لما طالعتني “الفضائية الفلسطينية” في الصباح المبكر من الأربعاء 11 من مايو/أيار تخيلتُ أن إصابة الإعلامية الفلسطينية “شيرين أبو عقالة” هينة من عينة التي اعتادها بعض المراسلين من أمثالها، ولكن لما تبيتُ أنها في الرأس دعوتُ الله بالسلامة لها ولأمثالها من الذين يقفون على خطوط النار ليغطوا أحداثًا وفعاليات خطيرة ربما منذ سنوات طويلة تعدت العشرين مثل “شيرين”، فيما أولئك الجالسون في المكاتب الفاخرة الفخمة المكيفة يتقاضون الرواتب الضخام، ويحظون بالسؤدد والمكانة والأموال التي لا تكاد تحرقها النيران، وما هي إلا دقائق حتى أعلن شريط أخبار قناة السلطة وفاة الراحلة “شيرين”، حينها عاودتُ نفسي معاتبًا لعدم تقديرها الموقف واستبعاد احتمالية تعديه لوفاة الراحلة، ثم رحتُ استصعب أن تكتفي “الفضائية الفلسطينية” بمجرد نشر النبأ دون قطع للإرسال واعتباره خبرًا عاجلًا يستحق الاهتمام، وقفز للذهن أمران لا يقلان خطورة عن بعضيهما أما الأول فهو وجه الراحل مراسل نفس القناة “طارق أيوب” في بغداد قبيل استشهادة في 9 من أبريل/نيسان 2003م عن 35 عامًا فحسب لما أراد “جورج بوش الابن” صرف الأنظار عن جرائم أرادها في ليلة استهداف فيها الراحل وغيره من الصحافيين، تذكرتُ “طارقًا” بابتسامته إذ يستقبل تلك الليلة في شبه خندق؛ وهو لا يدري أنها آخر ليلة له في الحياة، ثم نسيان الملايين له الآن، وتخيلتُ أن شيرين” ستلقى نفس المصير، رنَّ في أذنيَّ على الفور كلمات زوجته المحجبة الثكلى في نفس الليلة وهي تقول لنفس القناة التي طمأنتها على الفور إلى دعمها المادي لها مدى حياتها وصغارها الذين إن لم أدر عددهم الآن أو يذكرهم أحد فإن الله تعالى يدري ويحفظهم وأمثالهم ليوم الدين، قالت حفظها الله ورعاها بقدر إيمانها وثباتها: “ذهب طارق لمن لا ينسى ولا يموت، قد تنسون والمشاهدون، وقد تنسى الفضائية الأشهر فإن زوجي لدى الذي لا ولن ينسى حتى تزول الأرض والسماوات”.
أما الأمر الأخير فقد فرض نفسه عليَّ، فرغم أهميته القصوى فقد بدا لي خاصًا متلبسًا بكونه شأنًا عامًا أو العكس بالعكس؛ إذ كنتُ بمستشفى على مستوى أكثر من معقول ولكنها مستشفى على كل الأحوال، كنتُ أرافق إحدى مصابات الثورة المصرية التي تعاني منذ عام 2013م؛ واضطرتْ مؤخرًا لمجرد إخفاء أمر إجرائها لجراحة مخافة أن يطلق بعض رفاق الدرب (حينما كان دربًا وطريقًا قبل أن يغطس أكثر في مياه النسيان الراكدة الفاسدة) ألسنتهم متناولين مبررات تبرئهم الخائب الفاشل المستمر من المسؤولية حول جرحها المؤلم المتجدد، كنتُ أرافق “رفيقة الدرب” في رحلة معاناة قاسية متجددة سادسة بين القاهرة وإسطنبول عبر جراحة رجا الطبيب الكبير ربه أن تكون الأخيرة، وألَّا يتجدد الالتهاب عليها نظرًا للرصاص الحربي الذي استخدمه قائد الانقلاب وأعوانه ضد المتظاهرين في أول انقلابه، وشرب الإخوان المقلب ودعواتهم مناصريهم والديمقراطية لنزول الشوارع وادعاء أن لديهم استراتيجية لدفع الانقلاب، وهو ما تبين لاحقًا كذبه بالكلية بل بهتانه بالكامل؛ وأن السيسي وقادة الإخوان معًا ضحوا بمصر في سبيل معركة قاسية لا دخل للإسلام أو الدين بعامة فيها، وإن حشراه معًا، وأن المعركة في حقيقتها بين “الخيانة والغباء” أو “السيسي وإخوان 2013م”، مع اختلاف درجات الخيانة والغباء وتبادل بعض القادة من هنا وهناك بين الأمرين؛ وبالتالي نسبية الحق بين الجماعة والسلطة، وإن كان أميل للأولى لكن بقدر وليس على الإطلاق، وهكذا لم يقلد الإخوان أحد أساتذتهم خارج مصر الراحل “نجم الدين أربكان” لما انقلب الجيش التركي في 1997م عليه وهو رئيس وزراء فيما عرف بانقلاب المذكرات ففقط أرسلوا له قائلين له ما معناه: “انقلبنا والدبابات في الشوارع فانظر ماذا ترى؟”.
المعركة المقبلة
قال أتباع “أربكان” له نحن ملايين نقدر بالخمسة، سننزل الشوارع بأبنائنا ونسائنا، نقيم اعتصامًا مدنيًا، نشل أركان الدولة حتى تعود للوزارة، عرضوا عليه السيناريو المؤلم المؤسف الذي نفذه الإخوان في مصر لاحقًا بالغفلة وأخواتها بعد 16 عامًا، لكن الرجل السياسي المحنك وقتها قال بإيمان وإدراك ووعي سياسي وتضحية مطلقة: “لا تتراجع الجيوش ولنا سوابق في بلدنا على هذا، أعدوا العدة لمعركة مقبلة تكونون فيها أوعى وأكثر قوة ودعوني بمفردي لهم”، حذروه من أنه سيسجن فآثر أن يتحمل الألم بمفرده حتى أفرج أردوغان عنه لاحقًا ثم توفاه الله بطلًا مجاهدًا يحق أن يطلق عنه قيادي سياسي محنك.
رأيتُ في ذلك اليوم الذي وافق وفاة “شيرين” كيف يتخلى الأقران والصحاب ويبيعون في لحظة؟
وتذكرتُ كيف سرق بعضهم أموال علاج المصابة من قبل، رغم عدم لجوئها إليهم إلا هذه المرة، وكيف تجاوزوا لسرقة أموالها وإجراء جراحة فاسدة لها، وكيف يجدر بنا أن نعمد إلى باب جديد من أبواب الفقه المعاصر باسم: “فقه النوازل والمحن”، أو ما شابه لنعرف كيف نواجه فساد النفوس والأمزجة في هذا الزمان باسم الدين. ويبدو أن ما سبق لم يكن كافيًا لوفاة شيرين ولا حتى تذكر سيناريو أن آلافًا من الدولارات ستدخل حساب أقارب شقيق “شيرين” مقابل حياتها وأن المسؤولين في القناة الواصلين سياسيًا لن يعترضوا دبلوماسيًا على النحو الكافي، وأن ثمن رصاصة في رأس أو صدر أو قدم مجاهد أو مجاهدة لا تساوي أكثر من أوراق مالية كثيرة أو قليلة بحسب مصدر عملها أو أكل عيشها، وإن لم تكن تعمل بمثل هذه المؤسسات فإن لها وله ولهم الله تعالى، ولنتذكر أن نحو 55 صحافيًا قتلهم الكيان الصهيوني الغاصب منذ عام 2000م فحسب ولم يهتم بهم (مجرد اهتمام) أحد لفترة مناسبة فحسب.
فقه النوازل والمحن
لم يكن ما سبق كله كافيًا إذ انبرى السادة العرب المدعين الانتساب إلى الإسلام متفرغين لمعركة أخرى من معارك الموتى، وكنا قد أعتدنا هذا النوع من المعارك في مصر منذ يوليو/تموز 2013م عبر وفاة الكتاب والفنانين والصحافيين وأحيانًا المغنين أو أشقائهم ممن نافقوا الانقلاب أو وافقوهم، إذ ينتقم منهم الأساتذة الفاشلين في الدنيا بالحكم بإدخالهم جحيم الآخرة، ولعل لهذا حديثا آخر وسياق مستقل قريب، لكن “شيرين” نقلتنا لأفق آخر، إذ تفرغ بعضنا لإدخالها الجحيم هذه المرة لأنها غير مسلمة، وللحقيقة فإن مثل هذه المقولة تستحق إدخالها فقه النوازل والمحن المقترح بجدارة، فمن المعروف أنها كانت مسيحية، ولكن من المعروف أن طلب الرحمة لا يعني أن أحدنا حكم لها بما لا يجوز إلا لله تعالى الحكم به، ولكن الشيخ يوسف القرضاوي (حفظه الله) ترحم على البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005م قائلًا: “وندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه؛ بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية وما خلّف من عمل صالح أو أثر طيب” ولم يكن العلامة القرضاوي ينطق من فراغ، وإن كان هناك آراء تخطئه فإننا سنترفع هنا عن القول بأن الأمر مرد نزاع واختلاف، أو أن نوافق مذيع القناة الأشهر وهو يدخل إلى المدينة التي حوت قبر الراحلة بموافقة لا نجزم أنها لم تصدر عن سلطة الاحتلال، وذلك فقط ليقرأ الفاتحة على قبرها كطقس رآه مناسبًا للبطولة على حساب الراحلة، وبالطبع كان ذلك أمام كاميرا القناة، وأمام هذا وذياك سنعلن أننا كعرب لا نعترف بالرحمة بلا سقف أو حدود لمن نحب ونهوى، وعلى الأكثر يوافق رؤيتنا وقناعاتنا ومواقفنا من الصالح العام وأكل العيش أو الانتماء السياسي على الأكثر، وإننا (إلا مَنْ رحم الله تعالى وندر) نتاجر بالمواقف والمهازل ولا نصلح لعمل جماعي بحال من الأحوال في هذه الفترة المضنية العصيبة الأليمة من تاريخ الأمة، والتي لم تمر بمثلها منذ جاءت للوجود، وإلا فكيف لكثير من النوّم الذين تعبوا من الملذات والجري وراء المساخر النائمين ساعة قتلت شيرين أن يحكموا عليها بالجحيم، ولماذا لم يكتفوا بأن يكفوا ألسنتهم عنها .. مجرد صمت عن مصير لا يتحكم فيه وفي مصيرهم إلا الله تعالى؟!
إننا كعرب نفقد إنسانيتنا قبل غيرها في هذه الفترة المذهلة ويبدو أننا على موعد مع ما هو أسوأ مستقبلًا؛ وساعتها لن ينفعنا القول الخائب من مثل إن كتائب إليكترونية بثها العدو الصهيوني بيننا للوقيعة بين ترحمنا على الراحلة أو الاعتراك حولها فإن فينا ما يكفي وزيادة لإشعال المعارك لكن بين أنفسنا وبيننا وليسلم منا العدو دائمًا أو كما قال الشاعر المبدع “كريم العراقي”: “كل السكاكينْ صوبُ الشاةِ ..راكضةٌ لِتطُمئنُ الذئبَ ..أن الشملَ ملتئمُ”!
كاتب مصري
اتذكر قول الشيخ القرضاوي خلال الانتفاضه الثانيه علي ما أظن انه قال حول مراسلين الجزيره مثل شيرين و العمري و غيرهم علي انهم يؤدون واجبا وطنيا عظيما لتغطيتهم احداث الانتفاضه و هم يعرضون انفسهم للموت في سبيل نقل الحقيقه للمشاهدين و قد صنفهم بالمجاهدين في سبيل الله