انتخابات لبنان للتعبير لا للتغيير

حجم الخط
0

الانتخابات في لبنان ظاهرة تاريخية. لا غلوّ في هذا التوصيف. كل ما يجري فيها تاريخي من حيث أنه قديم وجديد، مألوف وغير مسبوق، تقليدي وثوري، صناعة محلية وأجنبية، ثابت ومتحوّل. هو كل هذه المتناقضات في آن معاً. ليس غريباً، والحال هذه، توصيف لبنان بأنه بلد الغرائب والعجائب.
كلُ الأطراف المتصارعة والمتنافسة في ساحاته، أفراداً وجماعات، داخلية وخارجية، تصرّفت خلال السنتين الماضيتين على نحوٍ بدت الصراعات بينها وكأنها قدر مقدور، لكنه مفتوح أيضاً على ظاهرات ومفاجآت نقيضة، حتى قبل أيام معدودة، كانت ثمة شكوك في أن تجري الانتخابات في موعدها المقرر، لكن الشكوك انحسرت قليلاً وأتاحت الظروف المتغيّرة للسلطات القائمة، رغم قصورها وتنافرها، أن تطلق سباقاً بين الأطراف المتصارعة نحو المجهول.
المجهول؟ نعم، المجهول لأن أحداً في الداخل والخارج ليس بمقدوره أن يجزم كيف ستكون عليه حال لبنان بعـد أن تضع الانتخابات أوزارهـا.. لماذا؟ لأن اللاعبين المتصارعين والمتنافسين في ملعب صغير متعدد الساحات، كثر ومتشاكسون ومتشابكون في الغايات والأهواء والمصالح والمسالك، مع ذلك يمكن، بصعوبة بالغة، تصنيفهم في ثلاث فئات:
الاولى هي الأشد عداء وكراهية للغرب عموماً وللكيان الصهيوني خصوصاً، والأصرح التزاماً بمقاومة هذين العدوين بالسلاح والسياسة والاقتصاد.
الثانية هي الأشد التصاقاً بالنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الطوائفي القائم، والأكثر استعداداً للدفاع عنه بما هو، في رأيها، الضمانة الرئيسية لهوية لبنان.
الثالثة هي الأكثر شباباً والأقل تعاطياً مع النظام الطوائفي القائم، والأسرع استعداداً للاعتقاد، وبالتالي الانخراط في الدعوة إلى إقصاء المنظومة الحاكمة، بما هو العلاج الأفعل للأزمة الراهنة.

في لبنان اللاعبون المتصارعون والمتنافسون في ملعب صغير متعدد الساحات، كثر ومتشاكسون ومتشابكون في الغايات والأهواء والمصالح والمسالك

دولُ الغرب الأطلسي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، تعادي وتحارب وتفرض عقوبات اقتصادية قاسية على قيادات ومؤسسات الفئة الأولى التي يمكن اختصارها بتسمية «حزب الله وحلفائه» في حين أن روسيا وإيران، والصين بشكل محدود، تدعمه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً (بالأسلحة والذخائر والخبرة والتدريب). أطرافُ الفئة الثانية حليفة قديمة جديدة لدول الغرب الأطلسي، ولا تخفي تلقيها مختلف أنواع الدعم منه، كما تجاهر بانحيازها إلى حلفاء الغرب من دول الخليج وغيرها من دول العالم. أطرافُ الفئة الثالثة التي يمكن اختصارها بتسمية «دعاة التغيير من خلال المجتمع المدني» ليست معادية لدول الغرب، بل ربما يدور معظمها سياسياً وثقافياً في فلكها، تميّزت بعد انطلاقها بانتفاضة 17 تشرين الأول /أكتوبر 2019 بثلاثة أمور لافتة: عجزها عن التوافق على برنامج موحد للإصلاح والتغيير، وعجزها تالياً عن التوحد في تكتل أو تكتلات سياسية متماسكة لخوض الانتخابات، وتسارع انزلاق معظم أطرافها إلى استعداء حزب الله والمطالبة بنزع سلاح المقاومة، واتهامه تالياً بأنه يحمي منظومة الفساد المتحكّمة. عشية الإنتخابات حدث أمران، أضرّ أولهما بحقوق لبنان السيادية (النفط والغاز) في مياهه الإقليمية، وأحرج ثانيهما مختلف أطراف الفئة الثانية من حلفاء الغرب عموماً، وأمريكا خصوصاً، كما أربك اطراف الفئة الثالثة من دعاة التغيير من خلال المجتمع المدني:
الحدثُ الأول: إعلان شركة يونانية متعاقدة مع «إسرائيل» على التنقيب عن النفط والغاز في منطقة متنازع عليها على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أن سفينةً جرى استقدامها من سنغافورة للمباشرة في استخراج النفط تمهيداً لبيعه واستثمار عائداته، وذلك في وقتٍ لا تكتفي الولايات المتحدة بالانحياز إلى جانب «إسرائيل» في المفاوضات التي جرت برعاية الأمم المتحدة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، بل تمنّعت، بعدما وعدت، عن رفع الحظر الذي فرضته بموجب «قانون قيصر» على سوريا، الأمر الذي حال دون تنفيذ استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
الحدثُ الثاني، حقائق أدلى بها ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى والباحث العائد إلى «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في ندوة عقدها يوم الجمعة الماضي المعهدُ المذكور عبر تطبيق Zoom تحت عنوان «ديناميات حزب الله والشيعة وانتخابات لبنان: التحديات والفرص والتداعيات السياسية». شينكر كشف، بالصوت والصورة، عن دور إدارة الرئيس ترامب في تسريع حصول الانهيار المالي في لبنان، وعن تفاصيل مشروع الاستثمار في «المجتمع المدني» ولاسيما خلال الانتخابات البلدية سنة 2016، وعن الاستثمار بخلق «قوى بديلة» وزرع رجال أعمال شيعة معارضين لحزب الله، وعن فرص اقتصادية للمناطق الشيعية، بغية إضعاف اعتماد هذه المناطق على حزب الله . غير أن أبلغ ما كشفه شينكر قوله: «لا أرى أن الانتخابات ستغيّر الوضع بشكل دراماتيكي، لأن المعارضة منقسمة بشكل مريع وتغصّ بالقادة النرجسيين والشخصانيين المهتمين أكثر بأن يتزعموا أحزابهم بدلاً من أن يتوحدوا للإطاحة بالنخبة الفاسدة، ولا أعتقد أن على الإدارة الأمريكية أن تراهن على هذه الانتخابات».
ما كشفه شينكر يطرح أسئلة ملحاحة: لماذا جرى عقد الندوة قبل يومين من الانتخابات؟ وهل لإدارة الرئيس بايدن علاقة بذلك؟ وهل ما كشفه شينكر تمّ بالتفاهم معها؟ وهل أن المقصود إحداث اضطراب سياسي وأمني يؤدي إلى تعطيل الانتخابات؟ ايّاً ما كان الأمر فإن ملابسات الانتخابات، قبل ما كشفه شينكر وبعده، تؤكد حقيقة بازغة أن انتخابات لبنان هي للتعبير فقط وليس للتغيير.
كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية