هل البناء الديمقراطي في حاجة إلى الإعلام؟ بهذا السؤال وأسئلة أخرى طرحها المشاركون في لقاء نظمه حزب التقدم والاشتراكية (يساري معارض) وساهم في تنشيطه عدد من السياسيين والإعلامين والباحثين، الذين قاربوا فيه من زوايا متقاطعة مدى إسهام وسائل الإعلام في ترسيخ الديمقراطية باعتبارها ضرورة لا تتطلب التأجيل أو التأخير في المغرب.
وإذا كان بالمقابل سؤال هل الإعلام في حاجة أصلا للبناء الديمقراطي مطروحا أصلا؟ فإن «جرعة زائدة من الأسئلة والجرأة» مطلوبة في المرحلة الراهنة، لتأمل وتطارح كيف يساهم الإعلام في عملية البناء الديمقراطي، حتى يتمكن من مواكبة تحولات المجتمع وتكريس مبادئ الديمقراطية، كما جاء على لسان المنسق الوطني لقطاع الثقافة في حزب التقدم والاشتراكية الحسين الشعبي الذي تولى تسيير هذا اللقاء.
نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، من جهته ذكر بأن الإعلام والديمقراطية كانا تاريخيا «ملتصقين» ليخلص إلى القول «لا ديمقراطية من دون إعلام ولا إعلام من دون ديمقراطية» في الوقت الذي رسم عبد الله البقالي وزميله نورالدين مفتاح على التوالي، رئيسا النقابة الوطنية للصحافة المغربية والفيدرالية المغربية لناشري الصحف «صورة قاتمة» عن الوضع الإعلامي الراهن، وهو السيناريو الأكثر سوءا الذي كان يمكن تصوره – حسب وصف مفتاح – والذي يشتغل في ظل «تلويث السياسة بالمال والتطبيع مع تضارب المصالح» كما قال كريم تاج عضو المكتب السياسي للحزب. فالديمقراطية ليست مجرد مؤسسات ووجود فصل للسلطات وقضاء مستقل، بل كذلك تمكن المواطنات والمواطنين بشكل يومي من ممارسة الديمقراطية، التي لكي تتطور وتزدهر، يتعين أن تستند إلى إعلام تعددي، حر ومستقل يساهم في تنشيط النقاش السياسي والثقافي والاجتماعي. غير أن الملاحظة الجديرة بالانتباه تتمثل في أن دور «ميديا» الإعلام وقدرتها على تعزيز الديمقراطية ما زالت جد محدودة، وموضوع الإعلام لم ينل كذلك الاهتمام الذي يستحقه من طرف الأوساط العلمية والأكاديمية، التي تشتغل على قضايا التحول الديمقراطي. كما أصبح من البديهي القول: إن التحولات التي طالت وسائل الإعلام – بفضل الثورة الرقمية – وانهيار الحدود بين وسائط الإعلام والاتصال، بأنه لا ديمقراطية من دون ضمان حرية الصحافة والإعلام.
من البديهي القول: إن التحولات التي طالت وسائل الإعلام وانهيار الحدود بين وسائط الإعلام والاتصال، إنه لا ديمقراطية دون ضمان حرية الصحافة والإعلام
وفي ظل متغيرات كهذه أصبح الفضاء الرمزي، كالقراءة لا يخضع للرقابة، و»لا يقف على أبوابه حراس» كما أدت هذه التحولات في وسائط الاتصال إلى نتائج اجتماعية وثقافية مهمة، وأصبح الإعلام موجها لطريقة تمثلنا للعالم، وجعل علاقتنا بهذا العالم، لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بل وفق ما يقدمه لنا الإعلام جاهزا ويحاول إدخاله في مخيالنا الجمعي. وساهمت هذه المتغيرات المتسارعة في انتقال الإعلام من سلطة رابعة الى سلطة أولى، بوظائف ورهانات جديدة، وجعلت الفضاء العمومي، يتحول نتيجة التوسع الهائل للتكنولوجيات الرقمية، إلى فضاء إعلامي بامتياز، تشكل داخله الصحافة والإعلام بوسائله المتعددة النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الجمهور، حسب المفكر الألماني يورغن هابرماس. كما أصبحت الرقابة التي كانت تمارسها السلطة، خاصة في العصر الورقي في مهب الريح، وأصبح الإعلام بالفعل، سلطة مضادة ورقابة، ومؤسسة ديمقراطية، تجعل أعمال السلطة موضع مساءلة وتحقيق في ما قد ترتكبه من تجاوزات. فالعلاقة بين الإعلام والدولة، خاصة في بلدان الهشاشة الديمقراطية، غالبا ما تتسم بمزيد من التعقيد والتوتر، وذلك نتيجة مهام الرقابة التي تمارسها وسائل الإعلام، ولدورها في مجال توفير المعلومات وتعميم الأخبار، الذي يساهم في حماية المواطنين من تدخل السلطة للحد من ممارسة حقوقهم وحرياتهم الفردية والجماعية.
