كابوس الركود التضخمي يطارد العالم شرقا وغربا. ويقف وراء الكابوس ستة محركات رئيسية، الأول هو استمرار تهديد فيروس «أوميكرون» وسرعة انتشاره، والثاني هو حرب أوكرانيا وعدم الوضوح بشأن مصيرها، والثالث هو ارتفاع أسعار الغذاء، والرابع هو ارتفاع أسعار الطاقة، والخامس هو استمرار اضطراب سلاسل الصناعة والإمدادات العالمية. أما المؤشر السادس والأشد خطورة فهو تراجع نسبة اسهام الصين في معدل النمو العالمي. وتشير التقديرات الأخيرة لصندوق النقد الدولي إلى أن هذه النسبة ستبلغ حوالي 29 في المئة من الآن وحتى عام 2027 مقارنة بنحو 40 في المئة خلال الفترة منذ عام 2008. هذا التراجع لا يعود إلى انخفاض معدل النمو في الصين بقدر ما يعود إلى التأثير السلبي للحروب التجارية وإجراءات المقاطعة الأمريكية. وقد أدى ذلك إلى تحول واضح في السياسة الاقتصادية الصينية للتركيز على تنمية الطلب الداخلي، بغرض تجنب الآثار الناتجة عن اضطراب الصادرات. وعلى الرغم من أن بعض الدول، مثل الدول الغنية المصدرة للطاقة قد تستفيد من ارتفاع أسعار المصدر الأول لايراداتها، فإنها ستدفع ثمنا فادحا لارتفاع تكلفة استيراد الغذاء والنقل وارتباك سلاسل الإنتاج والإمدادات العالمية؛ فلا توجد دولة في العالم، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، تتمتع بالحصانة في مواجهة كابوس الركود التضخمي.
تراجع النمو
وقد أظهرت مؤشرات الأداء الاقتصادي في العالم خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي ضعفا شديدا في النمو، خصوصا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، وتراجع معدل النمو في الصين، وهبوط سعر اليوان في الصين. وعلى الرغم من أن الصين سجلت نموا بنسبة 4.8 في المئة، فإن مؤشرات نمو الصناعة والخدمات ومبيعات التجزئة في شهر نيسان/أبريل سجلت هبوط حادا. ويشكك بعض المحللين في قدرة الصين على تحقيق معدل النمو المستهدف هذا العام بنسبة 5.5 في المئة. وخلال الربع الأول من العام الحالي بلغ معدل النمو في الولايات المتحدة 1.1 في المئة، وفي منطقة اليورو 0.3 وفي اليابان انكمش الاقتصاد بنسبة 0.2 وقال مكتب رئاسة الحكومة أن حجم الاقتصاد الياباني في نهاية اذار/مارس الماضي كان أقل عما كان عليه قبل جائحة كورونا بنسبة 0.7 في المئة.
وفي مواجهة كابوس الركود التضخمي الذي يهدد العالم اختلفت إلى حد كبير أولويات السياسة الاقتصادية. ففي الولايات المتحدة تعتبر السلطات النقدية أن هدف مكافحة التضخم وتحقيق الاستقرار المالي يتقدم على غيره، خصوصا بعد أن وصل التضخم إلى نحو ثلاثة أمثال المعدل الذي يستهدفه مجلس الاحتياطي الفيدرالي. أما في منطقة اليورو فإن المحافظة على النمو، وتوفير قوة دفع ملائمة يمثل أهم أهداف البنك المركزي الأوروبي الذي يخشى من أن يؤدي أي ارتفاع سريع لأسعار الفائدة إلى تهديد فرص النمو. وفي اليابان تعتبر الحكومة أن الهدف الرئيسي للسياسة الاقتصادية هو توفير الحوافز الملائمة للنمو وتجنب الأسباب التي قد تؤدي إلى تعميق الانكماش، ولذلك فقد أقرت البدء في برنامج للتحفيز الاقتصادي بقيمة أولية تزيد عن 20 مليار دولار.
