريخ لنفسه فإنه يصبح حينذاك مسخرةً بعد أن كان تراجيديا ساحقة.
ما فات ماركس فلم يعلق عليه (ربما لأنه لم يكن معنياً بالعالم العربي ودورانية زمنه)، هو كيفية وصف التاريخ حين لا يكف عن تكراره لنفسه، أتنقلب أو تعود المسخرة تراجيديا جادةً مرةً أخرى، من فرط الألم والقهر والمرارة؟ أم أنها تستمر ملهاةً؟ الأرجح عندي أنها تستمر ملهاةً، لكن مفرطةٌ في البذاءة، متهاويةٌ في قيعان العبث الذي لم يزل مختلطاً بالقرف والمرارة والغضب. ربما ما يؤكد تلك المعاني ويبرزها أن الهزائم والفشل لم تأتِ كمفاجآتٍ غير متوقعة، بل إن كل النذر كانت تشير إليها وكثرت الأصوات التي تحذر منها.
تجريف مصر اقتصاديا وجعل مصيرها في يد السماسرة واغراقها في الرمال المتحركة سيرتب آثارا على استقلالها السياسي
في الأيام الماضية، صحا الناس من نومهم في مصر ليروا الجنيه المصري تتهاوى قيمته أمام العملات الأجنبية «الصعبة» وبطبيعة الحال حظي الدولار بنصيب الأسد من الاهتمام والمقارنة، ولم يحتج الناس إلى فائضٍ من الفطنة والذكاء ليدركوا أن العواقب، ارتفاعاً في أسعار كل السلع والخدمات، سيكون مؤلماً للغاية وكارثياً بالنسبة للكثيرين، وأن الغلاء سينهش في ما تبقى في جيوبهم شبه الخاوية (أو الخاوية بالفعل) من الأساس. بيد أن ما يستدعي في رأيي الملاحظة هنا أو «مربط الفرس» في رأيي ينصب في الظروف التي أحاطت وأدت إلى تلك الظاهرة وردة الفعل، على الصعيدين الشعبي والحكومي عليها. بدرجةٍ عالية من الارتياح والاطمئنان نستطيع أن نجزم أن التحذيرات من هذا المسار وما ظهر وما سيظهر لاحقاً من نتائج وبيلة، لم يكن أكثر منها، فما الذي حدث ولماذا لم يُلتفت إليها؟ ما حدث ببساطة أن السيسي، أراد أن يقنع الناس بأن «شيئاً ما» كبيراً يحدث في مصر، هذا من ناحية، ومن الأخرى أراد أن يغدق على محاسيبه ورجاله في المؤسسة العسكرية الأموال، لينتعشوا وتتجذر مصلحتهم المباشرة في بقاء النظام، فانطلق في فورة بناءٍ محمومة لجسور، جسور كثيرة، وما شابه من المباني شحيحة أو عديمة الفائدة، وبالتالي صب كماً هائلاً من المال في الخرسانة، ليلهي الناس ويسد الأفق أمام عيونهم التي لن تستطيع غالبيتها تجاهل ما يرونه، لكنه (وتلك هي النقطة الفاصلة والحاسمة) لم يقدم على ذلك إلا بعد أن أدخل المؤسسة الاقتصادية للجيش، إما مُنفذاً عبر شركاتها (كالهندسية مثلاً) وإما شريكاً تاماً بنسبةٍ معتبرة (وصلني أنها تتراوح بين العشرين والأربعين في المئة في بعض التقديرات في صورة تسهيلاتٍ وتراخيص إلخ) في كل شيء، وأسس ومهد لهذا كله بسعارٍ عجيبٍ لا يعرف حداً ولا تريثاً من الاقتراض من كل الجهات المستعدة لإقراضه. لا شك في أنه في جهله الاقتصادي (الذي يُضاف متمماً بالطبع لجهله العام من الثقافة العامة حتى لغة الضاد) تصَّوَرَ أو صُوِرَ له أن المكاسب التي سيجنيها الاقتصاد مع الانتعاش والتصدير كفيلةٌ بسد بعض الديون، ولا نعلم يقيناً هل المشكلة في أن المشيرين حوله لم يجرؤوا على إسماع «كينز» العصر ما لا يريد سماعه عن مغبة الاقتراض وتراكم الديون وفوائد التقشف والاستثمار في القطاعات المنتجة، إلخ؟ أم أنهم لسببٍ ما يريدون توريطه أم الاثنان معاً؟ النتيجة أننا وصلنا إلى دائرةٍ مفرغة من الاقتراض، ثم المزيد منه لسداد فوائد القروض السابقة، يصاحبها تنصلٌ شبه تام من كل الالتزامات الخدمية التي يكرسها الدستور إزاء المواطنين، وإذ تشتد الأزمة، لا يجد بداً من بيع حصة الدولة في الأصول والمصارف والشركات، وكلها رابحة. النتيجة باختصار هو تجريف مصر اقتصادياً وجعل مصيرها في يد السماسرة وإغراقها في رمال الديون المتحركة، بما يترتب على ذلك من أثرٍ في الاستقلال السياسي (أو بالأصح تلك المزقة المهلهلة المتبقية منه).
أما ردة الفعل على الصعيد الشعبي فهي المشهد المدهش حقاً، مزيجٌ من الغضب والإحباط والخوف من المقبل، من الشعور بالحصار وأنهم ضُحك عليهم، هم على يقين في قرارة أنفسهم أن الأسوأ مقبل لا محالة، هو في الطريق، ويعلمون من المتسبب، إذ يوماً بعد الآخر تتناقص أعداد تلك الفئة القابلة لتصديق ترهات السيسي والحكومة عن ثمار نهج الإصلاح المزعوم ذاك، ولم يعودوا يطيقون سماع الحديث السمج المكرر عن ضرورة الصبر، ومصر التي تحتاج إليهم، كما لو كانت أرملةً تجري عليهم فتستجدي وتتسول، لكن العنف والقمع غير المسبوقين يلجمانهم؛ فلا يجدون مفراً سوى التعبير عن ضيقهم ويأسهم بصيغٍ قد تكون مضحكةٍ، لكنها جد بائسة، حيث «شخصنوا» الدولار وصاروا يتعاملون معه كمتآمرٍ شرير، محمود المليجي أو زكي رستم في الأفلام القديمة، أو كزوج أمهم الشرير الظالم الذي أكل ميراثهم بالضبط! ولا أعلم تماماً ما الذي ذكّر الناس (على وسائل التواصل الاجتماعي على الأقل) باتفاقية «بريتون وودز» الشهيرة و»صدمة نيكسون» التي أنهت مبادلة الدولار بالذهب إلا في السوق المفتوحة! لقد كان البؤس والإفلاس بمعناه العام الأوسع مصاحباً لانقلاب السيسي وما أعقب ذلك: بؤس النظام وبؤس البورجوازية المصرية التاريخي، وبؤس الثقافة العامة والتصورات الدارجة عن الذات والعالم وبؤس الحاجة إلى تملق وترميم صورة الذات تلك، ووراء كل ذلك، شعورٌ عميق بالقهر والهزيمة بمعناها الأعم والأشمل، حتى لو لم يدرك الناس كنهه ومغزاه الآن. للأسف، في ظل التردي العام وسطوة الأمن الساحقة يبدو أن فصول هذه «التراجيكوميدي» ستستمر حتى النهاية ولن تنتهي إلا مصاحبةً بالكثير من العنف والدم.
كاتب مصري
لانه كما وصفت حضرتك عي في كل شئ من اللغة إلى الاقتصاد مرورا بالسياسة و لكنه يدعي انه طبيب و فيلسوف و عبقري في كل شئ و تلك خديعة الطبع اللئيم للطغاة الجهلة بالذات!
هناك طغاة اذكياء و لديهم مستوى عالي من الثقافة و المعرفة لكنهم طغاة في نهاية المطاف
هذا السيسي جمع “المجد” من اطرافه، الطغيان و الحماقة و الغباء جنبا الى جنب فكان هذا المخلوق التي ابتليت به مصر ايما ابتلاء!
بالتالي هل من المتوقع ان يضع مستشارين الا على شاكلته او حتى اسوء، لتكون النتيجة هي هذا الحضيض الذي انحدرت اليه البلاد و سقط فيه العباد!
و لك الله يا مصر