انتخابات العوالم اللبنانية الموازية

حجم الخط
1

تفرض الكتابةُ عن استحقاقٍ انتخابيّ وصناديق الإقتراع لم تقفل بعد الكثير من الإحتراس والتحسّب والحذر.
إلا أنّه يظهر من مشاهد يوم الانتخاب المبثوثة أنّ مستوى التعريض بحقوق وحريات شرائح من الناخبين أضف إلى شريحة من المرشحين والمندوبين تجعل من هذا الاستحقاق، والى حد كبير، هو الأقل حرية ونزاهة على هذا الصعيد، مقارنة بالتجارب الانتخابية الثلاث التي أجريت في أعقاب جلاء قوات الوصاية السورية عن لبنان.
لقد أظهر هذا الاستحقاق بوضوح المنسوب العبثي من حصول انتخابات في بلد لا حاكمية للقانون فيه على كافة أراضيه، والدولة شديدة المركزية ومتفاوتة الحضور في آن بل نافرة الغياب، والأُمرة ليست لها، والسيادة من غير صفاتها، وان كثر تداول ملفوظ السيادة على الألسن وفي الخطابات.
بل هي دولة خاضعة لأكثر من نفوذ إقليمي ودولي في وقت واحد، تتحايل على نفسها لأجل خدمة مرجعيات النفوذ الإقليمي والدولي المختلفة، المتفاوتة من حيث القوة والخطورة وشكل الضغط، ولو أن النفوذ الإيراني يتميز عما عداه باختلاطه بظاهرة مؤدلجة، بأيديولوجيا «فوق أيديولوجية» لأنها أيديولوجيا ثورية دينية تنظر الى إيران نفسها على أنها دولة الثورة الدائمة المهدوية، المذهبية والأممية في آن.
يأتي استحقاق 2022 الانتخابي، قبل أشهر من انتهاء مدة الرئيس ميشال عون الدستورية، ليظهر عمق بل ضراوة الانقسام الكياني اللبناني الذي لم يعد قابلاً لا للردم ولا للتجسير، بين لبنان الممانعة ولبنان الأنتي ممانعة.
فبدلاً من أن يسهم تهافت ثنائية ائتلافي 8 و 14 آذار في تمييع هذا الانقسام الضاري، رأيناه يتفاقم ويتمادى عاماً بعد العام. وبدلاً من أن تسهم الكارثة الاقتصادية والمالية التي تسببت بها بشكل أساسي النواة المصرفية من الأوليغارشية المالية بالتواشج مع الإنفاق الحكومي الجنوني لدولة المحاصصة والغرق في الاستدانة، في «تنويع» جدول أعمال الساعين في سبيل انتشال البلد من هذه الكارثة، سارت الأمور، ولو من بعد تعرّج أو تحايل على الذات أو فوضى تكتيكات الى حيث المربّع الذي لا مربّع يضاهيه، في بلد باقتصاد مدولر من دون تغطية دولارية، وغير قادر على إعادة التحرك اقتصادياً من دون عودة الرساميل للتدفق إليه، ومن دون عودة الأفق للحركة الاقتصادية وللاستثمار فيه، وكل هذا محال في ظل تحكم «حزب الله» بمفاصله، سواء برضا أقسام من الأوليغارشية المالية أو بشكواها منه. وبالتالي كل شيء سيعود ويغذي القسمة حول «حزب الله» والاصطدام به، وان كانت هذه المرة قسمة من دون الضوابط التي كانت توفرها ثنائية ائتلافي 8 و14. لا يعني هذا أن هذه الثنائية اختفت كلياً، بل اضمحلت، أو بالأحرى اندثرت صيغتها السياسية واستمرت في الصدور.
ظهر في انتخابات الأمس انقسام المشهد بين المناطق. في بيروت وجبل لبنان والشمال التهمة التي يتراشق بها المرشحون هي في عدم رفع الصوت كفاية ضد حزب إيران المسلح. معيار «التخوين» في هذه الحالة هو قلة الباع أو قلة الصدقية في مواجهة الحزب. ولأجل هذا، مرشحون لم يعرف عنهم أنهم من الصناديد ضد الخمينية المحلية رأيناهم بين ليلة وضحاها يطالبون بتسليم بل «لمّ» سلاح الحزب، على جناح السرعة.
أما في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع الشمالي، في مناطق النفوذ السلاحي المباشرة، بمعيار التخوين هو بشكل معاكس تماماً. اذا كنت تطعن بأحقية وديمومة هذا السلاح. ومعيار التخوين هنا اذا تجاوزت النقد الاقتصادي الانمائي للثنائي أمل وحزب الله وهدّفت على الحزب. وبطبيعة الحال، التخوين عندما يقترن بهالة السلاح ليس كالتخوين في المقلب الآخر الذي يجري فيه التسابق على البراء من مهادنة السلاح.

لقد أظهر هذا الاستحقاق بوضوح المنسوب العبثي من حصول انتخابات في بلد لا حاكمية للقانون فيه على كافة أراضيه، والدولة شديدة المركزية ومتفاوتة الحضور في آن بل نافرة الغياب

في الموازاة، يمكن أن ينظر الى هذه الانتخابات من زوايا ثلاث.
أولها ما الذي يمكن أن تحققه اللوائح المتنسبة الى انتفاضة 17 تشرين.
مشكلة هذه اللوائح أنها تتعامل مع هذه الانتفاضة بل «الثورة» كما تسميها كما لو أنها مستمرة، رغم انكفاء الحركة الشعبية في الشارع بالتزامن مع بدء «حجر الكورونا» دون أن تخرج من هذا الحجر، الا على نحو محدود بعد انفجار 4 آب الكارثي الذي أتى على المرفأ وأحياء بكاملها شرق العاصمة، أضف لأيام من الغضب بخلفية شعبية اجتماعية، في طرابلس، أمكن عزلها وقمعها، دون أن يحرك ذلك ساكن المجتمع اللبناني مأخوذاً ككل، بل ظهر أن طبقات المجتمع المفقرة على نحو فجائي لا تزال غير قادرة على التفاعل بوحدة حال كفاحية مع طبقة «الفقر المدقع المزمن». لوائح 17 تشرين قامت اذا على مكابرة تأسيسية. المكابرة على انقطاع الحركة الشعبية. لكنها في المقابل قامت على ادراك بأن النقمة الشعبية لا يمكن أن لا يكون لها أثر في الصناديق. بين هذين الاعتبارين، بين المكابرة والإدراك، أخذت هذه اللوائح شكل «شعبوية نخبوية». من جهة، تعظيم لثورة الشعب. ومن جهة استمرار رؤية الشعب ثائرا حتى وهو غائب. تارة هيام بحركة الجموع في الشارع، وتارة تشدّق بالدور السحري بل المسحور للنخب التكنوقراطية وأصحاب الكفاءات «المجمركة» أكاديمياً. يبقى أن تهلهل 14 آذار، في مقابل تعمق الانقسام المجتمعي حول حزب الله، يزود الحالات المتنسبة لانتفاضة 17 تشرين بطاقة أكيدة. هذا بانتظار ما ستفصح عنه الصناديق.
الزاوية الثانية، وربما يمكن استبيانها بسرعة أكبر، بالتزامن مع قراءة هذه السطور، هو انكفاء حاسم للحالة العونية الباسيلية، وتحول معظم رصيدها البرلماني المتبقي لمقاعد يلعب غير المسيحيين دوراً اساسياً في اختيارها، هذا بعد سنوات طويلة جعلت فيه الحالة العونية من مطلب حصر مقاعد المسيحيين بمن يختارونهم هم مطلبها الأثير.
انكفاء الحالة العونية يمكنه أن يحدث مفعولاً مزلزلاً قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية المرتقبة وسيطرح السؤال بشكل أو بآخر هل يسقط مع هذا الانكفاء مبدأ انتخاب الأقوى شعبياً بين المسيحيين رئيساً، ذلك المبدأ الذي اصطنعه العونيون أيضاً، حتى عندما لا يعود هذا المبدأ مجنداً لصالحهم؟ ثم من يكسب أكثر من الانكفاء العوني؟ القوات اللبنانية أم الفسيفساء «المجتمع مدنية – الأعيانية» التي نجح حزب الكتائب في الامتزاج بها؟
الزاوية الثالثة، هي «المسألة السنية». رغم كل الضغوط والجهود لرفع المشاركة السنية في الاقتراع، الا أنه لم يكن بالمستطاع تفادي آثار تعليق سعد الحريري النشاط السياسي والانتخابي لتياره وايثار معظم قيادات الصف الأول في الطائفة السنية القيام بالمثل. لن يكون سهلاً التعامل مع برلمان يعاني نوابه السنة من ضعف تمثيلي تكويني. والمشكلة هنا مزدوجة بحق. فثمة بالطبع النزق المتعلق بتيار المستقبل وتخبطاته، لكن هناك مشكلة تعاطي بقية الطوائف، أو «بالمشبرح» الشيعة والمسيحيين مع الطائفة السنية. هناك ما هو استبعادي لها في هذا التعاطي، وهناك مفارقة تلاقي إيراني سعودي على توفير الظروف الملائمة لهذا التعاطي الاستبعادي. من جهة لأن إيران تتحرك بمشروع إيديولوجي في المنطقة قدر ما هو مذهبي، ومن جهة لأن هناك اعتقادا بأن سعد الحريري فرّط بالمواجهة مع إيران وبدلاً من أن «يربط النزاع» مع حزبها في لبنان، بات أسيراً له ولحالة عون.
بالمحصلة، هناك مسألة سنية، جانبها الآخر في المجتمع، كون الهرم الاجتماعي داخل هذه الطائفة هو الأكثر تفاوتاً بين حال أوليغارشيي الطائفة وحلقة المستفيدين منهم وبين المنتمين للطبقات الشعبية، بل الذين يرزحون خاصة شمالاً، في فقر مدقع ومزمن سابق على الأعوام العجاف الحالية.
البرلمان الجديد سيعكس بالمحصلة كل هذه الزوايا في الوقت نفسه. أزمة التمثيل السني، تحولات التمثيل المسيحي، الطابع غير الديمقراطي للانتخابات في مناطق «حزب الله» الطاقة المتأرجحة المنبعثة من أثر 17 تشرين. كانت بحق انتخابات لعوالم لبنانية موازية، ولو في منحسر ترابي مزدحم وضيق، متفاوت في القدرة على التنشق بحرية.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Passerby:

    انتظر دكتور وسام حتى يتم إعلان النتائج وسوف ترى العجب العجاب.

إشترك في قائمتنا البريدية