أسباب الصدام بين صندوق النقد و«جماعات المصالح الخاصة» في لبنان

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

إذا أخطأ السياسيون فإنهم يتربحون من الأزمات الناتجة عن أخطائهم، ويدفع المواطنون الأبرياء تكلفة هذه الأزمات. هذه القاعدة تصدق تماما على لبنان الذي يقدم لنا حالة كلاسيكية لدور النخبة و«جماعات المصالح الخاصة» في صنع الأزمات والتربح منها. وقد وصلت الأزمة إلى حد ظهور شبح التهديد بإشهار إفلاس الدولة مع العجز عن سداد مستحقات الدائنين منذ عامين. لكن لبنان توصل قبل ثلاثة أسابيع إلى اتفاق أولي للانقاذ المالي والاقتصادي مع صندوق النقد الدولي. وبمقتضى الاتفاق يتوجب على السلطات اللبنانية تنفيذ مجموعة من الإصلاحات العاجلة، وهو ما يضمن لها الحصول على مساعدات مالية من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار. وكما هي العادة فإن الصندوق يشترط أن تتخذ الدولة المستفيدة مجموعة من الإجراءات الإصلاحية المبكرة قبل إقرار حزمة المساعدات المتفق عليها رسميا بواسطة مجلس المديرين. بمعنى آخر فإن الحكومة اللبنانية مطالبة الآن بإظهار حسن النية تجاه الاتفاق الأولي، والبرمجة على قدرتها على تنفيذ الإصلاحات.
ولذلك فإن من غير المتوقع أن يحصل لبنان على أي مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي قبل إعلان نتائج الانتخابات العامة التي ستجري في الشهر الحالي على الأقل، أو حتى تعلن الحكومة المقبلة، التي ستتشكل بعد الانتخابات موافقتها على برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي تم التفاوض عليه مع حكومة نجيب ميقاتي، والتزامها بتنفيذه. وخلال الفترة من الآن وحتى يبدأ تنفيذ الإجراءات المبكرة، سيبقى الاقتصاد اللبناني على صفيح ساخن، يعاني من شد وجذب وجدل يعكس تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية خلال موسم المزايدات السياسية التي تبدأ عادة مع موسم الانتخابات وتستمر حتى تشكيل الحكومة.
ما يخفف من وطأة الآثار السلبية للمزايدات السياسية وتضارب المصالح الاقتصادية هو استمرار تدفق المساعدات الخارجية ذات الطابع الإنساني التي تقوم بها الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية والعربية، خصوصا بعد أن انضمت إليها المملكة السعودية، بخطوة مهمة تشمل تقديم مساعدة مالية بقيمة 30 مليون يورو من خلال الصندوق السعودي- الفرنسي لدعم الشعب اللبناني. وإضافة إلى ذلك فإن الأزمة قد تهدأ لأسباب موسمية تتعلق بقرب عودة أعداد كبيرة من المغتربين خلال موسم إجازات الصيف. هذه العوامل قد تساعد على تخفيف حدة الأزمة التي اشتعلت خلال الأشهر القليلة الماضية وأدت إلى تدهور قيمة الليرة، حيث تضاعفت قيمة الدولار من حوالي 15 ألف ليرة إلى ما يقرب من 30 ألفا.
ونظرا لأن تطبيق برنامج الإصلاح الأولي الذي تم التوصل إليه على مستوى الخبراء بين لبنان والصندوق يرتبط بشكل وثيق بمعطيات الميزانية اللبنانية للأعوام الأربعة المقبلة، فإنه يتطلب قدرا كبيرا من التوافق الداخلي بين الفرقاء السياسيين المحليين. وكان مجلس النواب اللبناني قد فشل في إقرار ميزانية السنة المالية الحالية، وليس من المتوقع تمرير ميزانية معدلة تلتزم بشروط صندوق النقد الدولي قبل إتمام الانتخابات واجتماع مجلس النواب، وإعلان تشكيل حكومة جديدة تحظى بثقة النواب. وبسبب ضخامة مخصصات الدعم لاستيراد الوقود والدقيق والأدوية إضافة إلى مصروفات أجهزة الحكومة العامة ورواتب الموظفين، فإن مشروع الميزانية يتضمن عجزا بنسبة 21 في المئة تقريبا من الناتج المحلي اللبناني. ويقل هذا العجز بنسبة الثلث تقريبا عما كان متوقعا في ميزانية العام الماضي 31.1 في المئة، التي فشل البرلمان في إقرارها أيضا. وتشمل مصروفات مشروع الموازنة للسنة المالية 2022 تخصيص موارد مالية بقيمة 3.5 مليار دولار لمساعدة مؤسسة كهرباء لبنان على تمويل احتياجاتها من الوقود.

رؤية الصندوق لحل الأزمة

طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي فإن الأزمة التي يواجهها لبنان هي «غير مسبوقة» أدت إلى انكماش اقتصادي حاد، وزيادة كبيرة في مستويات الفقر والبطالة والهجرة. وتكشف الأزمة عن مواطن ضعف عميقة ومزمنة، تولدت عن سنوات عديدة من السياسات الاقتصادية الكلية غير المستدامة التي تسببت في عجز مالي مزدوج (في المالية العامة والحسابات الخارجية) يتميز بالضخامة والمدى الطويل، والدعم لسعر صرف مبالغ فيه، وقطاع مالي مفرط في حجمه، مع مشكلات حادة في المساءلة والشفافية وافتقار إلى الإصلاحات الهيكلية. وأدت تداعيات أزمة كورونا وتسارع تدفقات رؤوس الأموال الخارجة إلى عجز لبنان عن سداد ديونه في مارس (آذار) 2020 وأعقبه ركود عميق، وهبوط حاد في قيمة العملة اللبنانية، ومعدل تضخم يتكون من ثلاثة أرقام. وتفاقمت الأزمة من جراء جائحة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020. وفي الوقت الحالي فإن الحرب الدائرة في أوكرانيا تزيد من حدة الضغوط على الحساب الجاري والتضخم ومزيد من النقص في إمدادات الغذاء والوقود. ولهذه الأسباب فقد حدث تدهور حاد في الأحوال المعيشية للسكان، وخاصة الأكثر ضعفا، وهو ما يرجع في جانب منه إلى عدم توفر الموارد، والافتقار إلى شبكة قوية للأمان الاجتماعي.
وقد انتهت المباحثات بين السلطات المالية اللبنانية ووفد من خبراء الصندوق، التي جرت في الفترة بين 28 (آذار) مارس إلى 7 (نيسان) أبريل إلى إعلان التوصل إلى مشروع اتفاق يتضمن تقديم قرض للبنان بقيمة 3 مليارات دولار من خلال آلية «التسهيلات الممددة». ويهدف الإتفاق إلى دعم استراتيجية الإصلاح الاقتصادي التي اتفق عليها الطرفان لاستعادة النمو والاستدامة المالية، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار. وينبغي أن يتم إكمال ذلك بإعادة هيكلة الدين العام الخارجي التي ستؤدي إلى مشاركة كافية من الدائنين لإعادة الدين إلى حدود مستدامة وسد فجوات التمويل، كما جاء في بيان للصندوق.

القواعد الخمس للإصلاح

تضمنت مسودة الاتفاق مع الصندوق 5 إصلاحات رئيسية يستلزم البدء في تطبيقها إصدار قوانين جديدة بواسطة البرلمان اللبناني، على النحو التالي:
أولا: إعادة هيكلة القطاع المالي لكي تستعيد البنوك مقومات الاستمرار وقدرتها على تخصيص الموارد بكفاءة لدعم التعافي. وهذا يعني أن لبنان سيشهد بالضرورة موجة من الاستحواذ والاندماجات بين البنوك القائمة لتشكيل بنوك مندمجة أكبر، ذات ملاءة مالية مرتفعة تضمن الصمود في وجه التحديات. ومن ثم فإن عددا من البنوك القائمة سيختفي تماما.
ثانيا: إعادة هيكلة الدين العام الخارجي، والإبقاء عليه في حدود مستدامة، وخلق حيز للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وإعادة الإعمار والبنية التحتية. ويتطلب ذلك فتح حوار مع الدول والمؤسسات الدائنة من أجل إسقاط نسبة من الديون، وتخفيض أعباء مدفوعات الفائدة، وإعادة جدولة سداد مستحقات الدائنين على فترة أطول.
ثالثا: إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، خصوصا في قطاع الطاقة، لتقديم خدمات أكثر جودة للمستهلكين دون استنزاف الموارد العامة. وقد تم مناقشة مشروع استراتيجية لتطوير المؤسسات المملوكة للدولة تضمن حسن الإدارة والمحاسبة والشفافية والحد من إهدار الموارد.
رابعا: إصلاح النظام المصرفي ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بغية تدعيم الشفافية والمساءلة، وإصلاح النظام الضريبي، وقانون وقواعد السرية المصرفية، وإعادة تقييم الملاءة المالية للمصارف الكبيرة التي ستستمر بواسطة بيوت تقييم مالي ذات سمعة عالمية بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.
خامسا: تطوير سوق صرف العملات الأجنبية على أسس الشفافية والمصداقية والكفاءة، وهو ما يعيد الاعتبار إلى العملة المحلية، ويعيد الثقة في نظام أسعار الصرف، ويضمن انضباط حساب قيمة الواردات.
وقد نص الاتفاق مع الصندوق على ضرورة تخفيض عجز الميزانية إلى ما يعادل 4 في المئة من الناتج المحلي بدون احتساب مدفوعات خدمة الديون، وتوحيد سعر الصرف المستخدم في تمويل الواردات، أي خلق ما يمكن تسميته حسابيا «الدولار الجمركي» وتوسيع هامش المرونة في الإنفاق العام، بما يسمح بزيادة علاوات الموظفين لاستئناف نشاط الإدارة العامة، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، بهدف حماية الفئات الأكثر ضعفا. ونص الاتفاق على وقف تمويل عجز الميزانية بواسطة البنك المركزي «مصرف لبنان» الذي تشوبه الكثير من المخالفات، حتى يتم إصلاحه.

مصارف لبنان تقدم خطة بديلة

قدمت جمعية مصارف لبنان خطة جزئية بديلة تسعى لتحقيق هدفين، الأول هو حماية ودائع المصارف لدى البنك المركزي، التي تبلغ قيمتها حوالي 80 مليار دولار. أما الهدف الثاني فهو حماية المصارف نفسها من مخاطر الاستحواذ والاندماجات التي ستنتج حتما عن تطبيق خطة صندوق النقد الدولي في إصلاح النظام المصرفي على أساس قواعد الملاءة المالية والكفاءة المصرفية المطبقة دوليا. في النقطة الأولى الخاصة بأموال المودعين تقترح جمعية المصارف بيع أصول استثمارية مملوكة للدولة مثل مؤسسات المرافق العامة، بدلا من شطب نسبة من الودائع بالعملات الأجنبية، بما يضمن استرداد المصارف لكل ودائعها، وذلك بدلا من وضع حد لتعويض المودعين بقيمة 100 ألف دولار فقط، وسداد المتبقي من قيمة ودائعهم بالعملة المحلية. وتقدر الحكومة خسائر القطاع المالي بنحو 72 مليار دولار. ويتردد أن الاتفاق يتضمن شطب 60 مليار دولار من أصل ودائع للمصارف والمودعين لدى البنك المركزي قيمتها 80 مليارا.
كما تضمنت الخطة البديلة التي أعدتها جمعية المصارف بيع حصص في مؤسسات مملوكة للدولة إلى القطاع الخاص بما في ذلك الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والاتصالات والطرق والمواصلات من سكة حديد وغيرها، واستخدام إيرادات منح التراخيص المختلفة في سداد الخسائر.

أولوية الخبز والوقود

من الآن وحتى يتم البدء في تنفيذ اتفاق صندوق النقد الدولي سيظل الاقتصاد اللبناني معرضا لصدمات ارتفاع أسعار الواردات، واضطراب سلاسل الإمدادات، وتفاقم التضخم، بما يسبب معاناة كبيرة لأصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة واتساع نطاق حدة الفقر الذي يشمل حاليا ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان في لبنان. وعلى الرغم من الاهتمام بتقليل أعباء المعيشة، إلا أن الارتفاع الكبير في أسعار الوقود يمثل صداعا مؤلما للاقتصاد ككل، بسبب زيادة تكاليف الإنتاج، وكذلك للقطاع العائلي بسبب زيادة تكلفة الانتقالات. وسوف يتوقف الإصلاح الاقتصادي كله على نتائج الانتخابات العامة، وما إذا كان لبنان سيتمكن من تشكيل حكومة توافقية، قادرة على ممارسة السلطة وإدارة البلاد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية