مطرقة الموت وسندان القهر والذاكرة؛ سنون عجاف وسيل من قحط الزمن ومواكب الهجرة. مكر التاريخ، السياسة بالتواءاتها الدولية والمحلية، تقيم مجزرةٌ جماعية للذاكرة. والنتيجة قلوب يكتنفها ما تبقى من أملٍ تكتظ في قلب العاصمة دمشق، تنتظر باصات السجون والمعتقلات السوداء، أن ترمي بأجساد المعتقلين والمغيبين منذ عشرة أعوام وأكثر في الطريق، إثر عفوٍ رئاسي عمن أطلقت عليهم صفة الإرهابيين!
الخارجون من المعتقلات السورية، أشباح بشر، غالبيتهم أجسام فاقدة الذاكرة، بلا تاريخ أو أمل. المعتقلون لم يكونوا فاقدي الذاكرة يوما، بل ذاكرة شعب ووطن بأكمله منعت من الحياة، ذاكرة صامت عقدا ولم تفطر بعد! الذاكرة التي طالما حذرنا من حمل وزرها وتمنينا فقدها لشدة أهوالنا. هي ليست بصرية أو سمعية، تنتهي بنهاية الحدث! الذاكرة قلبية أيضا، تصحو حين غفلة، رغما عنَا، ومشهد اليوم يعيد الصورة بأكملها بصريا وسمعيا فكيف هي قلبيا، وهذه لا تموت.
بات للسوري، كما العراقي والفلسطيني، لسانٌ ثالث يفتحه على سيل من الشتائم سراً، يلعن مكر التاريخ وبؤس السياسة ومجزرة الذاكرة بعد مجزرة وطن
هنا كانت الأرض تعجّ بملايين الحكايات من الأمل والحب والحياة، تمتلئ بمئات المنابر للمظاهرات والاعتصامات، للأحلام، للرؤى المستقبلية، وآلاف الآلاف ترقص على لحن واحد.. لحن تناغم عليه السوريون، في الحرية واستحقاق استرداد الدولة، وتحقيق ما يليق بالسوري أن يكون، في دولة يسودها القانون وسياجها الدستور. هنا تماهى الزمن مع معزوفة التوافق والتناغم، حيث كان يُعزف الإيقاع والحلاج يترنم دائرا على عقبيه فنرتقي، وكان اللحن حياة. فهل كان حلما؟ وهل كان واقعا حيا عشناه لحظة بلحظة، يوما خلف يوم وسنة وراء سنة؟ مشهد اليوم يعيد للذاكرة تناقضها: شدة الشغف الأول، وحدة الانحدار اللاحق! وكأن انقطاعا زمنيا حدث، بركانا ثار وعاد خامدا بعدما بتنا أشلاء بشر مشتتة بين معتقلين بلا ذاكرة أو حياة، وذويهم بلا دم في العروق، ومهجرين في كل شتات الكون. والبقية منّا يعاندون قهر الحياة وغلبة الجوع ومجزرة الذاكرة في ما تبقى من وطن. ومع هذا، لم تزل روح السوريين، رغم هول كوارثهم، تهيم في فضاء الكون تبحث عن وطن واحد، عن دولة بلا هيمنة عسكرية أو تسلطية، بلا صفات أيديولوجية أو نكهات سياسية على مذاق أصحاب الأحزاب وأجنداتها المتفردة في سطوة الحكم، والطامة الكبرى، أن معظم الأحزاب المسماة معارضة، مارست وتمارس طقوس حزب البعث ذاته قبل أن تصل فعليا للسلطة، فأقام الجميع مجزرة وطن! لم يعد منتجا اليوم التحليل السياسي وقول الرأي في المسألة السورية، فقد انزاحت معاييرها إقليميا ودوليا لعقد عالمية جيوبولتيكية متعددة الأطراف والمصالح. فيما باتت صفقات الغرف الأمنية تحجب معطيات الممكن السياسي في التحليل، أو ترسيم مسارات لها. فإن كان العنوان السوري الأبرز في السنوات الماضية هو استعصاء مغلق في إمكانية الحل العام، مقابل المزيد من التفكيك في البنى المجتمعية والقوى السياسية لمستوى التجزئة، ووهم الحلول التي لا تسمن ولا تغني عن جوع؛ لكنه في الجهة المقابلة، بات عنوانا لسيل من الأرقام. أرقام جافة بكل محتواها سوى رائحة اللحم الآدمي، صراخ الأطفال ونحيب الأمهات، وفوق كل هذا قهر الرجال ودمع بين حبيس وفياض، وآلاف اللقاءات المكوكية للمعارضة السورية لتوحيد جهودها! والأمم المتحدة تكيل في الأرقام والوثائق، تحصي وتعد، ومسرح جنيف لم يتوقف عن تعداده للحل السوري بلقاءاته ومؤتمراته، كما حدث مع الفلسطيني قبل عقود، وما زال لليوم. فبينما تطالعك القرارات الأممية بنشرات الحل السوري وقبله الفلسطيني، تكون النتيجة: إعاقة وعرقلة، تفاهما إقليميا ودوليا على تقاسم الكعكة السورية بين خمس من دول العالم، احتلالا، تحيّزا في الدعم المدني والجهود الإنسانية، وتواطؤا في تهجير البقية من السوريين وطمس أحلامهم وقضيتهم استكمالا للتغيير الديموغرافي؛ وفوق هذا وذاك، الخذلان سيد الموقف، والقهر ومحو الذاكرة في صوت رتيب لقطرات الماء الساقطة من صنبور ماء، تدق الساعة، كعقاب نفسي يمارسه سجانو البلاد في المعتقلات، ما يبعث على الفصام النفسي، والسياسي في آن.
تقارير العالم ومنظماته الأممية تمتلئ بالأرقام، والأرقام تفقأ القلوب قبل العيون والعقول، سوى عقل لا يحمل من الرحمة قسطا. تطالعك تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها تعد وتحصي:
– ما يزيد عن 650 ألفا (هذا وثمة تقارير تتحدث عن أضعاف هذا الرقم) قتلوا في سوريا، وكأنهم تبخروا بفعل زلزال!
– 12.6 مليون بين نازح داخلي ومهجر خارجي، بحثا عن السعادة!
– 1.5 مليون وأكثر من أطفال سوريا عرضة للاستغلال، وما يزيد عن 2.4 مليون طفل خارج المدارس و5 آلاف مدرسة مدمرة، وذلك حسب اليونسيف، فالعلم كان رفاهية!
– سوريا الأخطر على حياة الصحافيين، وخارج التصنيف العالمي علميا، و90% من سكانها دون مستوى خط الفقر العالمي.
– أكثر من مئتي ألف معتقل ومغيب قسريا، منهم ثلاثة آلاف طفل يرزحون تحت وطأة المعتقلات في سجون سلطة النظام وسجون الفصائل المعارضة متعددة الأجناس والأعراق! هذا عدا عن مخيمات اللجوء وسوء الحياة. واليوم يتم الحديث بالإفراج عن بضع مئات منهم وسط مجزرة كبرى للقلوب المنتظرة وفواجع الذاكرة!
– 17 حق نقض من الفيتو الروسي شاركت في معظمه الصين، و17 لقاء في أستانة، وما يزيد عن 10 في جنيف، وسبعة من لقاءات اللجنة الدستورية! وعشرات المنصات ومئات الأحزاب والكتل السياسية، وما يزيد عن 1000 منظمة عمل مدني، ويبدو أن سوريا دولة عصرية «علمانية» بهذه الكثرة السياسية والمدنية ونحن لا نتذكر!
حقيقة، ليس عجزا عن التحليل السياسي، بل ترفعا! ترفعا عن تدنيس فرحة أمهات المعتقلين بخروج أبنائهم حتى لو كانوا مجرد كتل من اللحم والعظم؛ ولهول في المقارنة النفسية، قامت إحدى الأمهات في موقع ثانٍ بتوزيع الحلوى، بعد أن شاهدت الفيلم الذي سربته «الغارديان» البريطانية عن مجزرة التضامن جنوب دمشق، حيث شاهدت ابنها من بين من تمت تصفيتهم فيها! وتردد: «اليوم ارتحت من وجع الذاكرة الذي لم يتوقف لتسعة أعوام! كنت كل ليلة أتخيله تحت سياط التعذيب بألف طريقة وطريقة، لكن اليوم ارتحت من هذا الألم، فهو قد مات من يوم اختفائه»، يا لبؤس التاريخ. لا عجب، صندوق العجائب السوري ممتلئ عن آخره، ومفتاحه السري رقم! والرقم ذاكراتنا وتاريخنا، نعيشه بقلوبنا وأحاسيسنا. فيما يكتفي به رقم، مجرد رقم على صدر سجين او معتقل، أو إحصاء لعدد الضحايا! لا عجب فالرقم نغمة، وترٌ في موازين الكون، الرقم ترنيمة ولغة: خمسة أوتار للعود والكمان، وثلاثة حبال صوتية للحنجرة، والناتج آلاف النغمات. فيما لنا قلب واحد ولسانان، لسان نظهره والآخر نكتمه كمدا وقهرا. وربما بات للسوري، كما قبله العراقي والفلسطيني، لسانٌ ثالث يفتحه على سيل من الشتائم حين ينفرد بنفسه، يلعن مكر التاريخ وبؤس السياسة ومجزرة الذاكرة بعد مجزرة وطن!
كاتب وباحث سوري
أنه النظام الذي فرض علي الشعب السوري الذي كان يريد ذات يوم أن يتخلص من هذا النظام من أجل التغيير لكن الأسد ساندته الذئاب كي يفترس شعبه لك الله يا سوريا الحبيبة ويا سوريا التاريخ.
شكرًا أخي جمال الشوفي. تأثرت بهذا الأسلوب الهادئ لوصف هذه المأساة التي نعيشها، قمة الوحشية والإجرام ومع ذلك خزلنا العالم. نظرة بسيطة لما يحصل في أوكرانيا نجد فارق. بعض الناس قالت لو أننا نعلم أن مزيدًا من المعتقلين سيتم اطلاق سراحهم لخرجنا بمظاهرة تمجيدُا للنظام، للتعبير عن أن المعتقل يعيش في جحيم وخلاصه فوق كل اعتبار . هذا ماقرأته في أحد التعليقات في الفيسبوك!