مفاعيل أداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة تثبت أنه لا توجد دولة في العالم تنافس أمريكا في تهديدها للسلام الدولي. ويتواصل إلى الآن داخل أمريكا ذلك التباعد بين الاقتصاد السياسي للسوق الحرة والاقتصاد الأخلاقي للحضارة البورجوازية. ولم يعد منطق التساوي الديمقراطي، صالحا لوصف بلد زاخر بالنزاعات الطبقية، والحركات الأصولية والحروب العرقية، التي لم تصل بعد إلى حد الانفجار في الداخل الأمريكي. ولا يهم واشنطن أن تستنزف أوروبا في معركة تخرج منها بحصيلة اقتصادية من شأنها التقليل من مشاكلها الداخلية، قبل استحقاقات المنافسة العالمية، خاصة أنها ليست اليوم مجتمع الفرص المتزايدة الذي جسدته سياسة النيوديل لفترة ما بعد الحرب العالمية التي استفادت منها استفادة عظيمة.
الهدف الرئيسي للدول هو ضمان بقائها، بمعنى تأمين الوحدة الترابية والاستقلال الوطني. وهو ما يحرك مصالح الدول في الساحة العالمية، ومن ثم فإن مسائل حقوق الإنسان، أو تحقيق الازدهار تبقى ثانوية مقارنة بهدف ضمان البقاء الذي يعد قضية وجودية للدول. وهدف الولايات المتحدة وبريطانيا يتمثل أساسا في الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق المنتجة للنفط، وليس الدفاع عنها.
أما التزام من تقود قاطرة » العالم الحر الليبرالي « كما يريد أن يسمي نفسه، وهي أمريكا، فإن التزامها وحلفاءها بحقوق الإنسان لا يتعدى كونه أسطوريا كاذبا. فهذه الحقوق تتحدد على أساس الإسهامات في حفظ النظام. وللحكومات العربية حقوق في نظر الإدارة الأمريكية التي تقدم لبعضهم نوعا من الحماية الأدبية، لأن هذه الحكومات ببساطة تسيطر على الشعوب، وتخنقها، وتضمن في الآن ذاته تدفق الثروة إلى الغرب. ولبريطانيا حقوق» ما دامت تلعب دور الكلب التابع الوفي للولايات المتحدة «بتوصيف دقيق لتشومسكي. ومن المفارقة فعلا أن الولايات المتحدة في إدارتها، وسيطرتها على منطقة الشرق الأوسط، تنتهج الهيكل الأساسي للنظام البريطاني حين كانت الأخيرة، الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تدير »المستعمرات وتمتصها «بإسناد الإدارة المحلية إلى واجهات عربية تأخذ الشكل الخارجي للسيادة. وواشنطن تستميت في المحافظة على النهج التقليدي نفسه للقوى الاستعمارية عبر التاريخ. ومن الطبيعي أن يحدث ارتباك استراتيجي في العواصم الغربية وفي واشنطن، وأن يجن جنون أمريكا وبريطانيا تحديدا من محاولات بوتين تغيير النظام العالمي، وزعزعة مرتكزاته التي وضعها الغرب الليبرالي. والخطر الأكبر أن لا يجدوا آذانا صاغية لدى حلفائهم المعهودين في الشرق الأوسط، خاصة الدول المنتجة للثروة الطاقية. فهم اعتادوا على الولاء وتنفيذ الأوامر، انطلاقا من أن الواجهة التي يُعتمد عليها يجب أن تكون ضعيفة على الدوام في استراتيجيتهم للتعامل مع المنطقة. والعائلات الديكتاتورية تُعتبر النموذج المفضل والمحبب لديهم. وترامب صرح علنا بأنه معجب بالديكتاتوريين، وهو يفصح عن سياسة وليس عن خاطرة شخصية. وبغض النظر عن سلوكياتها الوحشية وغير الآدمية، مثل الاغتيالات أو إعدام المعارضين بطريقة فظيعة، إلا أنها تحظى باحترام ودعم سياسي وأدبي، ما دامت مثل هذه الحكومات المحببة لدى الغرب تخدم مصالحه، وتحافظ على توجيه تدفق الأرباح إلى الولايات المتحدة وإلى شريكها البريطاني.
البلدان التـي تسعى لتطبيق سياسات خارجية ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، قد انتهى بها الأمر إلى جعل العالم أقل سلما
وفي النهاية، السلوك المولع بالحروب هدد قيمهم الليبرالية، حتـى إذا كانت الدول الليبرالية قادرة على تحقيق أهدافها، أو ما تسميه نشر الديمقراطية بعيدا، وعلى نطاق واسع، كما صاحوا بذلك قبل غزو العراق، أو كما لا ينفكون يكررون مقولات تعزيز التعاملات الاقتصادية، وبناء المؤسسات الدولية. بالمحصلة لم ينتج عن هذه الأهداف أي سلام. والهيمنة الليبرالية لن تحقق أهدافها، كما قدّر أستاذ العلاقات الدولية جون ميرشايمر، وأحلامها مستحيلة فعلا. فالليبرالية على المستوى الدولي، لها شأن آخر. والبلدان التـي تسعى لتطبيق سياسات خارجية ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، قد انتهى بها الأمر إلى جعل العالم أقل سلما. والأخطر من هذا أنها تخاطر بتقويض الليبرالية في الداخل، وسيأتي إخفاقها الحتمي بتكاليف ضخمة. وما يحدث في الداخل الأمريكي منذ غزوة الكابيتول تفصيل بسيط عن مشاكل بنيوية داخل المجتمع والدولة. وبالفعل، مجريات الأحداث في العقود الأخيرة، على الأقل منذ أن بدأ منظرو الليبرالية يصيحون صيحاتهم البلهاء، تثبت أنه غالبا ما ينتهي الحال بالدول الليبرالية بأن تخوض حروبا لا نهاية لها. وهي مستمرة في ذلك، ولا تأبه للثمن والكلفة الباهظة على جميع المستويات. وهذا الجنون هو ما يزيد، بدلاً من أن يقلص، مستوى الصراع في السياسة الدولية، ويعظم من أزمات الانتشار النووي والإرهاب الدولي، بشكل يجعل الليبرالية ودعاتها يهدمون ذواتهم بأنفسهم. ويؤدون في الخارج نقيض ما يدعونه في الداخل. ولا يعنيهم أن يظل العالم بأسره على صفيح ملتهب، لا يعلم مصيره، ولا إلى أين سيمضي غدا.
القصة التي أوردها تشومسكي في كتابه » قراصنة وأباطرة « من أن قرصانا وقع في أسر الإسكندر الكبير الذي سأله كيف تجرؤ على إزعاج البحر؟ كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره؟ فأجاب القرصان: لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فأدعى لصا، وأنت الذي يفعل ذلك بأسطول ضخم فتدعى امبراطوراً. هذه هي قصة أمريكا والعالم، وليس أمريكا والعراق فقط في مرحلة من المراحل والمؤلف أراد للقارئ أن يلتقط بدقة العلاقة بين الولايات المتحدة ومختلف اللاعبين الصغار على مسرح» الإرهاب الدولي «انطلاقا من جواب القرصان على الإمبراطور الذي كان جوابا أنيقاً ومكتنزا هو الآخر. فعبر تدخلاتها الخارجية في البلدان ذات السيادة قدمت الولايات المتحدة عروضا واضحة وجلية للمبادئ الفاشية، مع التأكيد في الوقت ذاته على صحة مبادئها الأخلاقية كسلوك تقليدي للثقافة الفكرية للدولة الأمريكية. وهي من أكثر الدول التي نقضت قرارات مجلس الأمن إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا، منذ أن وقعت الأمم المتحدة بأجهزتها كافة تقريبا في قبضة واشنطن. ومثل هذا الانحراف في العلاقات الدولية يجعل اسرائيل باعتبارها أداة للقوة الأمريكية تحظى بحصانة عدم النقد أو المراجعة. ويمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تشن حملات اعتقال ضد شعوب تعتبرها «رهينة « لملاحظات على أداء حكوماتها، وعدم تطابق سياستها مع مصالح السياسة الأمريكية. والإطاحة بعمران خان الذي رفض الوقوف إلى جانب أمريكا في حربها بالوكالة ضد روسيا، هي حلقة أخرى تظهر من جديد ذاك التزاوج بين حقيقة الأهداف والمصالح، والمبادئ التي توضع على غلاف الموضوع وتصنع قناعه. والانقلابات الناعمة، والثورات الملونة التي تديرها المخابرات الأمريكية في أكثر من بلد على امتداد عقود، تنطلق من عقيدتها الراسخة بأن القومية التحررية بجميع أشكالها غير مقبولة أمريكيا، أيا كان لونها السياسي أو الأيديولوجي.
