الانتخابات النيابية اللبنانية: شرعنة إعادة «هيكلة» نظام ميت وتبديد خسائر الطبقة الحاكمة على حساب المودعين ودافعي الضرائب

ناصر الأمين
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: في بلد يعاني ما يعانيه لبنان بعد انهيار اقتصادي أنهك سكانه، وبغياب أي طروحات جدية وواقعية لنماذج اقتصادية بديلة، يصعب الرهان على ما قد تنتجه الانتخابات النيابية الشهر المقبل من مكاسب سياسية للمعارضة، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار قانون الانتخابات الذي يفضل بنيوياً أحزاب السلطة ويقلل من احتمالات الخرق من قبل معارضين. وفي حين لن يتضح مدى تبدل مواقف الناخبين اللبنانيين حيال أحزاب السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات، فإنه يصعب تصور حدوث تبدلات جذرية في مكونات مجلس النواب على المستوى الكلي، وإن حققت المعارضة خروقات جدية. وبذلك قد تتحدد مهمة الأحزاب والحركات المعارضة، بترسيخ وجودها في الساحة السياسية كمعارضة في السنوات المقبلة، وإن كان تواجدها بالمجلس محدودا، عبر البدء برسم طروح جدية، ليس فقط لخريطة الخروج من الأزمة، بل لنموذج اقتصادي بديل يكون معياراً في المواجهة السياسية كي لا يقتصر الخطاب على نقد النموذج القائم والانطلاق منه في بناء الخطاب والوجهة. بحكم قانون الانتخابات وغياب أي مؤشرات تدل على فقدان مكونات السلطة السيطرة على ناخبيهم إلى مستوى قد يهدد هيمنتهم، تبدأ المهمة الحقيقية للمعارضين مع فشل النظام بمحاولته الأخيرة لإعادة إنتاج ذاته، وهو أمر حتمي مع غياب المقومات المحلية والإقليمية، كما العالمية لتأمين استمراريته وإن تمكنت السلطة من إعادة إحيائه مؤقتاً.
ولا ينتهي انعدام «البصيرة» لدى الطبقة الحاكمة على تصور نموذج اقتصادي جديد، أو أقله غير قائم على ثلاثية المصارف، ودين الدولة، والعقارات (إلى جانب ما تبقى من قطاعي التجارة والخدمات) بل هم ما زالوا يرفضون- ونحن دخلنا في عامنا الثالث بعد انهيار المنظومة- أي طروحات تحملهم عبء الخسائر المادية الناجمة عن عملية تدمير للثروة تقدر بـ72 مليار دولار حتى الآن، وهي قابلة للارتفاع. بمعنى آخر، حتى الاتفاق مع صندوق النقد على شروطه، وهي بعيدة تماماً من أن تشكل حلاً للأزمة (هي أقرب إلى محاولة تجميل جثة هامدة) قد لا تلقى موافقة «الأوليغارشية» لما سيترتب عليها من تبعات على المصالح التي تربط مكونات السلطة ببعضها. وبالفعل، أكد النائب نقولا نحاس، وهو مستشار اقتصادي لرئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، لوكالة «رويترز» بعد إعلان توصل لبنان إلى اتفاق مع صندوق النقد، أن النتيجة كانت «نوعا من المعايير لما يجب أن يأتي بعد الانتخابات» إلا أنها، كما أشار الباحث الاقتصادي، مايك عازار، لا تتضمن تفاصيل أو أي حلول، ولا تلزم لبنان بشيء، بل هي بمثابة «إعلان نوايا». أما بعد الانتخابات، تأتي مهمة تشكيل الحكومة التي قد تستمر لأشهر، ستكون وظيفة حكومة ميقاتي خلالها تصريف الأعمال، ما يمنعها من اتخاذ أي قرارات مهمة. ومع غياب أي محفزات إقليمية ودولية تدفع السلطة إلى تنفيذ التزاماتها مع صندوق النقد، قد يتلاشى الاتفاق.
أما تبرير التوصل إليه الآن فهو ببساطة اقتراب موعد الانتخابات وحاجة الطبقة الحاكمة لإنجاز ما، أو وعد ما، أو مادة للاختلاف حولها، تشكل مضمون الحملات الانتخابية والوعود الفارغة التي يتم تسويقها لضبط أصوات الناخبين، كما حصل في انتخابات عام 2018 مع الوعود بجلب 11 مليار دولار تم حصدها في مؤتمر «سيدر» (والتي لم ير منها لبنان سنتاً واحداً) إلى جانب 900 ألف وظيفة جديدة كان سيؤمنها رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري.

خطة التعافي

يمكن الجزم بأنه لن تمر أي خطة مالية أو مشروع «إعادة هيكلة» للنظام المالي يتضمن تحميل المصارف كلفته من رأسمالهم. وسجلت جمعية المصارف اعتراضها على «خطة التعافي» التي تضمنت مشروع الحكومة لتوزيع الخسائر، وهددت باتخاذ إجراءات قضائية، واصفة القرار بأنه مخالف للدستور، ومعتبرةً أن الدولة هي المسؤولة عن الانهيار، وبالتالي عليها أن تتحمل مسؤولية الخسائر. هذا ليس للقول بإن خطة توزيع الخسائر التي طرحتها الحكومة خالية من المشاكل، فكما أشار أستاذ التمويل في الجامعة الأمريكية في بيروت، محمد فاعور، خلال ندوة حول خسائر القطاع المالي، الخميس الماضي، فإن توزيع الخسائر من شأنه تحديد هيكل تركز الثروة في لبنان لعقود قادمة، وبالتالي سيلعب دورا محوريا في تحديد شكل النموذج المالي والاقتصادي. وبتعميم شروط توزيع الخسائر على الودائع غير المضمونة، وهي التي يتجاوز رصيدها الـ100 ألف دولار، يصل مجموعها إلى حوالي 83.2 مليار دولار (تتضمن فقط 17.7 مليار دولار رساميل المصارف) سيتم إما تحويلها إلى الليرة، أو إلى أسهم في المصارف (ما قد يجعل كبار المودعين شركاء لملاك المصارف، الأمر الذي سيرفضه الملاك حتماً) أو شطبها بالكامل. يشير فاعور إلى أن هذه الودائع تتضمن على سبيل المثال ودائع النقابات، إذ لم يفصل المشروع الحكومي آلية للتعامل مع هذه الأرصدة، وبالتالي قد تتضمن تبعات توزيع الخسائر، عملية سحق للنقابات. كما أن المشروع لا يفرق بين المودعين، أي أنها ستوزع الخسائر (نظرياً) على من جمع ماله من المضاربات العقارية (أي الذين لا يلعبون أي دور إنتاجي في الاقتصاد) وعلى المستثمر الذي قد يلعب دورا محوريا في الاستثمار وإنتاج الوظائف في حال توفرت ظروف مؤاتية.
وعندما تضع جمعية المصارف مسؤولية الانهيار على الدولة، وترفض تحمل أعباء الخسارة، فإنها عملياً تضع العبء على من يمول الدولة، أي دافعي الضرائب الذين فقدت مداخيلهم 80 في المئة من قيمتها بحكم انهيار سعر الصرف في السنوات الماضية.
ليس من الوارد أن تفقد طغمة المصارف في لبنان رؤوس أموالها ومفاتيح تشكيل المستقبل الاقتصادي في لبنان بمحض إرادتها، فإنهم يعلمون أنه لا يمكن لقطاع مصرفي أن يستمر إذا كان حجمه أكبر من اقتصاد البلد، ويعلمون أن «إعادة هيكلة» القطاع لا تحل شيئاً إذا كان النموذج غير قابل للاستمرارية ويتطلب إعادة تأسيسه من جديد. ويشير فاعور إلى أنه في حال تمت مراجعة وتقييم أصول المصارف، سيظهر أن غالبيتها مفلسة. ولذلك يفضلون الاستمرار بآليات فرض كلفة الخسائر على المودعين ودافعي الضرائب. من هنا، تكون الانتخابات النيابية المقبلة بمثابة استفتاء من شأنه «شرعنة» الاستمرار في تصفية خسائر المصارف من أموال المودعين، وهو الأمر الذي بدأ عام 2019 مع «ليلرة» الودائع. كما أنها ستشرعن تسخير أموال وأصول وأملاك الدولة، للهدف ذاته. ويعيدنا ذلك إلى نقطة البداية، إلى غياب الحلول وحتمية استمرار انهيار اقتصادي يقابله شلل سياسي، هذا من دون التطرق إلى التبعات المحلية للأزمات الاقتصادية التي نشهدها على مستوى العالم بعد جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية