كنت أفكر، كمؤمنة بحرية الإنسان ـ لا تحب الأدوار الشرطية، والرقابة الصارمة، والقيد الذي لا يفضي إلا لقمع الوعي، ومحاربة التفكير الحر ـ بعدم جدوى الامتحانات، وضرورة التوصل لطريقة أكثر تحضرا وإنسانية وحرية في تقييم التعليم العام منه، والجامعي، كبديل لهذه الطريقة القاسية نفسيا ومعرفيا في التقييم، والتي عفى عليها الزمن. ولكنني في الوقت نفسه كنت أشعر بحيرة أمام البدائل التي قد لا تكون عادلة بما يكفي، سيما ونحن في عالم نقيس فيه التفكير بالمسطرة، والمعرفة بالكم، ومع طلاب تلقوا تربية معرفية قُمعية، قائمة على صب المعلومات في رؤوسهم، ثم إفراغها في صفحة الامتحان، ونسيانها بعد خمس دقائق من الخروج من القاعة، بعيدا عن إدراك قيمة العلم للإنسان والتغيير والحضارة، وأهمية الثقافة في تشكيل الوعي ومحاورة الإنسان والوجود.
ولكن هذا التفكير الحر استحال لصورة خيالية أو يوتوبيا بعيدة جدا، وأنا أراقب على طلاب المرحلة الجامعية، وأغلبيتهم يتربص الفرص كلص محترف ليسطو على إجابة ما من ورقة زميله أو من فمه، وبالتالي كان علي أن أكشر عن أنيابي، وأتحول إلى شرطية صارمة جدا في التعامل مع هذا الوضع، تهدد بالويل والثبور وسحب الورق، ووضع أدنى العلامات لكل من تسول نفسه إتيان هذا العمل الشنيع من وجهة نظري، لأن إيماني بالحرية لا يقل عن كفري المتجذّر بالغش والكذب والنفاق.
وكنت أنظر لكل محاولة غش، ولكل جسد متململ، وعين متربصة، بقرف وسخط، مستحضرة كل مسؤول فاسد، وكل تاجر لص، وكل سارق، ومرتشٍ، ومرابٍ، ومستغل وحقير في أوطاننا يعيث فسادا في البلاد، ويسلب أرزاق العباد، وأدرك جيدا أن المشكلة تبدأ من هنا تماما. وأن من يبدأ بالغش ينتهي بالغش، فماذا يمكن أن يصبح الطالب الذي أخذ شهادته بالغش، موظفا وإنسانا؟ وماذا يمكن أن يقدم لاحقا لوطنه، ولشعبه بل ولأسرته وبيته؟ وأي مبدأ أو قيمة ستحكمه موظفا؟ ومم سيخاف قبل أن يقترف أي جريمة سرقة أو رشوة؟ وكيف سيربي أبناءه؟ وكيف سيتعامل مع زوجته وأسرته ومجتمعه، وهو سارق كبير منذ البدء حتى الخاتمة؟ مستحضرة كل القضايا التي تطالعنا بها الصحف المحلية والعربية ووسائل الإعلام يوميا عن السرقة والاغتصاب وتهريب الأموال، وكل القبح والشر الذي يتحرك في مجتمعاتنا بنشاط، ويتكاثر بحيوية وقوة، مدركة أن الشر بدأ مبكرا جدا، ومن قاعات الدرس تحديدا، ولم يجد مقاومة، ولا تصدى أحد لتفتيت حزم الوهم الراكدة في عقول طلابنا للنجاح بأي وسيلة، والتحصل على شهادات عالية بكل الطرق الممكنة حتى لو كانت بالغش والسرقة من مجهودات الآخرين وتعبهم، أو من الكتب و»البراشيم» التي أصبح طلابنا يستحقون شهادات عالية فعلا في كيفية صناعتها وتجويدها في الحجم والكم والكيف. ولا في عقول آبائهم الذين سيوقعون بهم أدنى العقوبة لرسوبهم، ولكنهم لن يحركوا ساكنا لو عرفوا أن نجاحهم كان بسبب الغش، وتفوقهم كان سرقة وليس مستحقا، بل ربما باركوا لهم تلك الشجاعة في الأخذ، وهنأوهم على تلك القوة في السلب وخداع المراقب، وبالتالي يصبح للتفوق المسروق قيمة إضافية، فهو بسالة ورجولة تستحق التقدير والتشجيع.
ورغم كل المقاومة الباسلة التي تقوم بها مؤسسات التعليم العام والجامعي للحد من الغش، إلا أن الحالات التي تسجلها هذه المؤسسات لا تعد ولا تحصى، وكل السبل لا تجدي أمام التحين والتربص الطلابي، وعقد العزم على سرقة معلومة مهما صغرت أو كبرت للنجاة من براثن الامتحان، والخروج من هول هذه المحنة، بلا استعداد ولا تجهيز.
بل أن الأمر في جزء منه أصبح طبيعيا جدا، حيث أصبح الغش مقننا، وتحت أقنعة شتى، وصار العلم يباع ويُشترى في محلات ومكتبات، ومراكز بحوث عالية الجودة، ومرخصة من قبل الدولة والقانون، تقدم خدماتها البحثية بقيمة مبسطة لجميع الطلاب لتساعدهم على الغش والسرقة، ليتحصلوا على أعلى التقديرات بأقل الجهد وأسرع الوقت، بل ويتحصل البعض من خلالها على أعلى الشهادات والدرجات العلمية.
والسؤال الذي يهمنا، لماذا وصلنا إلى هنا؟ ولماذا لا يدرك الطالب حرمة ما يفعل وقبح نتائجه، وأثرها عليه كفرد ومجتمع؟ هل هي التربية الأسرية التي لا تعاقب على الكذب والغش منذ البدء، بل قد تبيحه وتسوغه بمبررات كثيرة أهمها النجاح وامتلاك شهادة للتحصل على وظيفة لكسب المال؟ أم هي المناهج التربوية التي لا تركز على فداحة فعل الغش في الحياة قولا وفعلا، أمام الله وأمام الناس؟ أم هي القراءة الخارجية للدين التي لم تركز على محاربة الغش كأعلى درجة من درجات الكفر والتي تخرج صاحبها من الدين تماما «من غشنا ليس منا»؟.
أم هي التربية المجتمعية التي أحكمت الرقابة الخارجية، وأشهرت في وجوه أبنائها ألف رقيب، وأباحت لهم كل فعل خارجها، ولم تفكر يوما في خلق رقيب داخلي، لتوصلهم لهذه المرحلة المتأزمة بهذه الأخلاقيات والسلوكيات المرضية، بعيدا عن أي مبدأ، أو إيمان، أو وعي أو مسؤولية؟
التربية المجتمعية التي جعلت الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي فالطالب والباحث يطمح لغاية عالية، فلن ينظر لقبح الوسيلة، ولن يعتقد بحرمة الغش كوسيلة للنجاح، وبالتالي فالتاجر السارق، والمسؤول الفاسد، لا يدرك أيضا حرمة ما يفعل، وقد يعتقد أن ما يأخذه استحقاق، ولن يحاسب عليه، فالقوانين العربية طيعة فيما يخص أهل المال والمناصب، وأما البشر فالقانون لا يحمي المغفلين، كما تقول الحكمة العربية المعروفة.
كانت كل تلك الأسئلة والهواجس تشتعل في داخلي، وأنا أتمشى في قاعة الامتحان، وأستحضر العنتريات العربية واللحى الطويلة من جهة، والموت والفقر والظلم من جهة أخرى، وأتذكر رغبتي الأولى في غياب الامتحانات، وأقول مازلنا بعيدين جدا عن الحرية التي هي شرط الإنسانية الحقة.
كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
جميل و عميق هذا المقال. أتفق تماما مع الكاتبة الكريمة.
كلام جميل بس الواقع درجات ومعدلات وتخصصات غيرمناسبه لعدم رغبة الطالب وهذ الكلام مفروض عل الطلاب التخصص والمعدلات في كل الدول النايمه او تدخل برغبتك ووميولك بتخصص في قناعتك ثم بعد ذلك نام في منزلك بتخصصك وهوايتك ورغبتك
مقال جميل والنقاش حوله يحتاج الى أكثر من تعليق .
ـ موضوع ( الغش ) بالنسبة للطالب وبعد خبرة عقود أصبحت شيء
طبيعي وكأنه ( حق مكتسب ) للطالب ؟؟؟!!!
ـ إلغاء ( الامتحانات ) صعب وغير عادل .
لكن ممكن دمج الاختبارات مع تقييم شامل ( للمدرسين ) لكل طالب
وخاصة في مراحل ( المدرسة ) .
ـ مرحلة ( الجامعة ) ربما تختلف قليلا عن مرحلة المدرسة .
ـ على كل الأحوال : يجب على الإخصائيين والتربويين مناقشة
هذه الموضوع بالتفصيل والتوصل لافضل الحلول له .
شكرا والشكر موصول للاخت الكاتبة .
عنوان رائع يا فاطمة الشيدي يمثل شخص يبحث عن التشخيص الصحيح، لأنَّ التشخيص الصحيح هو نصف الحل، وبالأمس غادة السمّان نشرت مقالة تحت عنوان “كذب العُشاق ولو صدقوا” كان قمة في المصداقيّة وزاد جماله في لغات الاستقراء والاستنباط مثل اللغة العربية المذكر يشمل المؤنث ولا يُفرّق بينهما مثل اللغات التي اساسها التأويل مثل الأوربية واللاتينية.
وأضفت عليه في تعليقي عليه “كذب العُشاق ولو صدقوا، وصدق الأزواج ولو كذبوا” الإشكالية في دولة الحداثة أو ثقافة الـ أنا نجدها ضد التعدّدية في أي شيء يُمكن تسجيله قانونيا بداية من الزواج، في حين القانون يحمي الغش والتعدّد خارج القانون بداية بالعشق.
وأضيف على مقالك يا فاطمة الشيدي من وجهة نظري الإشكالية في الأمم المتحدة وبداية ببيانها لحقوق الإنسان، لأنَّ البيان لا يعترف بالمواطن إنسان، بل هو شهادة ميلاد أو هوية أو جنسية أو جواز يتفضل عليه موظف الدولة حسب مزاجيته وانتقائيته يعطيها له أو يسحبها منه، والدليل على ذلك فلسطين التي يرفض مجلس الأمن اصدار اعتراف بها من تاريخ انشاء المنظمة وحتى الآن، والثانية جمهورية الصين الوطنية (تايوان) من عضو صاحب حق النقض/الفيتو إلى شيء مثل فلسطين غير معترف به من قبل الأمم المتحدة، العولمة وتقنية أدواتها إن كانت القنوات الفضائية أو الشّابِكة (الإنترنت)، أوضحت للمواطن أنّ قيمته أكثر من قيمة الورق، ولا يجوز أن تكون حقوقه الاساسية تتحكم بها أي جهة بمزاجية وانتقائية لا تخضع لقانون أو دستور، يكون المرجعية لكل الأطراف لتبيين واقع اسم كل لون من ألوان الطيف.
الإشكالية هي في مفهوم هل القانون للتنظيم أم للحكم؟ الإشكالية هل الشهادة هي الأساس أم الفهم والاستيعاب هو الأساس، لماذا لوم الطالب في كيفية الحصول على الشهادة، إن كان عملية التوظيف في الدولة تعتمد على الورقة أو الواسطة، وليس على امتحان كفاءة لما تحتاجه الوظيفة نفسها ممن يجب أن يجلس على الكرسي، قبل أن يجلس على الكرسي؟!
ولكن السؤال الحقيقي هو ما استجد وأثار هذه الإشكاليات في القرن الواحد والعشرين على مستوى العالم كلّه، ومن وجهة نظري الذي استجد هو العولمة والتقنية وأدواتها أعطت أهمية للوقت من جهة، وأعطت أهمية للترجمة من خلال التوطين أو التعريب بالنسبة إلى اللغة العربية، حيث أنَّ اللغة العربية تتجاوز حدود سايكس وبيكو، وليس الترجمة من خلال النقل الحرفي (الببغائي) كما هو حال مصطلح البيروقراطية بجميع بناتها الديمقراطية والديكتاتورية.
من الواضح أنَّ الكثير لم يفهم أنّ التنسيق ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي من أيام ريغان وغورباتشوف عندما جلس الطرفان لإيجاد حل لإفلاسهما بسبب سباق التسلّح والظاهر أنَّ الذي كان من اقترح الحل هو غرينسبان وتم تسليمه قيادة البنك المركزي الأمريكي ليكون مشرف بنفسه على تنفيذ الخطة، ومن هذا يتبين لماذا كان هو المسؤول الوحيد الذي جلس في منصبه من أيام ريغان مرورا ببوش الأب ثم كلينتون ثم بوش الأبن إلى أن تم إعلان انهيار وافلاس النظام البنكي/المصرفي عام 2008 والذي تصادف هو نفس عام حذاء منتظر الزيدي الذي رماه على ممثلي نظام الأمم المتحدة البيروقراطي إن كان من خلال ممثله الغربي جورج بوش أو ممثله الشرقي نوري المالكي، في بلاد وادي الرافدين وفي ذلك رمزية رهيبة.
لقد لاحظت كل شيء في هذه الدنيا كلما ازدادت خبرتك فيه، ازدادت كفاءتك وسرعة وجودة إنجازك، إلاّ في شيء واحد كلما زادت خبرتك فيه قلّة كفاءة وجودة وجمال وابداع ما تنتجه، ألا وهو العلاقة بين الرجل والمرأة، فكلما زادت تعرفك على تفاصيل أكثر من الـ آخر، كلما زاد تقربك من الـ أنا أكثر ومن هذه الزاوية نفهم زيادة العلاقات الجنسية الشاذة بين الـ أنا والـ أنا على حساب الـ آخر.
ما زاد الطين بلّة هو محاولة تقنين وتسجيل هذه العلاقة الشاذة لأنها لا يمكن أن تُنتج أجيال قادمة في دولة الحداثة بحجة تطوير مفهوم الأسرة بدل أن تكون علاقة ما بين الـ أنا والـ آخر لتكوين أجيال المستقبل، وبالفعل صادق باراك أوباما كرئيس للنخب الحاكمة في نظام الأمم المتحدة على قانون تغيير مفهوم الأسرة من علاقة قانونية ما بين الـ أنا والـ آخر إلى علاقة ليس لتكوين الأجيال القادمة بل هي لا تتعدى أن تكون علاقة ما بين الـ أنا والـ أنا.
فالعولمة فرضت تحديات جديدة، والإداري الناجح يعرف أنَّ هناك فرق وتمييز ما بين إدارة المشاريع في الحكومة شيء والقطاع الخاص شيء آخر، فإشكالية الإشكاليات في النظام البيروقراطي، عندما يصبح موظف الدولة يظن أنّه شريك مع الدولة بسبب كرسي الوظيفة، وكأنّه يعمل في أجواء القطاع الخاص، وليس القطاع الحكومي، ومن هنا يكون مدخل الفساد في أي وسط، لتبرير وتحويل اشكالية أي مشروع في أحد أركانه الثلاثة، إن كان من ناحية زيادة التكلفة أو الوقت المتأخر أو رداءة الجودة، بتبريرات ليست صحيحة، أو تشكيك بدون اسس منطقية أو موضوعية، من أجل زيادة نسبة حصته من عائد المشروع إلى جيبه الخاص، حيث هذا كان هو السبب الرئيس في انهيار نظام الديون للمصارف/البنوك العالمي عام 2008، فمن له الرغبة في إفلاس وانقراض النظام العالمي ولغته الأم.
ولذلك من وجهة نظري يجب تغيير مناهج التعليم في دولة الحداثة أو الفلسفة أو الفكر، حيث ثبت أنّها لا تصلح في أجواء العولمة التي اساسها التجارة أو الحكمة أو اللغة، مناهج التعليم الحالية تُنتج مواطن يُجيد التفاوض من خلال التشكيك أو التبرير لأجل التفاوض، كما هو حال مفاوضات الكيان الصهيوني مع السلطة الفلسطينية بلا أي اهتمام بالوقت وقيمته الاقتصادية، والتي في عصر العولمة أصبح عامل الوقت مهم جدا، ولكي تنجح في المنافسة في أجواء العولمة، عليك أن تكون اسرع من الآخرين في انجاز اتفاق مع الآخر، ولكي تستطيع الوصول إلى ذلك يجب أن تجد لغة مشتركة معه لرفع أي سوء فهم قبل الآخر للفوز بالعقد لتغطية مصاريفك على الأقل، وإلا فمصيرك الإفلاس أو الانهيار كما حصل مع إفلاس وانهيار نظام الديون المصرفية/البنكية عام 2008، حيث لا مكان لأي طرف يرفض التعامل بشفافية ومصداقية في أجواء العولمة وتقنية آلاتها التي لا تستطيع العمل بدون لغة المنطق والموضوعية.
لغة الإسلام عمادها التكامل ما بين الرجل (الـ أنا) والمرأة (الـ آخر) وسمح فقط بالتعددية القانونية في العلاقة الأسرية أو ثقافة الـ نحن، ولضمان قوة هذه العلاقة طالب بغض البصر في الأجواء المختلطة، ومن أجل أهمية تحديد الأنساب للأجيال القادمة من أجل العدالة القانونية في توزيع الميراث حصرها في الرجل.
ما رأيكم دام فضلكم؟