ما يحدث من ارتباك اقتصادي عالمي ضمن سياسة العقوبات التي تضر الجميع، يزيد في تغييب أي توافق مستقبلي حول إحلال نظام موجه للاقتصاد العالمي يحل محل السوق الحرة المنفلتة، التي تنفخ في كل مرة روحا جديدة في توافق واشنطن. وتعيش اليوم أكبر أزماتها التي راكمتها الجائحة العالمية، ومن ثم المواجهة بين روسيا الاتحادية والتكتل الغربي الليبرالي. ويبدو أنه لم يعد في وسع نُظم الهيمنة أن تعمر طويلا، والعقل مع التفاؤل بالبديل، وضد التشاؤم منه لغياب اليقين بتحققه.
كاتب تونسي
الجواب بسيط جدا الذي يهدد السلام العالمي هما أمريكا وإسرائيل بلا نقاش
اللهم انصر اخواننا في فلسطين واكسر اللهم شوكة المحتل اللعين إسرائيل كسرا لا جبر بعده أبدا قولوا آمين يارب العالمين
تماما هذا صحيح ميساء. شكرا على التفاعل دام حضورك
من زرع الريح يحصد عاصفته، لكل بداية نهاية ،ومن يدعي القوة يموت بضعف.
صحيح. شكرا على التفاعل
مشكلة اغلب المعارضين لامريكا انهم يستميتون للحصول على الاقامة فيها.. كل خدام الديكتاتوريات اذا انها الديكتاتور عملهم عنده او طردهم بسبب عدم أداء واجبهم يهربون الى امريكا بعد ان كانوا ليلا نهارا يشتمونها ..
مشكلة العالم هي النفاق.
في ما تقول الكثير من وجوه الحقيقة. شكرا صليبا على التفاعل. دام حضورك
وهل هناك من يهدد السلام العالمي غير العم سام والكلب المجرور ، التابع الوفي له في “أسوأ جريمة في هذا القرن” ؟ . أمريكا أسست على الإجرام ، في حق السكان الأصليين (“الهنود الحمر”) ، في حق بعضهم بعضا بالمبارزة المميتة (duel) والحرب الأهلية ، والتمييز العنصري في حق من ينحدرون من إفريقيا ، في حق سكان هيروشيما وناغازاكي ، في حق الأفغان والعراقيين واليمنيين … ، وهم ما يزالون إلى اليوم يحتفظون بإرثهم “الثقافي” .
الرئيس الأمريكي السابق لم يصرح علنا بإعجابه فقط بالديكتاتوريين المفضلين ، إن كانوا من المطبعين الأوائل ، كما منح أرضا لا يملكها ، في الصحراء الغربية ، خدمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني الإرهابي العنصري المغتصب ، وفي القدس والجولان دعما له ، وكان همه الآخر “ادفع” البيترودولار لخدمة “أمريكا أولا” وليس لصاحب المال .