بيد أنه في الحالة التي تكون فيها مؤسسات الوساطة، منها الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، قد فقدت جانبا كبيرا من مصداقيتها، فإن الإعلام، يظل في المقابل حاضرا، باعتباره الأداة الرئيسية لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتوفير المعلومات المخالفة، خاصة تلك المرتبطة بتدبير الشأن العام. وفي هذا السياق، أبانت تجارب دولية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، هذا المعطى، في مقدمتها التجربة التي عاشتها إسبانيا خلال الفترة الممتدة ما بين 1975 و1978 التي كانت فيها وسائل الإعلام مدعمة بشكل كبير لتحول الجارة الشمالية للمغرب نحو الديمقراطية. وعلى المستوى المغربي، إذا كان دستور 2011 قد نص – لأول مرة – على الحق في الإعلام، وأن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها في أي شكل من أشكال الرقابة القبلية، مع ضمان حق الجميع في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، مع إلزام السلطات العمومية بالتشجيع على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، مع الالتزام بما يحدده القانون من قواعد تهم تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع، إلا أن العديد من هذه المقتضيات الدستورية، ما زال يصطدم بإكراهات موضوعية وذاتية منها، بيئة الممارسة الإعلامية، والنقص الحاصل في التربية الإعلامية، وتراجع منسوب أخلاقيات المهنة، وعدم استيعاب غالبية الفاعلين، بما فيه الكفاية، للأدوار المهمة التي يضطلع بها الإعلام، ليس فقط في مجال النهوض بحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكن أيضا في تحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة.
بغض النظر عن النوايا المعلنة، فإن الوضع الراهن يتطلب الارتقاء بمستوى تعزيز برامج التوعية، والتحسيس بأهمية ممارسة حرية التعبير والصحافة والإعلام، وإدماج قيم ومبادئ حقوق الإنسان في برامج التكوين، واستكمال التكوين الموجه لفائدة مهنيي الإعلام والاتصال، وتوطين موقع ووظائف الإعلام والتواصل في الديمقراطية والتنمية وطنيا وجهويا. كما أن توسيع وتطوير الحوار والتشاور بين مختلف الفاعلين في مجال الاعلام والتحول الديمقراطي، سيساهم بلا شك في ترسيخ دور وسائل الإعلام كجهاز إنذار وأداة لليقظة المجتمعية وللرقابة على تدبير الشأن العام، وبالتالي ترسيخ الديمقراطية، وهو ما يتطلب الانتقال من علاقة الصراع والتوتر والتوجس وعدم الثقة بالإعلام، التي ميزت في غالب الأحيان، العلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام، إلى علاقات مبنية على مبادئ التكامل والتعاون، في ظل الاستقلالية.
مقترحات متعددة طرحت في لقاء الرباط حول «الإعلام والبناء الديمقراطي» من أجل الخروج من «المرحلة المبهمة التي تعيشها السياسة والإعلام» من أجل فتح أفاق جديدة وإسهاما في استعادة زمام المبادرة مرة أخرى لتوسيع الفضاء الديمقراطي وإقرار حرية الإعلام منها، الاستفادة من تجارب الماضي المشترك ما بين الفاعلين السياسيين المنشغلين بقضايا الديمقراطية والإعلاميين، وتنظيم مناظرة وطنية حول مستقبل الإعلام في المغرب، التي دعا إليها الإعلامي مصطفى ملوك خلال مداخلته.
كاتب مغربي