في مقال الأسبوع الماضي توصلنا إلى أن هناك محاولات مكثفة لتكوين شخصية شابة عربية خليجية، لا تهتم بالسياسة، فكراً والتزاماً بمسؤوليات وطنية وقومية واجبة ونضالاً من أجل تحقق تلك الالتزامات، وتكتفي بأن تكون جزءاً كفؤاً مطيعاً من ماكنة الإنتاج الاقتصادي. وبالطبع ذلك يصدق على كل الوطن العربي من دون استثناء.
لنطرح السؤال التالي: لماذا التركيز على تشويه وتدمير الجانب السياسي في تلك الشخصية؟ لأن علم السياسة هو، كما يقال، معني بكل مكونات الدولة وتنظيمها وقيمها، وكل تفاصيل الحياة اليومية فيها، أي أنه علم الدولة.
هذا الاتساع في الاهتمامات سيجعله علماً مرتبطاً أشد الارتباط بالثقافة العميقة الملتزمة التي تتداخل، أسئلة وإجابات، بعلوم التاريخ والاقتصاد والاجتماع والقانون والنفس، وحتى إلى حدود عوالم العلوم الطبيعية. من هنا كانت علاقة السياسة بالثقافة علاقة تبادلية، ولتصبح الثقافة شرطاً من شروط التكون السياسي الناضج المتزن العقلاني. من هنا أيضاً ذلك الاهتمام بالسياسة من قبل كبار مفكري وفلاسفة وفقهاء العالم القدامى من أمثال كونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو ونبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) والفارابي وابن رشد وابن خلدون والألوف من غيرهم عبر التاريخ وعبر الأزمنة الحاضرة. ذلك المشهد للسياسة، علماً ووعياً وممارسة والتزاماً أخلاقياً وتحكيماً لضمير يقظ بالغ الحساسية، هو الذي يخيف الجهات التي تسعى لتشويه شخصية الإنسان العربي في الوطن العربي كله. تلك الجهات لا يهمها أن تكون السياسة هواية عابرة، تنشط أحياناً لتغفو أحياناً أخر، مرتبطة بمطلب معيشي متغير محدود يقود إلى فورة مؤقتة. ما يخيفها هي الثوابت الكبرى في الفكر والمنهجية والنضال الطويل الأمد، وعلى الأخص الجانب التنظيمي المصر على نقل المجتمعات إلى حالات متقدمة من ممارسة الديمقراطية العادلة الحقيقية، غير المظهرية، في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع، وليس فقط في الأمور السياسية التنظيمية، مثل الانتخابات الدورية والمجالس. الخوف هو من الفكر النير القلق المتسائل الإبداعي، المرتبط بالعلم والثقافة العميقة والحساسية المفرطة لفضيلة العدالة، عدالة الحق والقسط والميزان في وجه الظلم والطغيان.
لم يبعد الشباب عن ممارسة علم السياسة في أي مكان إلا وكانت النتيجة وبالاً على المجتمع الذي يصبح أسيراً للانتهازية والزبونية وكل أنواع المظالم والفساد
لا نحتاج إلى التذكير بالأخطار التي تحيق بأمة العرب، من المحيط إلى الخليج وبدون استثناء على الإطلاق. الخروج من ذلك لن تكفيه جهود الحكومات مهما بلغت من الكفاءة والشفافية ونظافة اليد، هذه المهمة تحتاج إلى جهود المجتمعات أيضاً، وعلى الأخص شاباتها وشبابها. من هنا أفضل للحكومات، بدلاً من إبعادهم عن السياسة، أو إغرائهم بممارسة أنشطة سياسية انتهازية مبتذلة، أن تعينهم على ممارسة نشاطات سياسية سلمية ديمقراطية متزنة، بفتح الباب على مصراعيه، وضمن قوانين عادلة، لقيام شتى أشكال المؤسسات السياسية، من أحزاب وجمعيات ونقابات ونواد وروابط مستقلة وديمقراطية. وهي قادرة على أن تبدأ بجعل الانتقال إلى ذلك من خلال تعليم ثقافة سياسية عقلانية لكل الطلاب، لإنتاج مواطن مسؤول، ومن خلال تدريب على ممارسة تلك الثقافة في المدرسة والجامعة. لم يبعد الشباب والشابات عن تعلم وممارسة علم السياسة في أي مكان إلا وكانت النتيجة وبالاً على المجتمع الذي يصبح أسيراً للانتهازية والزبونية وكل أنواع المظالم والفساد.
كاتب بحريني