رشا جليس تستظهر علاقات القوة والمعرفة بالاستراتيجيات النقدية

عن دار فضاءات في الأردن صدر للباحثة رشا عبدالفتاح محمد جليس هذا العام 2022 كتاب بعنوان»سلطة الفكر النقدي الأدبي عند العرب حتى القرن السابع الهجري.. قراءة جديدة»، وقد أخذ الإصدار سياقا منهجيا أكاديميا في تناوله لموضوع البحث، حيث تضمن إضافة إلى المقدمة والتمهيد، أربعة فصول، كل فصل توزع على ثلاثة مباحث، باستثناء الفصل الأول الذي انتظم في مبحثين.
في مقدمة الدراسة تشير جليس إلى أن الفكر النقدي عند العرب انبثق عن خطابين: خطاب شعري، وخطاب قرآني، وهنا طرحت سؤالين مركزيين، الأول: كيف يمكن تتبع مسار هذا الفكر الجديد الذي تأطر فعليا باستحداث الوسيط الكتابي في منتصف القرن الثاني، أي عصر التدوين النقدي الذي تنطلق منه هذه الدراسة، وصولا إلى القرن السابع الهجري؟ السؤال الثاني: كيف يمكن أن تظهر تجليات المعرفة وتحولاتها داخل المنطوقات اللسانية الشفوية والمدونات والمفاهيم النقدية التي تصاغ بعناية تامة في النظام المعرفي الداخلي، أو بتأثير قوى معرفية وأنظمة خارجية أخرى؟

ماهية السلطة وعلاقاتها بالمعرفة

تأتي تساؤلاتها لتأكيد أهمية ما تتناوله، ذلك لأنها تصبو إلى كشف واستظهار علاقات القوة والمعرفة بالاستراتيجيات والممارسات النقدية التي اتخذها النقاد، وبناء عليها تأسست أهم النظريات والمفاهيم النقدية داخل خطاب النقد العربي، انطلاقا من السؤال عن ماهية السلطة وعلاقتها بالمعرفة، وفقا لصيغتها وطبيعتها الإنتاجية لا التملكية. وتضيف جليس بأن هذه الدراسة تهدف إلى تحليل تلك القوة المركزية والهيمنة المعرفية التي أنتجها ظهور الإسلام، حيث خلق خطابا واحدا جعل جملة من الخطابات الداخلية والمفاهيم والتشكيلات الخطابية والممارسات النقدية تنضَمُّ تحت لوائه وهيمنته وتدور في فلكه، لكنها تضيف أن الإشكالية في هذا الموضوع تتباين منهجيا، موضحة في هذا الشأن أن الكثير من المصادر تحفل بقراءات عديدة للخطاب النقدي، والإشكالية هنا تتركز من وجهة نظرها في اعتماد هذه المصنفات طريقة تحليل تاريخ الأفكار فيما يخص الخطاب النقدي، وانها كانت ترمي إلى التحليل والمناقشات الوصفية أو التاريخية بخط زمني متسلسل، بعيدا عن إجراءات تحليل الخطاب واستراتيجياته الذي تتبناه دراستها في إصدارها هذا، أي أنها ركزت في بحثها على الحدث الانفصالي للفكر العربي، والمقصود به بزوغ الإسلام، مع الأخذ بعين الاعتبار فائدة هذه المراجع في حصر الأفكار، وجمع الآراء، لاسيما حول علاقة الإسلام بالشعر. ودعما لهذه الفكرة تورد عناوين مجموعة من الكتب سبق أن صدرت خلال السنين والعقود الماضية.

آليات السلطة الفكرية وعلاقات القوة

أقرت الباحثة بصعوبة البحث في آليات السلطة الفكرية، وعلاقات القوة وتشكلاتها في الفكر النقدي للعرب، موضحة بهذا الشأن أن مثل هذه المهمة تتطلب الحفر المعرفي العميق داخل طيات النظام الثقافي العربي والأنساق المعرفية ومراحل تطوره، لأجل الظفر بنتائج تحملها اللغة والعبارات المصاغة شفهيا أو كتابيا. ولكي تكتمل الفكرة وضوحا ترى الباحثة أن مفهوم السلطة يتجاوز ويتخطى كل ما هو سياسي، ومن هنا يصبح هدف الدراسة البحث في قوانين وآليات فكرية بكل تشعباتها المؤسسية داخل الخطاب النقدي، أي مؤسسات الدولة الدينية والاجتماعية والثقافية وأجهزتها المعرفية، ومن ناحيتها تجد أن الصعوبات ترتكز على تتبع المرحلة الزمنية التي تمتد لحوالي ستة قرون من التأليف النقدي.

تحولات الذهنية العربية

في مفتتح الدراسة قدمت سؤالا جدليا يناقش طبيعة تحولات الذهنية العربية تاريخيا، بدءا من الثقافة الجاهلية الأولى مرورا بقدوم الإسلام، وانتهاء بمرحلة التدوين والكتابة، وأوضحت أن الهدف من سؤالها يأتي في إطار إتاحة الفرصة للقارئ أن يتتبع الخط المعرفي للعقل العربي وقفزاته النوعية، الذي يستظهر من خلاله القوة المعرفية في الخطاب النقدي، فضلا عن قدرته على الوقوف زمنيا عند أبرز ثلاثة محاور رئيسية في مساره، المحور الأول (اللاوعي الجمعي في مجتمع القبيلة) ويذهب هذا المحور باتجاه تحليل النظام الثقافي العربي قبل الإسلام. والمحور الثاني (الإسلام والإنسان الجديد) يتناول مفهوم القطيعة التاريخية، أي تشكل نظام معرفي جديد تمثَّل بنزول الوحي وتكون حقيقة مجردة مطلقة وأثر قواعد النظام الجديد على السلوك وحرية الفرد .أما المحور الثالث (مؤسسات العقل الكتابية) فيُعنى باستظهار القفزة النوعية التي مثلها الفكر العربي، وكان النقد أحد أهم مؤسساته التي نفَّذت وظائف الخطاب، حيث بدأ التفكير العربي يشهد تطورا تجريديا أعمق في المعرفة من ناحية تناول الخطاب الديني والشعري، ودخول مرحلة التمثيل الرمزي والأرشفة التاريخية والتحليل الممنهج.

الخطاب الديني وتحولات قواعد المعرفة

في الفصل الأول من الدراسة، حرصت الباحثة على الوقوف عند طبيعة الخطاب الديني وتحولات قواعد المعرفة، لأن نزول الوحي في الجزيرة العربية مثَّل المفصل التاريخي الحقيقي للفكر العربي، ومن هنا ذهبت في دراستها إلى الكشف عن مجموعة شروط وجود هذا النظام والممارسات والاستراتيجيات التي بدأ الإسلام بصياغتها على المجتمع، لأن القرآن جسَّدَ دستورا معرفيا، أعاد صياغة العلاقة بين الفرد وواقعه، وسعى لإلغاء نظام القبيلة ومخلفاته الثقافية، وأوجد انطلاقة جديدة لعقل المسلم عبر اتصال غيبي لقوة مطلقة.

تحولات سلطة الإسلام على نقد الشعر

الفصل الثاني من الكتاب استعرض التصور النقدي لأثر الإسلام في الشعر والمتغيرات النقدية التي سعت إلى إعادة استرجاع الخطاب الشعري بصورة تمثيلية ورمزية عبر الكتابة والتدوين، انطلاقا من جزئية مركزية وهي التشكيل الاجتماعي الجديد، والوظائف والتقسيمات الاجتماعية والثقافية ومؤسسات الدولة التي بدأ يشهدها الأدب، والوظائف التي يمارسها النقاد والأفراد، بدءا من قاعدة الهرم وامتدادا إلى رأس السلطة السياسية، والدور الأهم الذي لعبه الوسيط التقني كفاتحة تحول ثقافي بفضل وأنظمة تسويق العلم وانتشاره، ما كان له العامل الأكبر في استظهار الأنشطة النقدية التي بدأ يشتغلها الناقد، واستكمالا لهذه الفكرة توقفت الباحثة عند أبرز النماذج النقدية منها ما أثاره اللغويون من سيادة على النص الشعري، وفق ما نشهد في المساجلة النقدية بين ابن الأنباري وابن المعتز. ومنها ما ناقشت ثنائية القِدَم والحداثة في وساطة القاضي الجرجاني، وأخبار أبي تمام عند الصولي ، ومنها ما عالجت إشكالية الصدق والكذب عند ابن رشيق القيرواني، ومنها ما خُصَّ بالدفاع عن الشعر عند عبد القاهر الجرجاني ضد الآراء التي ذمته ووسمته بالكذب والباطل أو ادَّعت ذم القرآن له.

 مناقشة الخطوط العريضة لأهم القواعد والشروط الخطابية في الشعر العربي وسنن العرب الواجب اتباعها، وعلى الشاعر الخضوع لها، والمتفرعة عن سيادة اللغة وسلامتها، أو عادات البداوة ومحددات الدين والعروض الشعري وانموذج القصيدة وهيكلها

علم الكلام والفكر النقدي

جاء الفصل الثالث من الكتاب ليتناول علم الكلام وأهم المجالات المعرفية في الخطاب النقدي الذي انبثق عن النظام الجديد (الإسلام) عبر الوظيفة التأويلية والاشتغال النقدي لفهم المعنى والدلالة للنص القرآني، وترتب على ذلك دخول وظائفه إلى الحقل النقدي، ومسألة اللفظ والمعنى، وإنتاجية الدلالة والتصورات النقدية، ودورها في صناعة مفاهيم الخطاب النقدي نحو: (المزية) و(النظم ). وقد عني هذا القسم بالتركيز على الفكر الاعتزالي والأشعري، نظرا لأهمية دورهما في بلورة مفاهيم النقد من وجهة نظر الباحثة، ومن هنا وقفت عند مفهوم عِلم الكَلام، والأسس الإبستمولوجية التي قام عليها الفكر الكلامي للمعتزلة والأشاعرة، وتحليل الفكر الاعتزالي عند الجاحظ والقاضي عبد الجبار.

الاتجاهات النقدية في الإنتاج المعرفي

أما الفصل الرابع فيعالج أهم الإجراءات والممارسات التي اتخذها الناقد لتنفيذ وظائف الخطاب وحمايته، وهي تمثل الأنشطة المعرفية المتبعة عند النقاد العرب بداية من الجيل المؤسس الأول وانتهاء بالقرن السابع، ووجدت الباحثة أنها تتفرع إلى ثلاث قضايا، الأولى وظيفة التأصيل في الفكر النقدي عند الأصمعي والجمحي لاستظهار أبرز الممارسات الإنتاجية التي اشتغلها النقاد الأوائل في سبيل سيادة سلطة الناقد وفرض رقابة على نقل ورواية الأشعار، وتتبع سلسلة إجراءات ووظائف تأصيلية متعددة، مثل التثبيت والوظيفة التقنية المتعلقة بالكتابة، وتفعيل سلطة الناقد ودورها في عملية أصالة النص الشعري في نماذج نقدية مثل الأصمعي وابن سلّام الجمحي.

والقضية الثانية مناقشة الخطوط العريضة لأهم القواعد والشروط الخطابية في الشعر العربي وسنن العرب الواجب اتباعها، وعلى الشاعر الخضوع لها، والمتفرعة عن سيادة اللغة وسلامتها، أو عادات البداوة ومحددات الدين والعروض الشعري وانموذج القصيدة وهيكلها، وتشكيل مصطلح (عمود الشعر) وتأثير قوته في (الشعر المُحدِث) وذلك باستقراء أبرز آراء النقاد الذين ناقشوا التيار الفكري التقليدي والمُحدِث وتحليلها مثل ابن قتيبة وابن طباطبا والآمدي والحاتمي والقاضي الجرجاني والمرزوقي وابن رشيق القيرواني. أما القضية الثالثة فتركزت على النظرية النقدية المهاجرة من الفكر اليوناني وتجلياتها في الفكر النقدي عبر نشاط الترجمة لكتاب «فن الشعر ومنطق أرسطو»، وتحليل أهم أنموذجين نقديين شَكَّلا فكرا نقديا مهاجرا من البيئة اليونانية وهما، قدامة ابن جعفر وحازم القرطاجني.
خلصت الدراسة إلى أن القوة المعرفية للإسلام أنتجت فضاء جديدا لمؤسسة الشعر ومن ذلك ثبات معيار الصدق الأخلاقي الذي يفضي إلى مفهوم الحق وحقيقة التوحيد الربوبي، وينافي معيار الكذب، ورأت الباحثة أن الضوابط الأخلاقية الانضباطية التي وضعها الرسول محمد حول الشعر اتسمت بالبعد الواقعي، كما أعادت توزيع قوى السلطة الخطابية للشعر من جديد للهجوم على المشركين، باعتماد آليات خطابية سابقة وإعادة توظيفها مرة أخرى باستخدام الهجاء في الأنساب ونظام القرابة بوصفه استراتيجية خطابية. كما بينت أن سلطة الخطاب المعرفي اليوناني على النقد العربي كانت تخضع لسيادة الشعر العربي، وتأثير قوة خطابه التي جعلت النقاد يتعاملون مع الفكر النقدي اليوناني بصورة تخدم الشعر العربي.

«سلطة الفكر في النقد الأدبي عند العرب حتى القرن السابع الهجري»: المؤلفة رشا عبد الفتاح جليس ـ إصدار: دارفضاءات / الأردن
الطبعة الأولى 2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية