استحوذ خطاب القيادي يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة، الذي ألقاه يوم السبت الفائت، أمام جمهرة من الشخصيات الإسلامية والوطنية وممثلي المؤسسات والأطر السياسية والاجتماعية، على انتباه معظم سياسيي الدول، الذين يتابعون تداعيات الأوضاع الراهنة في فلسطين والمنطقة. لا يكثر القيادي السنوار في طلّاته الإعلامية، ولا في إلقاء خطاباته أمام الحشود؛ وعندما يختار أن يفعل ذلك تكون الرسالة الأولى في توقيت خطبته والإشارة إلى استشعاره بأن خطبا جللا قد يقع في كل لحظة؛ ويبقى المخفي، كما تعرف القدس، أوجع وأعظم.
لقد تعمّد السنوار توجيه رسائله وتحذيراته، إما بشكل مباشر أو مضمر، إلى عدة عناوين محلية، وقطرية وعالمية، وبرز في مقدّمتها، بطبيعة الحال، قادة إسرائيل، من سياسيين وعسكريين، وقادة الدول العربية والإسلامية، وفي طليعتهم دولة مصر، كما خصّ جميع الفلسطينيين، بمن فيهم نحن، المواطنين العرب في إسرائيل.
لن أتطرق، في هذه العجالة، إلى جميع محاور خطابه، رغم أهميتها، وسأكتفي بمعالجة أقربها الينا؛ فرسالة السنوار إلى المواطنين العرب، خاصة تلك التي وجّهها إلى أعضاء القائمة الإسلامية الموحّدة، وتحديدا إلى رئيسها منصور عباس، تعدّ أكثر من عتاب معقول بين المؤمنين الأخوة؛ وتقترب إلى كونها انذارا ساخنا وتدخلا لافتا يستدعي المناقشة بهدوء وبمسؤولية؛ فهو حين يصرّح بأن «شبكة الأمان التي تمنحها القائمة الموحّدة للحكومة الإسرائيلية، تشكّل جريمة لا تغفر، وبأن عضوية القائمة الموحّدة في الائتلاف الحكومي تعدّ تنكّرا لدين أعضائها ولعروبتهم» يعلن بوضوح عن طبيعة فهم حركة حماس لاشتباك علاقتها مع العرب المسلمين في إسرائيل، ويفترض ضرورة أن تتوافق هذه العلاقة بشكل جوهري مع العقيدة الدينية، كما تترجمها وتؤمن بها حركة حماس وقادتها، وأن تتكامل معها على مستوى النهج وفي جميع وسائل تمكينها النضالية. وإذا ما أضفنا لهذه الجزئية العامة نعته للدكتور منصور عباس «بابي رِغال» (وهو اسم الشخصية التي صارت رمزا عربيا موروثا ينعت به مَن يخون قضية قومه من أجل مصالحه الضيّقة والشخصية، كما تعاون هذا الرجل مع أبرهة الأشرم، ملك الحبشة، في حملته على الكعبة بغرض تدميرها في السنة التي ولد فيها الرسول محمد وعرفت تاريخيا «بعام الفيل») نتحقق من ضعضعة مكانة ما كان معروفا بيننا مجازا بعهدة «الستاتوس كوو»؛ وهي مجموعة قواعد سلوكية سياسية وقيم وطنية واجتماعية، درجت فئات شعبنا الفلسطيني، بينها وبين بعضها، على احترامها ومناقشتها محليا، لاسيّما إذا تعلّق الأمر بقضايا وجودية تخص علاقتنا كمواطنين فلسطينيين مع الدولة. وللنزاهة أقول: لم تكن حركة حماس متفرّدة في نقض تلك العهدة، أو ربما ليست هي أول من اخترقها جهارة وبشكل عملي وتنظيمي متعمّد؛ فقد سبقتها فصائل فلسطينية أخرى وقيادات دول عربية مختلفة عملت جميعها، منذ سنوات طويلة، على استمالة معظم قيادات مجتمعنا العربي، السياسية والاجتماعية والدينية والمدنية، ونجحت باحتضان بعضها من خلال عمليات تدجين أفضت إلى خلق حالات من «الانتماءات الرخوة» وجزر بشرية مرتبطة بمن يسمّنها ويحافظ عليها ويشتري ولاءاتها بآهاتها وفق أنظمة «دكننة» متستر عليها. لقد برّر البعض، في حينه، الشروع ببناء تلك العلاقات بالتماهي الأيديولوجي، أو لاحقا، تحت ذريعة «التواصل الإنساني» وهي قضية محقّة وحارقة؛ لكنّ تجنيدها، كما حصل في تلك الأعوام، بحجة اختراق جدارات شام الأسد، كان، كما تبيّن فيما بعد، مجرّد بدعة أدّت إلى زعزعة قلاع حصانتنا، ثم إلى تصدّعها بعد اعتماد تقليعات جديدة من التواصل، التي سرعان ما صارت تصرف على شكل مكرمات سلطانية أو أميرية أو ملكية، والتهافت عليها، مرّة باسم دعم طلّابنا، ومرة إنقاذا لمرافقنا الحيوية، ومرة لتنمية مؤسساتنا المدنية، أو باسم التصدي لزحف اليمين الإسرائيلي الفاشي؛ وهكذا حتى وصلنا عمليا إلى ترسيخ وتمتين ظاهرة تشابك مصالح الحركات الإسلامية، على اختلاف رؤاها ومشاريعها التفصيلية، مع أخواتها العربية والإسلامية ومع الأنظمة العربية والإسلامية والغربية الراضية عنها، التي شكّلت لتلك الحركات مظلات ودفيئات في بلاط آل سعود، أو تحت أجنحة السلطان أردوغان، أو داخل قصور أمراء الخليج، أو كما سمعنا في خطاب القيادي السنوار، في حضن الجمهورية الإسلامية الايرانية.
نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا
هنالك حاجة لدراسة هذه المسألة ولاستخلاص النتائج والعبر منها؛ فاليوم لسنا في معرض وضع الإصبع متى وكيف حصل الاختراق الأول في منظومة الكوابح التي حمتنا من هذا التشرذم أو الاحتضان، وحافظت على هويتنا الواحدة الجامعة؛ لكن قد يكون الاعتراف بالواقع أولى الخطى نحو الخلاص، ومراجعة ما فعلته كل حركة أو مؤسسة وما رضي به كل حزب في هذه القضية، ستكون الشرط الذي قد يعيد لهذه الهيئات والأحزاب رشدها وشرعية حقها في مناقشة مواقف بعض الحركات الإسلامية كما عبّر عنها القيادي السنوار، بكل حزم ووضوح ومباشرة، وجميعنا يعرف أن هناك من يصغي إليه ويؤيده بيننا.
من يراجع موقف حركة حماس من «القائمة الإسلامية الموحدة» سيجد في الخطاب الأخير لهجة تصعيد بارزة، تجاه قيادات الحركة الإسلامية الجنوبية خاصة تجاه الدكتور منصور عباس. لا أعرف باليقين ما هي مسببات هذا التغيير، وما جعل حماس تختار خطاب التخوين المباشر بدل المناقشة السياسية أو المحاورة الدعوية؛ خاصة إذا انتبهنا إلى أن «الخيانة» في كثير من تجلّياتها، لم تعُد موضع إجماع بين أفراد الأمة أو بين مللها ونحلها. لكنني أشعر بأن حركة حماس، ونظيراتها في الحركات الاسلامية السياسية المتآخية، بدأت تشعر بخطورة نهج الحركة الاسلامية الجنوبية عليها؛ لاسيما في الظروف الخاصة التي يعيشها مجتمعنا العربي في الداخل، الذي من أجل رغده، كما تدّعي القائمة الموحدة، تصرّ على المضي مع حكومة بينيت – لبيد، وهي معززة بفتاوى مشايخها وبتبريرها الذرائعي بأنها تفعل ذلك لمصلحة المؤمنين والفقراء وأبناء الشعب. لقد ووجهت الحركة الإسلامية الجنوبية بانتقادات لاذعة أطلقها شيوخ وقادة في الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة من قبل حكومة إسرائيل، وعلى الرغم من صراحة ما قيل وقساوته، نجحت قائمتها في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وهناك من يدّعي بأن شعبيتها تزداد رغم الهجوم عليها وتخوين طريقها بسبب مواقفها النفعية. قد تخشى حركة حماس أن يصيب داء الالتباس «معادلة الهدنة» بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، التي يتم الحديث عنها في الأخبار من حين لآخر؛ وتخشى أن يُستغل ذلك الالتباس، بشكل مقصود، في تسويغ علاقات بعض المفاعيل والجهات السياسية العربية والفلسطينية مع إسرائيل، خاصة بعد أن نجحت الحركة الإسلامية الجنوبية، من خلال اعتمادها على نصوص ملتبسة، بتحوير وتشويه مفهوم المواطنة، و»تحريره» من ضرورة تحقيق حقوقنا الوطنية، كرديف لتحقيق حقوقنا المواطنية. لقد وضع هذا الالتباس المواطن المسلم العادي في إسرائيل وفي غيرها من المواقع، أمام معضلة جديدة لا يبدو أن الحسم فيها سيكون قريبا أو سهلا، حتى إذا اتهمت حماس ومن يؤيدها منصور عباس بكونه «أبو رغال» هذه المرحلة؛ فللحركة الإسلامية الجنوبية مكانة ولها امتداد شعبي محسوس وتدعمها زعامات وقيادات محلية بضمنها رؤساء مجالس وبلديات معروفين.
لغزة بحرها وسنوارها وحلمها، ولنا، نحن العرب في إسرائيل، ما لنا وما علينا؛ وكم ناقشت وناقش غيري مواقف «القائمة الموحدة الإسلامية» واعتبرناها مضرة بمصالح مجتمعنا؛ لأنها علاوة على ترسيخها لسابقة سياسية خطيرة، ستفضي مع نهاية التجربة، إلى تقوية القوى اليمينية الفاشية. وعلى الرغم من انتقادنا الشديد لمواقفها لم ألجأ إلى تخوين أعضائها وقياداتها، لأننا ببساطة، كما قلت سابقا، نعيش في زمن لم تعد فيه «الخيانة» للأسف، حالة معرّفة ومفضوحة ومعرّاة ولا حتى مجرد وجهة نظر، بل صارت خيارا ورأيا وصرعة واجتهادا. للخيانة مقاسات ومساطر، وجميع هذه كانت، يوم كنا نصحو على صوت الندى، واضحة وضوح الجرح في جبين الفجر؛ واليوم صار كل شيء زائغا، حتى الربيع في شرقنا صار يخشى ضوء القمر. لقد بدأت مأساتنا حين اختلّت معاني التحرّر ومزّق الوطن، قبل وقوع منصور عباس عن حردبة الأمل. وكبر جرحنا حين رضينا بأن يبقى من سقطوا عن صهوات العزة والكرامة قادة أحزاب وطنية وأصحاب رأي وقلم، وحين صار لكل معبد دين وجيش وفقهاء ودولة وعلم. للخيانات رائحة الملح والعرق وصوت يشبه هسيس الجن لن تخطئه حين تسمعه حتى لو كنت ساكنا في بلاد العسل. والخيانات تتكاثر بيننا كالنمش على صدور السحاب، وتختبئ كحبات الرمل تحت الأظافر، وفي عرى معاطف «الخواجات» وعميقا في جيوب الطغاة وتحت وسائد السهر. سيحمل منصور عباس وحركته وزر ما فعلوا، وسيحاسبهم مجتمعهم إن كانوا مخطئين أو جناة بحقه؛ وإلى أن يتم ذلك، أو عكسه، دعونا من إغواء الاستعارات ووقعها المؤذي. أولم نكن وحدنا، نحن أبناء الشمس، حين رفونا للتاريخ ملاءات من ورد حكاياتنا وسقينا الينابيع دموع الأمل؟
كاتب فلسطيني
اللهم انا نستودعك فلسطين وأهلها ليلها ونهارها ورجالها ونسائها وشبابها وأطفالها يا من لا تضيع عنده الودائع ???
اللهم لا حول ولت قوة لنا إلا بالله العلي القدير والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن تبعه باحسان وسار على سنته الى يوم الدين .
مقال جيد يعبر عن الالم لحالة التشرذم والتشكيك في فلسطين العزيزة على قلب كل عربي ومسلم اينما كان.
مع الدعاء الى الله أن يصلح حال الفلسطينين والعرب والمسلمين ويوفقهم لنيل حقوقهم والدفاع عن قضايا شعوبهم.
سبق ان كتبت حول هذا الموضوع. نداء الى الاخوة والاخوات الفلسطينين في اسراءيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي كل انحاء ألعالم. الرجاء عدم تخوين أخوانكم واخواتكم حتى وان اختلفتم
ان اختلاف الراي فيه خير اذا تم بطريقة عقلانية.