صندوق النقد يضغط على لبنان لالتقاط «الفرصة الأخيرة»: أزمة أعمق آتية بعد الانتخابات

رلى موفّق
حجم الخط
1

يضيقُ الخناق على اللبنانيين. ليس هناك من أحد يُقدِّم لهم إجابات حول ما ينتظرهم غداً أو بعد غد أو بعد سنة. هم متروكون لمصيرهم فريسة سلطة متهاوية، متناقضة، متنافرة، ومتواطئة تُمعن في إفقارهم وإذلالهم، تخوض أشرس معاركها اليوم للحفاظ على مواقعها وأحجامها على بُعد أسابيع من انتخابات نيابية، لا يُعوَّل عليها في إحداث تغيير منشود، فيما البلاد دخلت مراحل متقدمة من الانهيار الاقتصادي – المالي الشامل.
جُـلُّ ما يهمُّ القوى السياسية المتحكمة هو تقطيع الأسابيع الستة الفاصلة عن الاستحقاق في 15 أيار/مايو المقبل بما تيسَّر من مُسكنات، على حساب ما تبقّى من أموال المودعين بعدما أضحى الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في البنك المركزي يتمثل راهناً بالاحتياطي الإلزامي الذي يُلزم قانون النقد والتسليف المصارف بإيداعه، وما عاد يتجاوز اليوم 8 مليارات دولار، بعدما كان 32 ملياراً مع بدء الأزمة الاقتصادية – المالية عام 2019، وانخفض بفعل سياسة الدعم العشوائية إلى 12.5 مليار دولار في نهاية العام 2021 بحسب حاكم البنك المركزي رياض سلامة.
وتعيش البلاد منذ أسابيع على وقع اشتباك قضائي – مصرفي يطال سلامة وعدداً من المصارف على خلفية كباش سياسي يدور بين أركان المنظومة الحاكمة نفسها يدفع البلاد أكثر نحو الحضيض، من دون تبيان المسار الذي سيسلكه هذا الاشتباك، وسط مخاوف من خطوات تصعيدية قد تلجأ إليها المصارف في حال تواصلت الإجراءات القضائية غب الطلب السياسي المتهم بالوقوف ورائها فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بهدف تطويق سلامة بوصفه الواجهة المالية لخصوم العهد، الذي أراد سيده أن يكون «العهد القوي» فإذا به عهداً مشؤوماً على اللبنانيين، لم يشهدوا له مثيلاً، رغم ما عاشوا من ويلات الحروب. فاقم الصراع السياسي من حدة الأزمة الاقتصادية – المالية، وزادت عليها تداعيات تفجير مرفأ بيروت، وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا بتأثيره على الأمن الغذائي ليُلقي بثقله على البلاد.
فالبنك الدولي وصف في تقرير له في حزيران/يونيو 2021 الأزمة في لبنان بـ«الأكثر حدة وقساوة في العالم»، التي سُجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر، بعد أزمتي تشيلي عام 1926، التي استغرقت 16 عاماً للخروج من قعرها، وإسبانيا الناتجة عن الحرب الأهلية في العام 1931، محملاً كلاً من الطبقة السياسية ومصرف لبنان مسؤولية ما آلت إليه الأمور من تدهور في قيمة العملة الوطنية، وتآكل القدرة الشرائية، وارتفاع معدلات التضخم، بحيث أضحى 80 بالمئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، وفق تقديرات المؤسسة المالية الدولية.
وتكمن المعضلة في غياب أفق التوافق على سلوك درب الحلول الناجعة التي تُخرج لبنان من الإفلاس المحتوم. وهذا يحتاج إلى قرار سياسي لتبنّي «خريطة الطريق» المعلومة لدى أهل الحل والربط. ففي 11 شباط/فبراير الماضي، حدَّد صندوق النقد تلك الخريطة بإجراء إصلاحات مالية لضمان القدرة على تحمّل عبء الديون، وإعادة بناء القطاع المالي، وإصلاح المؤسسات العامة، ومكافحة الفساد بحزم. والأهم هو تأكيده المتكرر من أنه لن يُقدِّم دعماً مالياً من دون إصلاحات واتخاذ حزمة من الإجراءات.
بعثة الصندوق تخوض محادثات شاقة مع السلطات اللبنانية لـ«صوغ برنامج إصلاحي». وتتواجد في بيروت منذ 30 آذار/مارس في جولة جديدة. المتحدث باسم «الصندوق» جيري رايس قال إن المحادثات تتقدّم «بشكل جيّد»، وأبدى الرغبة في التوصل إلى اتفاق، وإنْ اعتبر أن «هناك حاجة لعمل مهم في الفترة المقبلة» كون «تحديات لبنان عميقة ومعقدة وتتطلب وقتاً والتزاماً».
وفق متابعين، فإن ما يطلبه الصندوق من المفاوضين اللبنانيين يكمن في أربعة عناوين حاكمة لتوقيع برنامج مساعدات مالية وهي: خطة التعافي الاقتصادي، وقانون «الكابيتال كونترول»، وموازنة عام 2022، وخطة الكهرباء. أربعة عناوين يلفها قدر من التعقيدات والحسابات الصغيرة والكبيرة. فخطة التعافي لا تزال عالقة عند نسب توزيع الخسائر المالية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية والدولة والمودعين، وما تحقق حتى الآن هو الاتفاق على تقدير الخسائر بـ69 مليار دولار. أما الموازنة المثقلة بالرسوم والضرائب، فهي تُناقش في لجنة المال النيابية، ومن الصعوبة بمكان على نواب الكتل السياسية الدفع نحو إقرار موازنة «لا شعبية» على أبواب انتخابات يترشحون إليها، ولا يُريدون استثارة ناخبيهم بقرارات مؤلمة قد تدفعهم إلى ردود فعل عقابية. فـ«الشعبوية» هي السمة التي تطبع تحركات القوى قاطبة من موالاة ومعارضة إلى منتصف أيار/مايو، حيث كل القراءات تبدو متشائمة لما ينتظر مرحلة ما بعد الاستحقاق الانتخابي.
وليس واقع خطة الكهرباء بأفضل، فما تمَّ الاتفاق عليه في مجلس الوزراء بـ«شق النفس» لا يعدو كونه خطوطاً عريضة مفخخة، في ظل الخلاف على تشكيل الهيئة الناظمة التي هي أحد المرتكزات الأساسية، رغم أن البلاد أضحت على مسافة عشرين يوماً من نفاد الفيول العراقي، فيما الغاز المصري وجرّ الكهرباء من الأردن عالقان في مكامن سياسية يُمسك بها اللاعبون الكبار نتيجة ربطها باتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل التي تُعطّل استفادة لبنان من ثروته النفطية، والذي – في أغلب الظن – سيطول في ظل الصراع المستعر على الطاقة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي ظل عدم تبلور نهايات الاتفاق الأمريكي – الإيراني حول النووي ومفاعليه.
أما «الكابيتال كونترول» فمن سخرية القدر أن يتحوَّل صندوق النقد إلى حامٍ فعلي لمصالح المودعين، ولا سيما الصغار منهم، في وقت تعمل السلطة على الإمعان في ضربهم بوصفهم الحلقة الأضعف عبر مشروع القانون الذي خرجت به الحكومة مؤخراً، وتنتظر من مجلس النواب أن يُقرّه. وعلى الرغم من القناعة السائدة بأنه لم يعد هناك من قيمة فعلية للقانون الذي تأخر سنتين جرى خلالها تحويل النافذين لأموالهم إلى الخارج، فإن الغاية منه هي «قوننة» العلاقة بين المصارف والمودعين لجهة ما تبقى من أموال. فالمشروع كما هو، لا يُشكّل في نظر خبراء اقتصاديين، محفزاً للاقتصاد، ويُحدّد مهلة تطبيق لسنتين قابلتين للتمديد، وسط شكوك بترافقه مع إصلاحات جدية، وإعادة هيكلة المصارف، بما يُعيد الثقة إلى القطاع المصرفي كإحدى الميزات التفاضلية للبنان، بعدما ضُربت الميزات الأخرى في قطاعات الطبابة، والاستشفاء، والتعليم، والخدمات. ويذهب أكثر من خبير قانوني إلى طرح تساؤلات حول مدى تعارض «الكابيتال كونترول» الذي سيفرض قيوداً على السحوبات المالية مع مبدأ الاقتصاد الحرّ الذي تنصُّ عليه مقدمة الدستور.
في الكواليس، يدور الحديث حول ضغوط يُمارسها صندوق النقد على السلطة بُغية التوصل إلى توقيع ورقة «إعلان النيّات» أو «اتفاق أوّلي لبرنامج التمويل». مردُّ الضغوط يعود إلى اعتبار «الصندوق» أن هذه هي الفرصة الأخيرة أمام لبنان لتفادي السقوط النهائي. في منطق الأمور، يُفترض أن تفرز الانتخابات النيابية أكثرية سياسية تتولى الحكم للمرحلة المقبلة، وتكون تالياً المسؤولة عن إدارة البلاد مع موعد جديد لاستحقاق الانتخابات الرئاسية قبل نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
لكن المخاوف لدى «الصندوق» من أن الانتخابات ستأتي بأكثرية تُعمِّق المأزق، خصوصاً مع توقعات أن يبقى «محور إيران» المتمثل بـ«حزب الله» ممسكاً بها، من دون أن يكون قادراً على إنتاج حكومة جديدة، ما يجعل حكومة ميقاتي – التي ستتحوَّل حكماً إلى حكومة تصريف أعمال – هي الحكومة القائمة التي لا يُمكنها كـ»حكومة تصريف أعمال» إكمال التفاوض مع «الصندوق» والمؤسسات الدولية، حتى إن الحديث يذهب إلى صعوبة إنجاز الاستحقاق الرئاسي، ما سيُدخل البلاد في شلل جديد قد يطول، ولن تقوى معه على مواجهة تداعياته.
فالصورة الراهنة تزداد سوداوية. ما يتوقف عنده بعض منظري المحور هو الحماسة التي يخوض بها أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الانتخابات، والتي يعتبرها مفصلية لجهة تجديد وكالة بيئته له ولشريكه رئيس حركة أمل نبيه بري، وتكريس الغطاء الشرعي لحزبه وموقعه في المعادلة الاستراتيجية عبر الحفاظ على الأكثرية النيابية ولو سقط لبنان كلياً وهوى نظامه الليبرالي وأضحى شبيهاً بالأنظمة الشمولية وجزءاً منها. فـ«الفرصة الأخيرة» التي يتحدث عنها «الصندوق» والمحصورة في المدى الزمني المتبقي عن موعد الانتخابات تبدو حظوظها قليلة إلا إذا حصلت تطورات إيجابية على ضفّة «فيينا» بحيث يمكن لاتفاق أمريكي – إيراني أن ينعكسَ على الداخل اللبناني «حلحلة ما» تُعيد مدَّه ببعض من الأوكسجين لإبقائه على قيد الحياة. ما دون ذلك، لا يُعوَّل على أي من المسكّنات لـ«لبنان الرهينة» و«الورقة» و«الساحة» في لحظة التحوّلات الكبرى في المنطقة، والصراع القائم لرسم معالم النظام العالمي الجديد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حكيم ألزمان:

    لاأتأمل خيرا من ألإنتخابات ألقادمة. فأكثرية ألفائزين سوف تكون من ألطينة نفسها, وخاصة نواب أمل ونواب حزب الله ونواب عون-باسيل. لبنان يحتاج إلى معجزات وليس معجزة واحدة ليخرج من ألجب ألذي هو فيه.

إشترك في قائمتنا البريدية