أولويات السياسة المالية للصين
خلال العقد الأخير، منذ المؤتمر العام الـ 18 للحزب الشيوعي عام 2012 كان المحرك الرئيسي للسياسة المالية هو توفير قوة دفع عظيمة لتنمية الاقتصاد، بحيث يكون قادرا على توليد موارد إضافية للتنمية، تسهم في تمويل كافة القطاعات، خصوصا القطاعات التكنولوجية القائدة. وطبقا لما صرح به نائب وزير المالية الصيني في الأسبوع الماضي تشو هونغساي فإن الإيرادات العامة للميزانية حققت نموا خلال السنوات العشر الأخيرة بمعدل 6.9 في المئة سنويا، وتبلغ حاليا نحو 163 تريليون يوان (24.1 تريليون دولار) مقارنة بنحو 11.7 تريليون يوان عام 2012.
هذه الزيادة أتاحت للحكومة هامشا واسعا لتمويل الاستثمارات العامة بدون ضغوط على المالية العامة للدولة، وإصلاح النظام الضريبي بما يعزز تعميق الإنتاج المحلي، وتجنب اتساع نطاق الآثار الضارة لانخفاض وتيرة نمو الاستهلاك والإنتاج خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، بسبب إجراءات القيود الاحترازية لمكافحة فيروس «أوميكرون». وعلى العكس من كل الدول الصناعية المتقدمة فإن الصين تمكنت من إتاحة سيولة مالية كافية لتعزيز الاستهلاك والإنتاج، من خلال برنامج استرداد حصيلة ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض نسبة الاحتياطي القانوني للمصارف، وزيادة مخصصات تمويل البلديات وأجهزة الحكم المحلي وغيرها.
وخلال الفترة من 2012 حتى الآن بلغت قيمة الإنفاق المالي العام 193.6 تريليون يوان بمعدل زيادة سنوية يبلغ 8.5 في المئة، بما يوفر للصين الآن أرضية صلبة لبناء مجتمع حديث مزدهر، ارتفع فيه متوسط الدخل الفردي إلى أكثر من 12 ألف دولار سنويا وهو ما يتجاوز متوسط الدخل المحلي للفرد على مستوى العالم.
ويمثل نجاح السياسة المالية أحد المحركات الرئيسية للمحافظة على معدل النمو الاقتصادي المرتفع الذي حققته الصين خلال العقد الأخير، وزيادة قدرة الاقتصاد على تحمل الصدمات الداخلية والخارجية، مثل الحرب التجارية والتكنولوجية الأمريكية، وتداعيات وباء فيروس كورونا، وتأثير الحرب الأوكرانية. وسجل إجمالي الناتج المحلي للصين في العام الماضي نموا بنسبة 8.1 في المئة، ليرتفع إلى 114 تريليون يوان مقارنة بحوالي 11.7 تريليون في عام 2012 أي زاد بمقدار الضعف تقريبا خلال عشر سنوات. وبذلك ارتفع نصيب الصين من إجمالي الناتج المحلي للعالم إلى 18 في المئة مقارنة بنحو 11.4 في المئة عام 2012.
تراجع مبيعات التجزئة
واصلت أسواق التجزئة في الصين الانكماش في مؤشرات التعامل بسبب تداعيات فيروس أوميكرون في عدد من المدن والمراكز الحضرية.
وقد هبطت قيمة مبيعات التجزئة التي تعد المؤشر الرئيسي لقوة الطلب الاستهلاكية بمعدل سنوي يبلغ 11.1 في المئة في شهر نيسان/أبريل 2022 لتسجل 2.95 تريليون يوان (433.9 مليار دولار) طبقا لأرقام المكتب الوطني للإحصاء في الصين، وذلك بعد زيادة بنسبة 12.5 في المئة في العام الماضي. وخلال الفترة من كامون الثاني/يناير إلى نيسان/أبريل بلغت نسبة الانخفاض 0.2 في المئة مع تباين أداء كل من المبيعات في المحلات والمبيعات عبر منصات التجارة الإلكترونية. فقد زادت الأخيرة بنسبة 3.3 في المئة، لتحقيق رقم مبيعات بلغ 3.29 تريليون يوان تمثل 23.8 في المئة من المبيعات الكلية للسلع العينية في السوق.
وكانت سوق التجزئة في الصين قد شهدت نموا كبيرا خلال العام الماضي. ومن الظواهر الملفتة للانتباه في أرقام المبيعات أن الإقبال على شراء السيارات الكهربائية الجديدة في شهر كانون الأول/ديسمبر ارتفع بمعدل سنوي بلغ 129 في المئة مقارنة بالشهر المناظر من العام السابق بكمية بلغت 475 ألف وحدة، في حين زادت مبيعات الجملة بنسبة 139 في المئة لتصل إلى 505 آلاف سيارة.
وتتجه السياسة الاقتصادية هذا العام إلى التوسع في الاعفاءات والتخفيضات الضريبية لمساعدة الطلب والعرض. وتبلغ قيمة التخفيضات المتوقعة 2.5 تريليون يوان، تستفيد منها أساسا المنشآت الاقتصادية العاملة في ميادين الإنتاج. وتشمل جهود تنشيط السوق أيضا إجراءات مباشرة لزيادة الطلب الاستهلاكي تتضمن توزيع كوبونات مجانية للمواطنين لشراء نسبة من احتياجاتهم. وطبقا لبيانات وزارة التجارة الصينية فإن قيمة الكوبونات الموزعة على المواطنين في المحافظات الصينية المختلفة خلال الربع الأول من العام الحالي بلغت 3.4 مليار يوان. وتتوقع السلطات الاقتصادية أن تعاود سوق التجزئة النمو بمعدلات إيجابية اعتبارا من الشهر الحالي، ويشمل النمو سوق السيارات غير التقليدية.
العجز والمديونية
طبقا لأحدث تقرير عن الصين أصدرته مؤسسة «فيتش» للتقييم الائتماني في الشهر الماضي، فإن الصين قد لا تستطيع هذا العام تحقيق معدل النمو المستهدف بنسبة 5.5 في المئة، وذلك بسبب ضعف السوق العقاري محليا، وتباطؤ الطلب على الصادرات. وترجح فيتش أن تحقق الصين هذا العام بنسبة 4.8 في المئة، وهو معدل يفوق ذلك الذي قدره صندوق النقد الدولي بعد مراجعة حالة الاقتصاد العالمي في الشهر الماضي، إذ قدر الصندوق أن الصين ستحقق نموا بنسبة 4.4 في المئة مقابل 3.7 في المئة للولايات المتحدة. كذلك فإن تقديرات فيتش للعجز المالي في الصين تخالف تقديرات الحكومة الصينية بالزيادة إلى 5.8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي مقابل التقدير الرسمي بنحو 2.8 في المئة فقط. لكن تقرير فيتش يتضمن كل النفقات العامة بما في ذلك تلك التي لا تتضمنها الميزانية الرسمية.
التصنيف الائتماني للصين بدرجة A+ يؤكد من الناحية العملية قوة مركزها المالي. لكنها في الوقت نفسه يجب أن تحافظ على معدل نمو الاقتراض في حدود معدل نمو الناتج في السنوات المقبلة. وفي حال اتساع الفجوة بين معدل نمو الاقتراض ومعدل نمو الناتج، فإن ذلك قد يدفع مؤسسات التقييم الائتماني العالمية إلى إعادة النظر في تصنيفها. وقد ارتفع الناتج المحلي للصين في العام الماضي بنسبة 8.1 في المئة، في حين زادت قيمة الائتمان الذي حصلت عليه الحكومة بنسبة 7.5 في المئة فقط، ليصل إجمالي الدين الحكومي إلى ما يعادل 55 في المئة من الناتج المحلي.
ومع أن الصين نجحت إلى حد كبير في تقليل الأضرار الناتجة عن الركود التضخمي، بالمحافظة على معدل تضخم منخفض بلغ 2.1 في المئة في نيسان/أبريل مقابل 1.5 في المئة في اذار/مارس، وتحقيق معدل نمو يعادل تقريبا أربعة أمثال معدل النمو في الولايات المتحدة، فإنها ما تزال تحت ضغط مجموعة من العوامل السلبية المحلية والخارجية، مثل ضعف سوق العقارات، وتراجع الطلب الاستهلاكي المحلي، وإجراءات الاغلاق لمحاضرة فيروس أوميكرون، واضطراب سلاسل الإنتاج والإمدادات المحلية، وضعف الطلب على الصادرات، وهبوط سعر اليوان الذي خسر 4 في المئة من قيمته خلال الشهر الماضي. وتأمل السلطات الاقتصادية أن يتعافى الطلب الاستهلاكي في الشهر الحالي، بما يمنح قطاعات الإنتاج فرصة لتعويض الخسائر في الأسواق الخارجية.