أمريكا مستعدة لتدمير ليس فقط جزء كبير من العالم ، وإنما حتى “حليفتها” ، المزعومة ، أوروبا ، إن تطلب الأمر ذلك ، والحرب في أوكرانيا خير دليل ، من أجل الاستمرار في “الزعامة” والهيمنة ، للمحافظة على مصالح المجمع الصناعي عسكري … .
صحيح أستاذ صالح ماذكرته ثابت تاريخيا ووثائقيا وهي جرائم لا تنسى بالتقادم والمشاكل البنيوية داخل المجتمع الأمريكي موجودة فعلا وتتفاقم. شكرا على الاحاطة التاريخية والاضافة النوعية . دام حضورك
شكرًا أخي لطفي العبيدي. بالطبع تستطيع أن ننتقد ونرفض السياسة الأمريكية ولانستطيع أن نقبل بهذه الإزدواجية الأخلاقية كما تطهر في أوسع أشكالها في دعم إسرائيل اللامحدود. لكن هل حرب بوتين على أوكرانيا هي الرد المناسب؟ ولاننسى أن بواين مجرد دكتاتور قمعي وحشي يسعى لبناء إمبراطورية إمبريالية روسية فهو بالأساس لايستطيع تقديم الرد المناسب على السياسة الإمبريالية الأمريكية. أما أنظمة القمع والإستبداد العربية فهي أقل من نكرة وجرائمها من أبشع الجرائم التي أرتكبت على مدى التاريخ كما فعل بشارون أسدوف وبدعم من إيران وروسيا!، إنها لاتستحق إلا مزيلة التاريخ.
صحيح أخي أسامة. هي مصالح استراتيجية وتقاسم للنفوذ العالمي في وجه من وجوهها على حساب الشعوب. الحكام العرب بيادق فعلا وهم كما ذكرت واجهات كاذبة لا إرادة لهم ولا قرار سياسي ولا حضور على مستوى أممي.
دام حضورك الرشيق
على أرض الواقع، أنا من أنصار لغة الدولة، ولست من أنصار لغة الفوضى، وكذلك لست من أنصار النظام البيروقراطي بإسم الديكتاتورية أو الديمقراطية خصوصاً لو كانت الحجة قول عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، أو قول علي بن أبي طالب بخصوص أن (النص القرآني حمّال أوجه)، فهذا لا يعني ليس هناك حلال أو حرام أو قانون لتنظيم العلاقة داخل الأسرة أو الشركة أو الدولة،
لأن من وجهة نظري أساس المشكلة، لها علاقة بمفهوم معنى (اللغة) أولاً، ومعنى (الترجمة بين اللغات) ثانياً، وبسبب سوق العولمة، دخل مفهوم أهمية التمييز بين النقل الحرفي وبين توطين/تعريب أي مصطلح، من مصطلحات دولة الحداثة،
بداية من مصطلح Subject في نظام البيروقراطية/الديمقراطية/الديكتاتورية، إلى برغي في آلة (الروبوت) بلا ضمير أو مشاعر أو إنسانية، في أي دولة، بلا استثناء أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله،
ثم الطامة عدم احترام أي ثقافة ليست (أوروبية) أي العمل على إلغاء أي ثقافة محلية، بداية من أهل (فلسطين) أو (أستراليا) أو (أميركا) الشمالية أو الجنوبية أو (أفريقيا)، بالذات في موضوع العملة للتعامل في أي (تجارة) داخلياً أو خارجياً،
الذي استغل اعترافات الرئيس الفرنسي (شيراك)، حتى لا يُشكّك أحد، في ظلم أهل الإتحاد الأوروبي، والجرائم التي تم اقترافها بعد عام 1945، عند بداية تسويق مفهوم (سوق العولمة)، من أجل رفع مستوى الرفاهية والسعادة حول العالم، بدل مهازل الحرب العالمية الأولى والثانية،
شكرا على الاضافات المميزة والثرية أستاذ عبد الله. دام حضورك