لوبين والنظام السوري: مَنْ كان منهم بلا خطيئة؟

حجم الخط
5

صحيفة “ليبيراسيون” الفرنسية، وليدة حركة 1968 والتي كان جان – بول سارتر ثاني مؤسسيها صحبة سيرج جولي سنة 1973، والتقدمية اليسارية بصفة إجمالية؛ نشرت قبل أيام غلافاً تركيبياً يحمل صورة مارين لوبين مرشحة أقصى اليمين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، تحيط لها صور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس النظام السوري بشار الأسد والرئيس الهنغاري فكتور أوربان، وسار العنوان هكذا: “العالم حسب مارين لوبين”. وفي حدود ما أُتيح لهذه السطور أن ترصد، كان ذلك الغلاف بمثابة الإعلان الأوضح في أية وسيلة إعلامية فرنسية بصدد العلاقات، الوطيدة القديمة المتجددة؛ بين اليمين الفرنسي المعتدل أو المتشدد من جهة، والنظام السوري من جهة ثانية.
قبل “ليبيراسيون” كان موقع “ميديابارت” الإخباري المستقلّ قد نشر تقريراً مفصلاً عن منظمة “أنقذوا مسيحيي الشرق” الفرنسية، التي تقدّم أشكال دعم مختلفة إلى ميليشيات موالية للنظام وتعلن هوية دينية مسيحية في مدن وبلدات مثل محردة والسقيلبية؛ وسبق لمنظمات حقوقية محلية وعالمية أن وثّقت ارتكاب تلك الميليشيات جرائم حرب موصوفة وأعمال سلب ونهب و”تعفيش” وتهجير في ريف محافظة حماة على نحو خاص. التقرير شدّد، من جانب آخر، على أنّ وزارة الدفاع الفرنسية منحت المنظمة صفة “مؤسسة شريكة في الدفاع الوطني” منذ شباط (فبراير) 2017؛ وأنّ ممثليها يتمتعون، استطراداً، بصلاحيات اعتبارية فعالة حتى إذا كانت غير رسمية أو غير مباشرة.
ومؤخراً، خلال مؤتمر صحافي عرضت فيه الخطوط العريضة للسياسة الخارجية في حال انتخابها رئيسة للجمهورية، أعلنت لوبين أنها أسفت لقطع فرنسا العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، وهذا “أعمانا في ميدان مكافحة الإرهاب الإسلامي، وربما في لحظة كانت الأخطر التي تمرّ بها البلاد”. تيري مارياني، مستشارها الإقليمي والعضو في البرلمان الأوروبي، زار النظام السوري 6 مرّات بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا ربيع 2011؛ ورافقه رهط من رجالات حزب لوبين، ولم يكن عجيباً أن يكون في عدادهم نيكولا باي الذي لن يطول الوقت حتى تصدّر موقعاً قيادياً في حزب “الاسترداد” اليميني العنصري المتطرف الذي أسسه إريك زيمور مؤخراً.

تفاصيل كثيرة تحضّ على استعادة القول المأثور الشهير: مَن كان منهم بلا خطيئة، في صفوف اليمين الجمهوري مثل اليمين المتطرف والعنصري، فليرجمْ لوبين وحزبها بأوّل حجر

وخلال المناظرة التقليدية التي تسبق الانتخابات عادة، والتي جمعت لوبين مع الرئيس الفرنسي المرشح إمانويل ماكرون، كان الأخير هو الوحيد الذي نطق بمفردة “سوريا” مرّة واحدة على مدار 170 دقيقة؛ وليس بصدد جرائم حرب النظام كما قد يتبادر إلى الذهن، بل في ملفّ انتقاد مواقف لوبين المتعاطفة مع بوتين وما ترتكبه جيوشه في أكثر من مكان. وهذا محض تفصيل أوّل بين تفاصيل شتى كثيرة (موقف اليساري الراديكالي جان – لوك ميلنشون المصادق على الدور الروسي في سوريا، مثلاً، ولهذا مقام آخر بالطبع)، تحضّ على استعادة القول المأثور الشهير: مَن كان منهم بلا خطيئة، في صفوف اليمين الجمهوري مثل اليمين المتطرف والعنصري، فليرجمْ لوبين وحزبها بأوّل حجر!
وهكذا، كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، المنتمي إلى الديغولية، هو “الرائد” على نطاق الاتحاد الأوروبي في تدشين سياسة حوار مع النظام السوري صيف سنة 2008، من خلال مشروع “الاتحاد المتوسطي”، الذي وُلد ميتاً في الأصل، ولم يكترث أحد حتى بدفنه! آنذاك برّر ساركوزي دعوة الأسد (وكان عندئذ، مثلما كان في البدء ويظلّ حتى ساعة سقوطه، دكتاتوراً ابن دكتاتور)، بالقول إنّ سوريا بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. ذاك كان منطقاً صورياً سليماً تماماً، وبموجب اعتباراته الشكلانية كان استبعاد سوريا من هذه القمة هو الذي سيشكّل القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي كان سيعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الاحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، ما دام الحابل اختلط يومها بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي… “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط؟
لهذا فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي، يومئذ، ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها العفو الدولية، وميدل إيست واتش، والاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو – متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب…)؛ ظلّ حبراً على ورق بصدد مطلب الفقرة الأولى: “تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم” مع الأسد. وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر (حامل كيس الرزّ بوصفه أيقونة الغوث الدولي، وصاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و”غير المبتهج شخصياً” بزيارة الأسد إلى باريس) تكفّل بهذا الأمر، كما قيل؛ ودسّ في جيب وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!
لكنّ ساركوزي لم يكن أوّل رئيس فرنسي يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا؛ أم في عقودها الوسطى؛ إذْ كانت أوّل زيارة يقوم بها حافظ الأسد قد تمّت في عهد فاليري جيسكار – ديستان، سنة 1976، بعد أشهر قليلة على دخول قوّات النظام السوري إلى لبنان. هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في تلك الأحقاب بمثابة تمرينات مبكّرة، واستطلاعية، على ما ستسميه التنظيرات الديغولية “السياسة العربية لفرنسا”. الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، الديغولي بدوره، أعلن مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني لأنّ الأسد سوف يكون على المنصّة، بدعوة من ساركوزي؛ متناسياً أنه، هو نفسه شيراك الأمس القريب: الذي دعا الأسد الابن (ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة “الجمعية المعلوماتية السورية”!) إلى قصر الإليزيه، بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري… قتيل النظام السوري، وهنا وجه آخر للمفارقة.
ماكرون، الرئيس الحالي، لا يختلف عن أسلافه أهل اليمين بخصوص الموقف من النظام السوري، إلا بمقدار اختلاف يمين ليبرالي وسطي اعتاد الإمساك بالعصا من المنتصف؛ من دون حاجة حتى إلى التلويح بها، أو جعلها تهشّ على شيء أو على أحد. خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 2017، ثمّ بعد أيام قليلة أعقبت انتخابه، سارت أقوال ماكرون هكذا: “خطوطي واضحة. محاربة مطلقة لكل المجموعات الإرهابية، إنهم هم أعداؤنا، هذا أوّلاً. نحن بحاجة لتعاون الجميع من أجل استئصالهم، وخصوصا تعاون روسيا”؛ ثمّ: “لم أقل إنّ إزاحة الأسد تشكل شرطا مسبقا لكل شيء”، وذلك لأنّ “الأسد عدوّ للشعب السوري ولكن ليس عدواً لفرنسا”. وكان في وسع لوبين، خلال المناظرة الأخيرة، أن تذكّره بأنّ مواقفه هذه كانت أقرب إلى المصادقة على خيارات بوتين والتدخل العسكري الروسي في سوريا لصالح النظام.
إريك شوفالييه، آخر سفير فرنسي في دمشق والمندوب الفرنسي السامي لدى تابعيات “المعارضة” السورية في إسطنبول لاحقاً والسفير في العراق حالياً، قد يكون حامل قصب السبق ضمن مساحة المواقف الفرنسية من النظام السوري بعد انتفاضة 2011؛ إذْ لم يقرّب رامي مخلوف وتماسيح فساد أخرى فحسب، بل مال إلى ترجيح تفسير النظام حول “العصابات المسلحة” وطالب “بإعطاء الأسد وقتاً”، ولم يستبعد وجود “أياد أجنبية” خلف تظاهرات الاحتجاج. يتوجب، استطراداً، أن يُستبعد تماماً، ورؤساؤه ورعاته، من رهط حَمَلة الحجارة في وجه مارين لوبين؛ فالخطيئة هنا سابقة وسبّاقة.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي - ١:

    كل رؤساء فرنسا مؤيدون لنظام العائلة و الطائفة. لنتذكر تاريخ فرنسا في تناسيها لجرائم آل الأسد متغافلة عن قيم الجمهورية الفرنسية. فساركوزي هو الذي دعى الاسد لحضور القمة المتوسطية. و سابقه ميتران هو الذي أقام استقبال تاريخي لحافظ الأسد بعد مجازر حلب (١٩٨١) و حماة (١٩٨٢)، بعد اغتيال الاسد السفير الفرنسي لوي دو لامار في بيروت (١٩٨١) لأنه رتب مقابلة بين عرفات و الوزير شيسون، ناهيكم عن الاستقبال التاريخي للأسد في عهد شيراك ١٩٩٨.
    و فرنسا هي التي استقبلت رفعت الأسد (١٩٨٤)، و سكتت عن كل جرائمه في سوريا و تغافلت عن كل تجاوزاته في پاريس عندما كان شيراك رئيساً لبلدية پاريس. و فرنسا ماكرون هي التي أوجدت كل التبريرات القانونية لتبقي رفعت الاسد طليقاً خلال و بعد محاكمته، و تلغي الحجز على أملاكه. و هي نفس فرنسا التي سمحت لسفارة النظام بإجراء الانتخابات في سفارته في پاريس ٢٠٢١. و هي نفس فرنسا التي اطلقت سراح رفعت الأسد المحكوم بالسجن فيها يوم ٩ أيلول ليخرج من مطارها تحت انظار الامن الفرنسي.

  2. يقول سامي صوفي -٢:

    هي نفس فرنسا التي اطلقت سراح رفعت الأسد المحكوم بالسجن فيها يوم ٩ أيلول ليخرج من مطارها تحت انظار الامن الفرنسي.
    و هي نفس فرنسا التي سكتت عن تورط نظام الأسد في الهجوم الارهابي في پاريس (نوڤمبر ٢٠١٧) في عهد هولاند. و هي نفس فرنسا التي طالب رئيسها الحالي ماكرون بالانفتاح على بشار الأسد.
    و هي نفس فرنسا التي لم تقيم أي تحقيق باغتيال صلاح البيطار في پاريس (١٩٨١).
    و هي نفس فرنسا التي ناشدها وجهاء العلويون ١٩٣٦ بأن لا يلحقوا دويلتهم وقتها بسوريا لأنه حسب زعمهم فإن «سوريا السنّية عدوة العلويين».
    فلماذا العتب على لوپان لأنها تجهر بما يفعله قادة فرنسا الآخرون سرّاً؟

  3. يقول جواد:

    مقال دقيق و راصد ..
    لا اذكر لفرنسا موقفا من اي جلاد لشعبه يحمل شبهة اخلاق او انسانية، مواقفها كلها دعما لهذا الجلاد اذا كان الاسلام موضوع الجلد , او تحتكم في غيابه و تنقاد للمصلحة !
    بعد اوكرانيا لم يعد مجديا تماما التساؤل عن موضع حقوق الآخر او الشرقي في سياسة الدولة الغربية ، الانسانية التي تبدت في ازمة اوكرانيا لن تعثر لها على مثيل في موقف لهم من ازمة افجعتنا او سوف تفجعنا !
    أخشى أن نكون ضحايا إستباحة فكرية تجعلتنا ننتظر من الغربي فوق ما إعتاد عليه و اعتدناه منه!

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي صبحي حديدي. عندما نضع الحقائق واضحًة أمامنا، يعجز اللسان عن الكلام. يمين ويسار وإلى الأمام … سواء بسواء. بالنسبة لي هذا التقسيم يسار ويمين عفى عليه الزمن ولم يعد لتوصيف التيارات والأحزاب السياسية.

  5. يقول Passerby:

    تعاملت خلال العمل مع الكثير من الفرنسيين، أقسم بالله أن غالبيتهم منافق بالفطرة إلا أقلهم خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعرب خاصة وبالمسلمين عامة والمصيبة أن بعض الفرنسيين من أصول عربية أصبحوا مثلهم تماماً. الفرنسيون ما زالوا يعيشون بعقلية الحروب الصليبية.

إشترك في قائمتنا البريدية