أيًّا كان الفائز في نهاية الانتخابات الرئاسية الحالية في فرنسا، وعلى الأغلب سيكون الرئيس إيمانويل ماكرون، هناك حقيقة من الصعب القفز عليها: مأزق فرنسا. وهو مأزق كل مجتمعها السياسي وعلى رأسه ماكرون. من أجل موضوعية أكثر يجب القول إن فرنسا ليست وحدها في مأزق، بل كل الديمقراطيات الغربية ومجتمعاتها. وحتى لا يفرح «معسكرنا»، الموضوعية تتطلب مرة أخرى القول إننا في الشرق لسنا أفضل حالا منهم، بل أسوأ بكثير جدا.
التغييرات الاستراتيجية الدولية والأزمات السياسية والاقتصادية المتكررة وبروز قوى ناهضة في آسيا وأمريكا اللاتينية، مثل الصين واليابان والبرازيل والهند وروسيا وتركيا، عوامل كانت على حساب القوى التقليدية الغربية ومنها فرنسا.
تراجعُ الاتحاد الأوروبي لأسباب تنظيمية داخلية وخروج بريطانيا، تدفع ثمنه وتتحمل تبعاته بالدرجة الأولى القوى الرئيسية في الاتحاد وبالخصوص فرنسا وألمانيا. الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل الهوية واللجوء والأجانب في المجتمعات الغربية أدت إلى تنامي تيارات اليمين الشعبوي ودخول ممثليه البرلمانات وحتى الحكومات محليا وإقليميا.
لهذا السبب غاب كل شيء في طريق التمهيد للانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية إلا اليمين واليمين الشعبوي المتطرف. هيمن الأخير، منذ البداية، على النقاش وسيطر على الأفكار.
أدرك ماكرون منذ البداية خطر هذه المعطيات، وخصوصا زحف اليمين الشعبوي، على حظوظه الانتخابية، فبدأ يحاول اللحاق به من خلال تبنّي خطاب انتخابي مشابه له حتى وإن حاول الحفاظ على صورة مختلفة.
والمحصلة أن الانتخابات الحالية تجري بين يمين تقليدي أصلا متشدد، وآخر شعبوي أكثر تشددا، فكانت الحملات الانتخابية، حتى قبل أن تبدأ رسميا، أشبه بسوق مزايدة. لم تشهد أيّ انتخابات رئاسية في الثلاثين سنة الأخيرة ذوبانا للحدود (الهشَّة أصلا) بين اليمين التقليدي واليمين الشعبوي مثلما شهدت انتخابات 2022. ولم يكن اليمين الفرنسي المتطرف في أي انتخابات سابقة بالقوة التي هو عليها اليوم. ولا تحفظ خزانة الانتخابات الرئاسية في العقود الماضية رئيسا جنح إلى أقصى اليمين مثلما فعل ماكرون.
انتهيت للتو من قراءة كتاب «اللغز الجزائري» للسفير الفرنسي السابق في الجزائر ازافييه دريانكور، وكتاب «التراجع الفرنسي» للصحافيَين الفرنسيَين كريستيان تشينو وجورج مالبرونو. الكتابان حديثا الصدور خرجا للأسواق الشهر الماضي، وقد يكون لهما تأثير ولو طفيف (لن يكون بالضرورة سلبيا) في توجه الناخبين الفرنسيين، كونهما يتطرقان كثيرا للرئيس ماكرون.
يتفق الكتابان على أن ماكرون يتمتع بمستوى ذكاء خارق، وبأنه صاحب جرأة نادرة وشجاعة لافتة في مواجهة المواقف التي تُفرَض عليه وقول الكلمة التي يشعر بضرورة قولها أيًّا كان مَن يقف قبالته. تبرز صرامة شخصية ماكرون في مواقف عدّة، وتتكرر في الكتابين، خلال تعامله مع محيطه ومع ضيوفه ومضيفيه حيثما استقبلهم أو استقبلوه. لكن واقع فرنسا حتَّم على الرئيس الشاب توظيف ذكائه الاستثنائي وجرأته الخارقة ليس في التطلع إلى المستقبل وبناء أشياء جديدة تضاف إلى الموجود، بل في ترميم واقع مكسور هو عبارة عن حقل ألغام.
ورث ماكرون فرنسا مقسَّمة اجتماعيا واقتصاديا، وغارقة في نقاشات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة وعقيمة. الكثير من هذه النقاشات تديرها معسكرات متناقضة تحركها أحكام عقائدية صارمة، جاهزة ومكرورة حتى يبدو مضمون النقاش الانتخابي في 2022 نسخة منه في 2017 لولا تفاصيل صغيرة يمليها السياق والظروف.
هناك، في المقابل، نصيب من المسؤولية يقع على ماكرون، لأنه، وفق بعض منتقديه، لم يوظف الذكاء الحاد الذي يتمتع به كما يجب. فلا غرابة أن أنهى ولايته الرئاسية الأولى متراجعا وبإبهار منعدم مقارنة بـ2017.
بدل أن ينتشل المجتمع السياسي والإعلامي في فرنسا من غرقه في تلك النقاشات، اختار ماكرون الغرق معه عبر اللجوء للحلول السهلة والصادمة في الوقت ذاته: تبنّي خطاب اليمين الشعبوي بكل ما فيه من قسوة وظلم ولامنطق أحيانا، وزايد عليه في بعض الأحيان. تبنّي ماكرون خطاب اليمين الشعبوي كان انتقائيا يقتصر على الأجانب والمسلمين ولا يمتد إلى رفض العولمة والاتحاد الأوروبي والتعاطف مع روسيا مثلا.
بالتحاقه بهذا اليمين وتبنّيه خطابه، زاد ماكرون فرنسا انقساما وسيكون عليه، بعد أن تنتهي الانتخابات ويُعلَن فائزا، البدء بإطفاء الجمر الذي نفخ فيه طيلة الشهور الماضية بدوافع سياسية وانتخابية انتهازية. إذا لم يطفئ النيران التي شارك في إشعالها، سيتحتم عليه التعايش معها وتحمّل تبعاتها من دون شكوى أو استياء.
يتفق دريانكور ومالبرونو وتشينو على أن السياسة الخارجية الفرنسية تواجه ارتباكا وصعوبات متعدّدة أملتها التغييرات الأوروبية والدولية، من نتائجها أن فقدت فرنسا تأثيرها حتى في المسارح التي كانت تُعتبر حديقتها المفضَّلة.
وقد أخفق ماكرون، مثل فرانسوا هولاند وقبلهما نيكولا ساركوزي، في الحفاظ على المكانة التي كانت لفرنسا قبل عقود. في لبنان ألقى بكل ثقله لكنه لم يمنع وصول البلد إلى طريق مسدود. في الجزائر وشمال إفريقيا لعب العديد من الأوراق ولم يحقق ما كان يريد. في مالي ودول الساحل وضع فرنسا اليوم ليس أفضل مما كان عليه في بداية رئاسة ماكرون في 2017 رغم الجهد الذي كرّسه الأخير للمنطقة. العلاقات مع الولايات المتحدة تعرّضت لصدمات بسبب ترامب لم تتعافَ منها كليا بعد رحيله. حماس ماكرون وجرأته في قيادة الدور الأوروبي في الأزمة الأوكرانية، مع الاحتفاظ بخطوط اتصال مع موسكو، لم تمنح أوروبا وفرنسا أي أفضلية وما كانت لتؤثر على موسكو لولا الثقل الأمريكي.
في علم السياسة كثيرا ما يُفسَّر تراجع دور الدول والحكومات دوليا بآخر داخلي يقابله. ليس من الخطأ إسقاط هذه القراءة على فرنسا اليوم.
كاتب صحافي جزائري
ماكرون رجل من اليمين منذ البداية…و ادخله اولاند في حكومته الاشتراكية لتكون منصة إطلاق لما حدث بعد ذلك.. فرنسا تعيش أزمة هوية منذ رحيل الجنرال ديغول و للتغطية على التراجع و الأزمات الاقتصادية..تستعمل ورقة المهاجرين و الاسلام لامتصاص غضب الشعب الفرنسي ..أمام فرنسا ايام عصيبة…و فوز ماكرون هو نتيجة ضعف وانقسام اليسار و ليس لقوة اليمين أو اليمين المتطرف…منذ فوز متبران في إتلاف اليسار 1981.لم يعرف هذا التيار الا انكسار وراء اخر.. تحياتي إلى الكاتب و حبذا مقال عن تسريبات السفير السابق عن الجزائر و حكامها الشعان…. تحياتي سامي.