في أواخر تسعينيات القرن الماضي زار الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر المغرب، ودوّن مشاهداته من هناك في إحدى رحلات «أكثر من سماء» 2002، وكان ضمن ما استأثر باهتمامه في رحلته المغربية أن يسمع من بعض المثقفين رأيهم في العلاقة بين المشرق والمغرب، بين المركز والمحيط، وخلص إلى حساسية الموضوع عندهم تجاه المشرق، بصفته أصلا ومرجعا ومركزا، إلا أن هذه الحساسية أخذت تخفت حِدّتها عند الأجيال المتأخرة، أو بالأحرى بدأت تنظر إليه من زاوية أقلّ أيديولوجية مما كان؛ إلى حد أن وصلت الدعوة بقطع الصلة مع المشرق العربي الذي لا يتواضع أمام تاريخ وثقافة شعب، لاسيما وأن المغاربة تشبثوا بالمشرق دفاعا عن عروبتهم. وقد أرجع أمجد توتر العلاقة إلى الطرفين معا؛ إلى المشرق المفتون بمركزيّته الذي يتناسى المغرب ويتعامل معه دونية، وإلى المغرب الذي لم تستطع ثقافته الحديثة أن تسمع صوتها في المشرق، إلا ابتداء من منتصف سبعينيات ذلك القرن الصاخب، ثم أصبحت «قادرة على الإشعاع على المستوى العربي ورفد الثقافة العربية بدم جديد بعد أن أدرك الإجهاد الثقافة في المشرق».
في سياق الحديث عن إشكالية مشرق- مغرب، وبعد الذي حلّ من قلاقل وأزمات خلال هذه الأوقات، طرحت بعض هذه الأسئلة الجوهرية التي تفرضها تلك الإشكالية، على مثقفين وأكاديميّين من المغرب والمشرق للنظر فيها وتقييمها على ضوء ما استجدّ من وقائع السياسة والثقافة والمجتمع:
هل ما زال المركز مؤثّرا في الأطراف و»الهوامش» حيث «المركزية المشرقية» لا تنشغل وتفكر إلا بذاتها، فيما هي تقصي المغرب من مدارها؟ أم أن هذا المركز تَعرّض للتشظي نتيجة التصدعات التي أصابت بلاد المشرق العربي، وبالتالي تَغيّر مفهومه وطبيعته بعدما شهدته هذه «الهوامش» (بلاد الخليج والمغرب تحديدا) ـ أو «المحيط» حسب اصطلاح بعضهم- من نهوض على أكثر من صعيد، وهو ما غَيّر قواعد اللعبة بين ضفتي العالم العربي؟
عبد الله العشي (الجزائر): تصدع المركزية
في الوقت الذي كانت فيه بلدان المغرب العربي ترزح تحت نير الاستعمار الأوروبي، كان عدد من دول المشرق العربي، خاصة العراق والشام ومصر، تشهد نهضة ثقافية راقية على مستوى الكتابة والنشر، في مجالات الآداب والفنون والبحث الفلسفي والديني، وكان الإشعاع المشرقي يضيء كل مكان في العالم العربي. لكن رغم تبني هذه النهضة الثقافية لمشروع العروبة نظريا، إلا أنها لم تدرج المغرب العربي ضمن اهتمامها، وشكّلت مركزية صارمة متعالية اختصرت العروبة في جغرافية محدودة لا تتعداها وتاريخ معين ورمزيات معينة محدودة بإطارها المكاني المغلق، بل أحيانا ما كانت تستثني الثقافة المغاربية من الانتماء العربي وتراها مجرد ملحق بالعالم العربي، وليست متنا كامل الوجود فيه. لقد لعب الاستعمار دوره السلبي حتى جعل لفيفا من المشارقة لا يتصورون وجود ثقافة عربية في المغرب العربي؛ لذا، كثيرا ما نجد كتبا تحمل وصف العربي في الشعر والرواية والمسرح والنقد، ولا نجد فيها ذكرا للثقافة المغربية وأسمائها ورموزها، وقد كان هذا محل جدل ونقاش بين المشرق والمغرب لسنوات طويلة. وبعد استقلال الدول المغاربية وتطور التعليم، وانتشار حملات التعريب، بدأ المغاربة في تقديم بدائل ثقافية في الأدب والنقد والفلسفة والإنسانيات عامة، وبدأت الثقافة المغاربية تنتشر خارج حدودها، مزودة بخطابات معرفية تضرب بجذورها في التراث العربي من جهة، ومن جهة أخرى تمتد عميقا في الثقافات المعاصرة، وفي هذا الوقت بدأت الثقافة المشرقية تشهد حالة من التكرار والضمور، خاصة بعد غياب جيل الرواد المؤسسين في مصر والشام والعراق، وأخذت مركزيتها تتفكك وتتصدع بفعل أسباب متعددة يعود بعضها إلى التآكل الداخلي لأنساق هذه الثقافة وعجزها عن مسايرة التغيرات وفهم حركيتها وسياقاتها، والتحولات التي طرأت على الأنظمة السياسية؛ فلم يعد هناك نظام سياسي يدعم هذه المركزية، التي كانت ذات يوم مشروعا سياسيا نهضويا قوميا قويا.
لقد تعرض المشرق بمفهومه الجغرافي والسياسي والثقافي إلى إعادة صياغة حسب إكراهات النظام العالمي ومحددات العولمة ومصالح كيانات طارئة، فأعيد تعريفه عدة مرات، وفي كل مرة كان الوعي العربي يدخل في حالة من التمزق وفقدان التوازن، ويفقد معها بعدا من أبعاده، وكان الهدف من ذلك هو خلخلة السرديات التي تأسس عليها المشرق العربي، خاصة ما يتعلق منها باللغة والدين والهوية، من أجل تهيئته لتقبل واقع جديد، وفق خطاب جديد، وهوية جديدة وقد بدأ ذلك الهدف يتحقق فعليا. في هذه المرحلة بدأ المغرب العربي، بعد أن تخلص من الاستعمار، ينهض ثقافيا ويشكل ما يشبه مركزية خاصة، أصبحت تنافس، بشكل جدي، المركزية المشرقية.
لقد تعرض المشرق بمفهومه الجغرافي والسياسي والثقافي إلى إعادة صياغة حسب إكراهات النظام العالمي ومحددات العولمة ومصالح كيانات طارئة، فأعيد تعريفه عدة مرات، وفي كل مرة كان الوعي العربي يدخل في حالة من التمزق وفقدان التوازن، ويفقد معها بعدا من أبعاده، وكان الهدف من ذلك هو خلخلة السرديات التي تأسس عليها المشرق العربي.
قدم المغاربة رؤيتهم المتميزة في الثقافة والسياسة والحياة، وأصبحت مشاريعهم الفكرية والثقافية جزءا من الثقافة المشرقية، رغم ما لاحظناه من تنافس وصل أحيانا إلى درجة رفض الآخر. كما بدأ الخليج من جهة أخرى ينهض اقتصاديا، ويشكل شبه مركزية ذات فعالية كبيرة، لها بعدها الاقتصادي والسياسي والثقافي. الآن، ومع ضغوط النظام العالمي، ووقوع العالم العربي تحت إكراهاته، هل يمكننا أن نتحدث عن مركزية عربية، سواء في المشرق القديم أو في المغرب أو في الخليج؟ هل يمكننا أن نتحدث عن مركز وهامش؟ لا يبدو الأمر كذلك، إذ ليست هناك إمكانية لصناعة مركزية بالمعنى الذي يستدعي أطرافا تابعة لها، بل الواقع اليوم يدل على أن الأمر يتعلق بأطراف وهوامش فقط، قد تصنع الهوامش ما يشبه مركزية، لكنها لن تمتلك ولن يسمح لها أن تمتلك تلك السلطة التي تمتلكها المركزية، لأن المركزية بمعنى ما هي شكل من أشكال الدولة التي كانت حلما قوميا في يوم ما. فالمركز اليوم يقع خارج الحدود الجغرافية، وما يمكن أن نراه مركزية منافسة اليوم، سواء في المغرب أو الخليج، سيتعرض لما تعرض له المشرق من تصدع وتفكك، ويبدو أن ذلك قد وقع بالفعل.
نزار التجديتي (المغرب): مركزيات متغيرة ومحيطات جاذبة
يبدو لي في الراهن أن المركزيّات المهيمنة أجمع في حال متزايدة من النسبية والتزحزح والتدحرج منذ أن صار العالم نهاية القرن الماضي قرية رقمية متعددة الأقطاب متنافرة الهويات. طبعا، هناك مركزية مشرقية ما زالت قائمة إلى حدّ الآن، وذلك نتيجة ما كان يسمّيه القدماء بجغرافية الفضائل التي ربطت المغرب دوما بجذوره الروحية قبل كل شيء. أضف إلى ذلك ما كانت وما زالت تقدّمه بعض بلدان المشرق العربي مثل مصر وسوريا والعراق (قبل الاحتلال الأمريكي) من خدمات ثقافية معتبرة في إطار سياساتها القومية الخاصة بالكتب والمجلات والندوات والمهرجانات التي جعلتها على مدى عقود محط أنظار الكتاب والمبدعين المغاربة، وقبلة حاضنة لكثير من أعمالهم. وقد توسّعت هذه الدائرة المشرقية، فصارت تلعب دول عربية محدودة الموارد كالأردن هذا الدور الإشعاعي في الآونة الأخيرة، لاسيما في مجال نشر الكتاب وتوزيعه وتثمينه بمبادرات فردية وخاصة وليست عمومية فحسب. هذا يعني فاعلية المشترك الحضاري الذي يجمع المغرب ببلدان المشرق العربي في سياقات متنوعة تباينت من عصر إلى آخر، بدءا من الحج والتعليم والتكوين إلى الغناء والأدب والتثقيف.
وإذا كان خفوت هذا الإرث الثقافي أصبح في بلدان المغرب الكبير ـ لا سيما المغرب ـ واقعا فعليا سرّعته صيرورة العولمة وضغط الأحداث الدولية الجارية، فليس فقط لأن الاختيارات السياسية التي قام بها الوطنيون المغاربة إبّان مقاومة الاستعمار وطرح مشروع النهوض، دفعت بلدنا حتما إلى الأخذ بالنموذج الحضاري الغربي المهيمن، والقطع مع ما اعتبر في أحايين كثيرة تراث الاستبداد والانحطاط، أو لأن الاستعمار زرع أذنابه قبل خروجه، بل لأن المغرب كان ولا يزال ـ بحكم حتمية موقعه الجغرافي وزخم تجربته التاريخية القديمة في العالم المتوسطي ـ مستقلا بشخصيته ولغاته وثقافاته وعمرانه وسياساته. ولعلّ هذا ما سمّاه عبد الله كنون في كتابه الشهير بـ»النبوغ المغربي». ولعل هذا ما يدل على أن المحيط مهما بدا بعيدا عن الأضواء يهضم ثقافة المركز ويتجاوزه نحو آفاق غير منتظرة.
والواقع أن التوجه نحو الحداثة الفكرية، سواء في المشروع الحضاري والثقافي المرغوب أو البراغماتية العملية التي تمليها القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية للدولة، يشير ـ عند المغاربة ـ إلى شيئين متكاملين:
أ ـ نسبية المراجع الثقافية في أذهانهم وسلوكاتهم ومواقفهم اليومية، لاسيما بعدما كشفت العولمة والتقنيات الرقمية وصعود القوى العالمية الجديدة في آسيا (كوريا الجنوبية، وسنغافورة، والصين، والهند) عن تراجع النموذج الغربي ومحدوديته أمام الرهانات الأخيرة (جائحة الكوفيد).
ب ـ وجود مركزية مغربية، قديمة وحديثة، مستمدة من تقاليد الدول والسلالات المتعاقبة على الحكم (المخزن) ومن طقوس الحياة الاجتماعية الفريدة في المدن العتيقة والبوادي النائية، وخصوصية الإرث الحضاري للغرب الإسلامي، وممتدة في القرار السياسي المتوازن وجدلية التجاذب الثقافي وسحر الاختيارات المدنية.
هذه المركزية التي لا تزيدها مجريات الأحداث في العالم إلا إغناء وقوّة، تجد صداها الأكبر والأفضل في المركزية الخليجية الناشئة لتقارب النماذج السياسية والمشاريع المدنية، بينما تنكمش المركزيات المشرقية السالفة على ماضيها في صور جامدة تبعث على السخرية أو القلق، إلا أن غياب سياسات واضحة للدولة المغربية في المجال العلمي أو المجال الثقافي، يخفي الريادة المغربية ويضيع الجهود الهائلة للأفراد والجماعات لفائدة القوى الخليجية الصاعدة التي تستثمر في تدبير المؤسسات وتنسيق الشبكات العلمية والثقافية العربية لكي تجني بجهد قليل من الثمار والفوائد ما كان ينبغي أن يظهر أثره في البلد المنتج.
علي حسن الفواز (العراق): من أجل حوار الثقافات
لا أظن أن الحديث الإشكالي عن ثنائية «مشرق- مغرب» يرتبط بأزمة الأطراف والهوامش، بل بأزمة تاريخية، سببها «القديم» تقوض النظام المركزي العربي، إن كان في بغداد، أو في الأندلس؛ فهذا التقوّض كان جرّاء عوامل طاردة، سياسية وأيديولوجية، وربما كان التشظي المركزي بعد انهيار المدن الكبرى، أسهم في صناعة مراكز ثانوية، لكنها أكثر تمترسا وتمركزا ورعبا في الشرق والغرب، مثل مركز البويهيين، السلاجقة، الصفويين، الفاطميين، الموحدين، المرابطين، المماليك، وصولا إلى الدولة العثمانية، التي لعبت دورا خطيرا في صناعة المركز العصابي، وفي نقل وتغريب المركز العربي – الإسلامي إلى الأستانة بوصفها مركزا سياسيا وشرعيا، وحتى مركزا لغويا.. لكن أخطر هذه التشظيات برزت بعد مرحلة الاستعمار الغربي للبلاد العربية، الفرنساويين والإيطاليين غربا، والإنكليز شرقا، وطبعا أوجد هذا الاستعمار أنماطا من الثقافات والهويات الملتبسة، والقائمة على فكرة المحو.
إن الأدب المناقض للمركز في الثقافة العربية يصلح هنا لتمثيل المركز الجمالي (غير المؤسساتي) كما هو الأمر في شعر الصعاليك في الجاهلية، أو عمر بن أبي ربيعة في مقابل المجنون في العصور المبكرة من الإسلام وصولا إلى ثورة أبي نواس المركزية في التاريخ القديم.
فضلا عن ما أسهم به من تغذية لغوية واجتماعية، وبالتالي عزلها تاريخيا على مستوى الاجتماع والهوية، ورغم ما يربطها من وشائج دينية وتاريخية. فالاستعمار السياسي تحوّل إلى استعمار ثقافي، وعلى نحوٍ اِنطوى على صناعة هوامش ثقافية إقليمية، لاسيما بعد أن «تعثمن» واسْتُعمر المشرق العربي، وفقد مركزيته القديمة، الثقافية والسياسية، وحتى رمزيته المدينية والحضارية، وهو ما برز بشكل جلي بعد مرحلة نشوء حركات التحرر العربي، ونشوء الدول الحديثة، إذ تحوّل الاستعمار الإنكليزي إلى هيمنة «أنغلوفونية» والاستعمار الفرنسي إلى هيمنة «فرانكفونية» أي تحوله إلى هيمنات ثقافية لها أثرها العنفي على صياغة الهويات والبنى الاجتماعية. كما ارتبط الصعود السيادي للدول الجديدة بنشوء المهيمنات العسكرية في مرحلة الخمسينات، التي تحولت في ما بعد إلى أنظمة استبدادية، أي مراكز للاستبداد الجديد، ثم انشغلت في مراحل لاحقة بانقلابات وصراعات عسكرية في مصر والعراق وليبيا والجزائر وتونس وسوريا، وصولا إلى انشغالها بحروب قصدية مع إسرائيل ومع المركز الغربي/ الاستعماري ذاته، لاسيما في حربي 1967 و1973، والتي أسهمت بعد سلسلة الهزائم في صناعة مراكز مشرقية فاشلة وعاجزة. إلا أن بروز ثروة النفط والغاز في دول المشرق، لاسيما دول الخليج، أفاد في خلق مراكز خارج ذاكرة الهزيمة، إذ تجوهرت إدارتها السياسية على إدارة الثروة، وبناء المدن الاستثمارية الجديدة، حيث نشطت فيها مظاهر الحراك الاقتصادي والاجتماعي، فضلا عن ما أنيط بها من أدوار سياسية لها أثرها على مقاربة الأزمات السياسية الصراعية في المنطقة.
أما العزل المشرقي المغربي فليس مقصودا، بل هو نتيجة لضعف المؤسسات الحاكمة للانتظام السياسي والثقافي وحتى الاقتصادي، ولطبيعة الأنظمة السياسية التي ما زالت تجد في العلاقة مع الآخر الغربي أكثر جدوى من العلاقة مع المشرقي المشغول بأزماته وصراعاته وعنف ثقافاته القاتلة، فضلا عن غياب المشاريع المشتركة اقتصاديا واجتماعيا ومهنيا، وضعف أداء مؤسسات الجامعة العربية، والمؤسسات الثقافية، مثل اتحادات الصحافيين العرب، والأدباء والكتاب العرب، وحتى المنظمات المهنية العربية الأخرى.
والحديث عن صناعة مركز مشرقي «جديد» في دول الخليج، يحمل معه توصيفا سياسيا واقتصاديا، أكثر من كونه تاريخيا. ففي مقابل هشاشة الأنظمة السياسية الأخرى، يمثل فيه المركز الاقتصادي/ الاستثماري عنصرا فاعلا في مجال توظيف الدراسات الثقافية في هذا المجال، إذ تعمد إلى مقاربة ما هو مفهومي في سياق توظيف الثروة، وقوة المعرفة، والضمانات الأمنية، والقوة الاستثمارية، لصناعة مدن للمعرفة، وهي جوهر مهم في بناء المراكز الفاعلة. إن هذا التشخيص لثنائية الاغتراب ما بين «مشرق – مغرب» يستدعي قراءة عميقة، من قبل الأنتلجنسيا العربية، على مستوى تفعيل الاجتماع الثقافي والتعليمي، وإيجاد المشاريع التي يمكنها الإسهام الجاد في تغذية «حوار الثقافات» دون عقد سياسية، أو طائفية أو مكوناتية، والتي تخضع إلى توصيف أمني أكثر من توصيف ثقافي تستدعيه الضرورة الثقافية، والحاجات إلى إعادة النظر في رهاب العزلات التي لا تخرج في جوهرها عن العزل السياسي.
أسامة جاد (مصر): الانتماء إلى العالم
في تصوري أن مقولة المركز والأطراف، مثلها مثل مقولة المتن والهوامش، تنتمي إلى حقل السلطة أكثر منها إلى حقل الثقافة والإبداع. والأمر أن الأدب المركزي في التاريخ العربي هو أدب المؤسسة، في معظم الأمر؛ أعني سلطة القبيلة والعرف والقيم «المركزية» بالأساس، لكنه ليس معبرا دائما عن قيم الفن الجمالية في مطلقها. إن الأدب المناقض للمركز في الثقافة العربية يصلح هنا لتمثيل المركز الجمالي (غير المؤسساتي) كما هو الأمر في شعر الصعاليك في الجاهلية، أو عمر بن أبي ربيعة في مقابل المجنون في العصور المبكرة من الإسلام وصولا إلى ثورة أبي نواس المركزية في التاريخ القديم. وفي العصر الحديث، كان بزوغ الشابي في المغرب العربي، وأبي مسلم البهلاني في المشرق شاهدا على ضرورة مراجعة مفهوم الحواضر الأدبية المركزية الثلاث (بغداد ودمشق والقاهرة) للأدب العربي المعاصر، في مقابل الأطراف الأدبية في المغرب الأقصى وفي الخليج، بل مع النظر إلى أن الثقافة والإبداع بوصفهما منتجا يلبي حاجة هذا المجتمع أو ذاك، صح أن نرفض مع ليفي شتراوس أن ينطبق عليها مفهوم الأواني المستطرقة. والأكثر من ذلك. ففي الوقت الذي تشكل فيه مناطق المركز الجغرافي حواضن للتمثلات الناضجة في مفهومي الفن والإبداع، فإنها، دون أن تدري، تحمل في نضجها بذرة انزياحها أمام تمثل أحدث في المفاهيم، ذلك التمثل الذي لن يأتي، في الواقع وفي الضروري، سوى من الحواضن الطرفية بحكم الجغرافيا، التي تملك متسعا أكبر من التجاور والتحاور والتلاقح مع ثقافات وفنون مجاورة لتلك المناطق الطرفية: فارس والهند والآداب الأوردية في المشرق، وأوروبا وافريقيا في المغرب والجنوب.
ولعل واحدة من أهم معطيات الحداثة الفنية وما بعدها تتحدد في أن النظر إلى الأمر بوصفه ثراء ثقافيا وتعددية ثقافية أكثر أولية في الراهن الزمني، تأسيسا على استفادات الواقع المعيش من معطيات العولمة المفاهيمية في جوانبها التقنية والرقمية، التي توصلت إلى مفهوم الكائن الثقافي الفرد، لا الانتماء الجغرافي، ولا التمثل المجتمعي المحدود بإطار اللحظة والمكان، أي الانتماء إلى العالم كله بمفهوم جمالي.
كاتب مغربي